|
مسرح |
دراسة جديدة تنسب ريادة المسرح التسجيلي إلى مصر بدلًا من ألمانيا
|
|
|
القاهرة 12 مارس 2024 الساعة 11:41 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
مِن المعروف أن رائد المسرح التسجيلي أو التوثيقى فى العالم المعاصر هو المسرحي والكاتب الألماني "بيتر فايس"، لكن فى بعض الأحياين تظهر حقائق مغايرة، إن لم تنسف الثوابت القديمة فعلى الأقل تُحرّض على إعادة النظر فيها.
ومن هذه الحقائق التى ظهرت لتزعزع الثابتة المذكروة آنفًا، الكتاب والدراسة المرفقة المعنّونة ب"بداية المسرح التسجيلي فى مصر، مسرحية الأزهر وقضية حمادة باشا نموذجا، تأليف أ.د. سيد علي إسماعيل: الكاتب المصري المُتخصِّص في الأدب المسرحي".
-
الصدفة التى قادت إلى وضع الدراسة
يقول الدكتور"سيد علي إسماعيل" أن الصدفة وحدها هى التى تسببت فى وضعه لهذه الدراسة، بعدما كلّفه الدكتور"سامح مهران، رئيس المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، المصري" بالعمل على إعادة نشر المسرحية "قضية الأزهر" ضمن سلسلة كتب تراثية يعمل المركز على إعادة طبعها. ولمّا وجد "سيد علي" قيمة المسرحية تاريخيًا، قرر وضع هذه الدراسة لتبيان حقيقة ريادة مصر للمسرح التسجيلى منذ بدايات القرن العشرين، بأدلة منطقية وتاريخية. وبالتأكيد ترافق هذه الدراسة النصوص الأصلية للمسرحية المتناولة.
تتناول الدراسة مسرحية "الأزهر وقضية حمادة باشا" المسرحية التى كتبها "حسن مرعي، ونشرها 1909".
وتحكي هذه المسرحية عن أول مظاهرة طلابية تحولت إلى اعتصام من طلاب الأزهر وداخل الجامع الأزهر. وحينها كان الطلاّب يعترضون على إدخال المناهج العلمية الحديثة إلى التعليم الأزهري بجابب التعليم الديني، وكانت حجتهم فى الاعتراض أن المناهج الجديدة هذه، لا يُراد منها إلا إضعاف المكانة الدينية والاجتماعية للأزهر فى مصر. وبالفعل اعتصم الطلاب شهرًا بأكمله داخل الأزهر، وهددهم الخديوى"عباس حلمي الثاني" بقطع المساعدات التى يتلقونها"الرواتب والجراية" لكنهم ظلوا على موقفهم وظلت الدراسة بالأزهر معطلة طوال الثلاثين يوما. وبعدها حدث وجُندَ الطلاب فى العسكرية بأمر من الخديوي أيضًا رغم أن تجنيد الطلاب أمرٌ مخالف للقانون، إلا أنهم بقوا ثابتين على موقفهم، فأحاط العسكر بقيادة"حمادة باشا" الأزهر والمعتصمين فيه وجُلد جميع المعتصمين وبعض الأساتذة والخطباء. وبالتأكيد كانت المسألة محور اهتمام الصحف يوميًا.
وقد كتب "أحمد لطفي السيد" حينها مقالات ذكر فيها كل أنواع التعذيب الذى تعرّض له طلاب الأزهر على يد حمادة باشا، مما حوّل القضية إلى قضية رأى عام، حيث انتقلت المظاهرات إلى خارج الأزهر وطلابه، وتظاهر العامة اعتراضًا على جلد الطلبة وتحيزًا لما يعتصمون من أجله. نجح المعتصمون فى النهاية بتنفيذ مطالبهم وألغي العمل بالمناهج الجديدة وظلت الدراسة فى الأزهر على حالها.
يعتبر الدكتور "سيد علي إسماعيل" أن هذه المسرحية لم تكن عملاً تاريخيًا حيث كُتبت من أكثر من قرن من الزمان، فحسب، لكنها بمثابة الكنز الذى سيُميط اللثام عن تاريخ مجهول لم يكشف عنه من قبل، يتعلق بالمسرح المصري.
لكن "سيد علي" لم يلق بحجر دراسته فى مياه الثوابت الراكدة هكذا اعتباطا، إنما ساق أدلة منطقية وبراهين تثبت أن مصر سبقت ألمانيا إلى المسرح التسجيلي أو التوثيقي الذى يعتمد على الوثائق والسجلات التاريخية وبخاصة المنشور منها فى الصحف، بعشرات الأعوام، منذ بدايات القرن العشرين. بعكس المسرح التسجيلى الألماني الذى بدأ فى منتصف ستينيات القرن الماضى فقط.
