القاهرة 28 مايو 2024 الساعة 09:33 ص
بقلم: د. هويدا صالح
هل ثمة علاقة بين الإسلام والدين المصري القديم؟ هل يمكن مقارنة الدين القديم والأديان السماوية الأخرى؟ ما الذي يمكن أن يقدمه باحث يحاول أن يكشف تلك العلاقة السرية بين الدين المصري كدين وضعي، والأديان السماوية؟
هذا ما يناقشه كتاب "الإسلام والدين المصري القديم، دراسة مقارنة بين الدين القديم والأديان السماوية " لمحمد أبو رحمة، والذي صدر عن مكتبة مدبولي.
حاول أبو رحمة أن يدخل هذا العالم الشائك ويكشف عن تلك المقولات التي تأسس عليها الوعي المعرفي للمصريين وحاولوا نقله للشعوب المحيطة بهم، كاشفًا عن صعوبة هذه الدراسة، التي تعيقها أسباب كثيرة منها:
حداثة علم المصريات نفسه إذ لم يبدأ حل رموز اللغة المصرية إلا في القرن التاسع عشر، كذلك الدمار الذي لا مثيل له في تاريخ الإنسانية، الذي لحق بالمنشآت الحضارية المصرية من معابد وأهرامات ومقابر وأوراق البرديـ مما تسبب في فقدان مصادر حيوية في جميع المجالات. كذلك الافتراء والتشنيع بقلب الحقائق بغرض تشويه الحضارة المصرية، كذلك مما يصعب المهمة على الباحثين أن المصريين لم يتركوا كتابا مقدسا يشمل ما يمكن تعريفه بالدين المصري. كما أن غموض الأفكار التي يفترض البعض أن الكهنة المصريين قد تعمدوا إخفاء حقيقتها، كما تعمدوا أيضا تقديم أفكار بسيطة للعامة، واحتفظوا لأنفسهم بالأفكار الأصلية الحقيقية كان السبب في عدم معرفة الكثيرين بهذا الدين.
وعلى الرغم من كل ذلك بقيت نصوص دينية مصرية عديدة، منها ما هو مسجل على جدران المعابد والمقابر، ومنها ما هو مدون على أوراق البردي، كما أن هناك أيضا تعاليم كتبها حكماء وأدباء يمكن من خلال هذه النصوص أن نتوصل إلى بعض مبادئ ومظاهر وطقوس وعقائد المصري القديم.
وقد كان للدين المصري القديم دور مهم في تشكيل البنية الذهنية التي أسست للمجتمع المصري، فكان الإيمان بحياة أبدية (بعد الموت) يرتبط بالإيمان بمبدأ الحساب بما يتبعه من ثواب وعقاب، هو أيضا إيمان بمبدأ العدل الذي يمثله ميزان "ماعت"، أي الحق والعدل والنظام، مبادئ ثلاثة عظيمة جمعها المصري في هذه الكلمة "ماعت" الماعت في عرف الدين المصري هو نظام حق وعادل شمل الحياة كلها، الأولى والثانية، فلم يقتصر على العالم الآخر فقط، فميزان الماعت يزن أعمال الناس في الدنيا، ومن خلال ذلك يتحدد مصير الإنسان في الحياة الأبدية. فكان على المصري الساعي إلى نعيم الأبدية أن يتلزم بقوانين الماعت في الحياة الدنيا.
يحاول الباحث أن يدفع عن الحضارة المصرية القديمة ما لحق بها من أكاذيب وأشهر هذه الأكاذيب تلك التهمة التي أُلصِقَت برأس الدولة المصرية: الفرعون، من أنه كان قاسيا جبارا، طغى وكفر وبغى وأفسد في الأرض، حتى صار لفظ "الفرعون" يحمل كل هذه المعاني. يفرد الكاتب للرد على هذا الافتراء فصلا كاملا، ويورد من أقوال المؤرخين ومفكري الغرب مثل وول ديورانت صاحب "قصة الحضارة" وجيمس هنري بريستد صاحب كتاب"فجر الضمير" وجان بوتيرو صاحب كتاب "ولادة إله" و يارسلاف تشرني صاحب كتاب "الديانة المصرية القديمة" ما يثبت أن الملك المقصود في السورة التي تتحدث عن بني إسرائيل وخروجهم مع موسى بعد غرق الفرعون إنما هو ملك من ملوك الهكسوس، وليس رمسيس الثاني كما يُشيع اليهود حتى يلصقوا تهمة القتل والاستبداد بحكام مصر.
كذلك أفرد الكاتب فصلا تحدث فيه عن الديانة اليهودية وبعض جذورها التي تمّ نسخها من الديانة المصرية القديمة، في دراسة مقارنة بين المقولات الدينية المصرية التي وردت في البرديات وبعض المعاني التي وردت في التوراة.