وقد حدد "سيد علي" المعاير التى على أساسها وضع وعالج هذه القضية، وهى ثلاثة معايير رئيسية.1_مؤلف المسرحية، وهو المسرحي حسن مرعي، والذى على الرغم من شعبية إنتاجه المسرحي فى عصره، إلا أن أخباره لم ترد إلا فى بعض صحف ودوريات عصره.
الأخبار التى عرفنا منها أنه ولد عام 1880، عمل كممثل شاب فى تياتيرو ألف ليلة وليلة. لكن جاءت أهم أعماله بعد مرحلة النضوج وقبل مسرحية "قضية الازهر" كتابته للمسرحية المهمة والمنشورة عام 1906، عن حادثة دنشواي بعنوان "صيد الحمام أو حادثة دنشواي" لكن الحكومة وقتها منعت تمثيلها على مسرح الأزبكية فطبعها فى كتب ووزعها على الناس. وبعدها بقليل تحايل على أمر المنع وطبع التذاكر وباعها سرًا لكن كُشف أمره واقتيد إلى قسم الشرطة لكنه لم يسجن إلا بضعة أيام بعد ثبوت عدم تعمده للنصب أو الاحتيال.
اختفت أخبار حسن مرعي لعدة سنوات وفى عام 1915، نشر خبر وجوده فى أحد مستشفيات الأمراض العقلية، وهرب منها بعدما تنكر فى ملابس سيدة، وبعدها عَمِل مع فرقة أخوان عكاشة وهم مَن ساعدوه بعد الهروب، وظل يتنقل بين الفرق المسرحية. فعمل فى مسرح الريحاني، ومسرح برنتانيا، ومسرح الماجستيك، وفى هذه المرحلة راجت أخباره الجرائد خاصة الفنية كمجلة "التياترو" التى أشادت بدوره فى هذه الفرق المسرحية المختلفة.
2_معيار مسرحيات الكاتب والتى مِن بينها المسرحية محل الدراسة. بالنسبة لمسرحيات حسن مرعي، للاسف فُقد الكثير منها حتى إن الأخبار لم تأت إلا على ذكر أشهر مسرحيتين وهما"حادثة نشواى، ومسرحية قضية الأزهر" المسرحية الأولى مفقودة والثانية يتناولها هذا الكتاب بالدراسة.
3_المعيار الثالث، وهو الحدث التاريخي المُتناول. فحدث مثل قضية الأزهر سُجّل ووُثّق على صفحات الجرائد، وفى البيانات الحكومية والتصريحات، وكلمة الخطباء فى المنابر، ووثق كعمل فني بين أيدينا لا يزال حيًا حتى الآن، لأنه كان الحدث الأهم فى فترته. ومن أهم الصحف التى تابعت الحادثة هى "اللواء، والمؤيد" والتى ذكرت فى النص المسرحي نفسه، وذكرت أسماء بعض الشخصيات الحقيقية والصحفيين الذى تباعوا الحدث، ومنهم "علي يوسف وسليم سركس".
أراد الكاتب بهذه الدراسة، تحديد إرهاصات المسرح التسجيلي فى مصر، وتحديد سمات هذا المسرح، وإيضاح الفروق الفنية بين الحدث التاريخي والإبداع الفني، وبالتأكيد لاستكشاف أسس المسرح التسجيلي بين النظرية والتطبيق.
المسرح التسجيلي هو المسرح التقريري، هو ذاك المُعتمد على التقارير والتسجيلات والمقالات الصحفية، والخُطب والبيانات والتصريحات من الشخصيات المعروفة، وأيضا من الأفلام والصور والبيانات الحكومية، وغيرها من وسائط الإعلام الموجودة فى عصر ما. فالمسرح التسجيلى يختار مواده مما تعرضه الصحف من الوقائع المجتمعية والسياسية.
رغم أن المسرح فى مصر خلال الفترة التى كتب فيها، حسن مرعي، مسرحيته "قضية الأزهر" كان مختلفا، فإما كان مترجما زإما كوميديًا. إلا أنه كانت هناك محاولة لبداية هذا المسرح التسجلي تمثّلت فى مسرحية بعنوان "أدهم باشا" التى تحكي عن حرب بين تركيا واليونان وانتهت بانتصار أدهم باشا القائد التركي وعليه مُثّلت المسرحية فى عام1897. المسرحية التى نتجت عنها شجارات بين اليونانيين فى مصر ومَن قاموا بتمثيل وتأليف المسرحية، وبعد تزايد تلك الشجارات مُنعت المسرحية أيضًا. لكن لم يستدل بشكل دقيق على ما إذا كان مؤلف هذه المسرحية مصري أم تركي.
وبما أن المسرح التسجيلى يعكس ويُعنى بالقضايا الاجتماعية والسياسية والقضايا العامة بالمقام الأول، ويُمثل الجانب النقدي لكل ما يثير الحفيظة الشعبية، فقد أضيف إلى قائمة المسرح الممنوع أو المرفوض رقابيًا. فكثيرة هى المسرحيات المرفوضة كما مسرحيات مؤلفنا "حسن مرعي" وكان الغرض من هذا المنع كبح تأجيج انفعالات الناس والتهييج السياسي بالحدث المُتناول، كما حدث فى مسرحية حادث دنشواي التى منعتها الحكومة والاستعمار.
يحدد لنا "سيد علي إسماعيل" ملامح المسرح التسجيلى، غير أنه مسرح تقريري يعتمد على التقارير الصحفية والوثائقية، إلا أن من أهم سماته هى معالجة تلك المادة الوثائقية بشكل فنى دون إدخال أدنى تغيير على المحتوى، فتكون القيمة الفنية بجانب الواقعة التاريخية.
ولكي يوفّق الكاتب بين هذين العنصرين لا بد من استخدام أساليب فنية معينة وكثيرة، كتنظيم الأحداث التاريخية، ووضع مقتطفات إخبارية فى توقيتات محددة جدا، والإطناب فنيًا لحدث مكثف وقصير واقعيًا، استخدام المنولوج والحلم، وتقنية الاسترجاع، والتصريح والتلميح. وكلها أساليب استخدمها "حسن مرعي، فى مسرحية قضية الأزهر" فكانت خير نموذج على الإثبات المراد.
ثمة نقطة مميزة تتمثل فى المسرح التسجيلي وهى "التصريح فنيًا" بما يُلمّح به إخباريًا. فمثلا فى مسرحية قضية الأزهر، كانت بالصحف التى تضمنت مقالات عن الاعتصام، تلميحات عن عدة قضايا أخرى تدور سيرتها بين الناس، مثل قضية خاصة بأموال أوقاف الأزهر والتى كان يتهم فيها العامة الخديوي باستبداله لأراضيه بأراضى الأوقاف هذه. لكن حسن مرعي كتبها بشكل صريح فى مسرحيته، وصرّح بأن أموال الأزهر تصرف على الفرش والمعمار لكن لا تصرف على المكتبة والكتب به مثلا. وكانت تلك أسباب إضافية لمنع المسرحية التى أججت الاحتجاجات السياسية والشعبية.
-
تطبيق النظرية قبل النظرية!
فى ستينيات القرن الماضي، صاغ "بيتر فايس" أول دراسة تنظيرية عن المسرح التسجيلي. وقال إن المسرح التسجيلي الألماني، عبّر فيه الكتّاب الألمان عن موضوعات لا ينظر إليها إلا على أنها جريمة من طرف واحد، كجرائم النازية، وجريمة مقتل جون كندي، وسياسة التفرقة العنصرية فى جنوب أفريقيا، وغيرها. لذا، وبحسب نظرية "فايس" فإن هذه النظرية تنطبق كليًا على أعمال "حسن مرعي" أول المسرحيين التسجيليين فى مصر، فالمسرحيتان الأشهر من أعماله "حادث دنشواي" و"قضية الأزهر"هما جريمتان من طرف واحد، إحداهما من الاحتلال الإنجليزى والأخرى من حمادة باشا قامع الطلاب.
أيضا هناك عنصران جديران بالملاحظة للتفريق بين المسرح التسجيلى الألماني والمسرح التسجيلي المصري. فقد كتب الكتّاب الألمان أعمالهم فى أزمنة وعن أمكنة بعيدة. فبحسب"بيتر فايس" على الكتاب فى المسرح التسجيلى عدم التواجد فى مكان وزمان الأحداث، بل عليهم أخذ موقف المراقب والمُحلل. وهنا السؤال النقدي الذى يطرحه"سيد علي" فى هذه الدراسة، هل الأجدى للكاتب الوجود فى قلب وزمن الأحداث ومعايشتها، أم يكتفى بالمراقبة عن بُعد؟ لكن بما أن هذا المسرح عموما والتسجيلي خصوصا يُعنى بالأساس بالقضايا السياسية والاجتماعية، فربما يكون من الأصلح للكاتب أن يكون جزءًا من نبض القضايا ليطلّع ويشعر بما يكتب.
فى النهاية، خلصت هذه الدراسة إلى أن المسرح التسجيلى المصرى وهو المسرح المرفوض رقابيا لأسباب سياسية واجتماعية وظهر فى مصر على يد رائده المسرحي "حسن مرعي" عندما كتب مسرحية "حادثة دنشواي 1906". كما أن مسرحية "قضية الأزهر" أثبتت أنها مسرحية تسجيلية لتطابقها مع تعريف المسرح التسجيلى وسماته كما عرّفتها النظريات.
|
هل لديك تعليق؟
الاسم : |
|
البريد الالكتروني : |
|
موضوع التعليق : |
|
التعليق : |
|
|
|
|
|
|
|
|
|