وفي فصل ثالث يتحدث عن المسيحية، وأصولها وعلاقتها بالديانة المصرية القديمة، ويفتتح الفصل بآية من إنجيل "متّى" تتحدث عن المسيح وعلاقته بمصر، حيث تقول الآية:"من مصر دعوت ابني" إنجيل متّى.
حاول الكاتب أن يتقصى جذور نظام الرهبنة المسيحية الذي اخترعته الكنيسة المصرية، وعلاقته بالديانة المصرية القديمة. كما ربط بين وجود عيسى عليه السلام، وصفاته كرسول والآلهة المصرية القديمة متتبعا جذور الأسطورة المصرية التي تتحدث عن نظام الخلق، أسطورة "نوت" ربة السماء، و"جب" رب الأرض وكيف أنهما أنجبا أربعة من الأبناء هم "أوزوريس" و"إيزيس" و"ست" و"نفتيس"، ثم يروي لنا قصة مقتل أوزوريس على يد ست أخيه، وكيف أن زوجته إيزيس قد أعادته للحياة مرة أخرى، ويربط بين هذه الفكرة وعودة المسيح بعد الصلب أو ما يُسمى بالقيامة الأولى وهي أساس من أسس الدين المسيحي، إن فكرة أصالة البعث عند المصريين القدماء كانت دافعا لهم للإقبال على الدين المسيحي الجديد حينما دخل إلى مصر بعد أن أفل دينهم القديم، يورد قولا لوالاس بدج صاحب كتاب "آلهة المصريين" يؤكد فيه الأمر، إذ يقول:"حتى عندما اختفت في النهاية ديانة أوزوريس أمام ديانة المسيح الإنسان، نجد المصريين لم يرحبوا بهذه الديانة إلا لأنهم وجدوا النظام الفكري للعبادتين القديمة والحديثة متمثلا، وأن بكل منهما وعدا بالبعث"
وليس هذا فقط، بل ويربط بين الرمز المقدس للحياة المصرية القديمة "عنخ" وبين الصليب، واعتبر الباحثون الغربيون الذين تخصصوا في المصريات أن الأول(عنخ) أصل للثاني(الصليب). كما يربط بين فكرة "المخلص" التي وردت في ديانة أوزوريس الذي صار مخلصا للموتى وبين فكرة المخلص التي التصقت بالمسيح، حتى أقوال التلاميذ في الأناجيل المختلفة يعيدها الكاتب بالتوثيق المنهجي إلى أصلها المصري القديم.كما ربط الكاتب بين الثالوث المقدس في الديانة المصرية القديمة (أوزوريس وإيزيس وحورس) والثالوث المقدس في الديانة المسيحية (الأب والروح القدس والابن).
ثم يخلص الكاتب إلى الإسلام، في محاولة جادة وعميقة في استقصاء جذور بعض الأفكار في الإسلام التي تعود إلى الحضارة المصرية القديمة، يستقصي الكاتب ذكر مصر في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وأقوال العلماء والمفكرين المسلمين، يورد كيف نظر المصريون القدماء إلى كيفية خلق الإله لنفسه، وخلق العالم، وقصة الماء الذي خلق منه الإله المصري، وقصة خلق الله لذاته العلية والعالم في الإسلام، وقد أطلق المصريون القدماء على الماء الذي خلق منه الإله "نون"، فهل ثمة علاقة بين "نون المصرية" ونون التي وردت في القرآن الكريم "ن والقلم وما يسطرون"؟ ويذكر الكاتب حديثا رواه عبد الله ابن عباس عن خلق القدر والمصير وكيف أن "نون" أول ما خلق الله عز وجل.
ولم يقف الأمر عند بدايات الخلق، فشرح الكاتب نظرة المصريين للنجوم والقمر والنور، وحديث القرآن عن النجوم والقمر والنور، ، كما تتبع نظرتهم لخلق الإنسان والثواب والعقاب، ويوم الحساب، وليس أدل على ذلك من محكمة أوزير للميت، وريشة ماعت التي توضع على رأس المتوفي وأعمال المتوفي الذي يتم وزنه، فإن خف الميزان، فهو للوحش الذي يلقف قلبه، وإن ثقل الميزان، فتوضع ريشة ماعت على رأسه ويذهب للخلود ألا يذكرنا هذا بالآية القرآنية "فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه، فأمه هاوية وما أدراك ماهي نار حامية".
وهكذا يتتبع الباحث الدين المصري القديم، ويثبت بوثائقية ومنهجية محكمة علاقته بالأديان السماوية المختلفة.
يذكر أن هذا الكتاب طبع طبعة حديثة عن دار سنابل للنشر والتوزيع بالقاهرة بعد نفاد طبعة مكتبة مدبولي.
|