القاهرة 21 مايو 2024 الساعة 11:35 ص
بقلم: د. هويدا صالح
في سياق رد الاعتبار للهامش في الفكر والفلسفة والثقافة المعاصرة، زاد الاهتمام بالفنون الأدبية غير المركزية، مثل المذكرات واليوميات وأشكال السيرة الذاتية، فبعد انشغال النقاد العرب بفنون السرد المركزية، رواية وقصة، بدأ الالتفات إلى أهمية دراسة الأشكال السردية الأخرى التي تأخذ من السرد ومن فن السيرة بطرف، مما أتاح فرصاً حقيقية لكتابات متعددة من السير الشخصية والسير الروائية والشعرية والغيرية، واليوميات والمذكرات الشخصية، والمقالات السردية. ويأتي كتاب "نهارات فيينَّا" للكاتب السوداني طارق الطيب والذي صدر مؤخرا عن دار العين بالقاهرة، ليضفي مساحة جديدة على هذه السرود الهامشية. إن الكتاب تأريخ ذاتي للأنا العربية المعاصرة التي وُجِدت في بيئة غير بيئتها العربية، فتحاول أن ترصد في شكل "المقالات السردية" علاقتها بالآخر، بالمكان، بالزمان، بالتفاصيل الإنسانية، تحاول أن تقيم نصها الخاص في وجه الآخر، كما تحاول أن تتأمل بروية وأناة ثقافتها الخاصة التي تركتها هناك ما وراء البحار، وتقارن بينها وبين الآخر.
الكتاب عبارة عن مقالات في تأمل المشهد السياسي والثقافي العربي نشر في جريدة "الوطن" المصرية من أبريل 2012 وحتى مايو 2013، خمسة وخمسين مقالا نشرت أسبوعيا وبانتظام. تناول فيها الكاتب هذا الحس الاجتماعي السياسي بلمحة من " أخلاق الاقتصاد" التي تعلمها نظريا في جامعة الاقتصاد في فيينا وخبرها عمليا في الحياة.
كانت سلسلة مقالات متنوعة عن التدين واللاتدين وعن ضرورة الفن والعلم وعن المرأة الشرقية، مقارنة بينها وبين المرأة الغربية الحاصلة على كل حقوقها والتي تعيش في ثقافة الديمقراطية والمدنية اللتين تتيحان لها الحفاظ على هذه الحقوق، مقارنة بوضعية المرأة الشرقية التي تهمشها الثقافة الذكورية ولا تمنحها حقوقها كما ينبغي.
يركز الكتاب على فضح ثقافة العنصرية وعن البيئة المستباحة والإسراف في الموارد المادية والإهدار في الموارد البشرية وعن العادات الجميلة والمريضة والتقاليد المتبلدة وعن إهمال الطفل واللامبالاة بالنبات والجماد، وعن أولي الأمر وعن الأمل وخيبة الأمل.
قدم له الكاتب بمقدمة يمهد فيها علاقته بالزمان والمكان، وما هي الأسباب التي دفعته لجمع هذه المقالات في كتاب واحد: "في فيينّا عاشرت صنوفا من البشر، خبرت طقوسهم وعاداتهم، وتقاليدهم، وعشت همومهم وأفراحهم وأحزانهم، ومكرهم وطيبتهم، وتأملت الطير والحيوان وأوهن الكائنات، فرأت نفسي كائنا ضئيلا برأس يصر على غربلة العالم، فعشت أغربل بروية أكثر من ذي قبل، رأيت مدنا وقرى وسهولا وهضابا وجبالا وأنهارا أدهشتني، فتجددت طاقتي من دهشتي. تأملت عمارة فريدة لم أبخسها حقها أمام أهرامات عتيقة، فهذه عمارة للحياة، وتلك عمارة للخلود صنعها الأجداد عبرت من فيينا إلى عواصم أبعد وبلاد قصوى، ورأيت في الدنيا دنيا ملأتني وشحنتني بالحياة، لكن فيينا ظلت دائما مركز مداراتي الذي أعود إليه".
يتأمل الكاتب وهو في الجهة الأخرى من العالم عالمنا العربي وما فيه من تفاصيل، ورؤية الناس للأنا والآخر، ويقارن بينه وبين أوربا عموما وفيينا خصوصا، فقد أتاحت له حياته في الشرق والغرب أن يرى بنظرة أوسع، وأن ينشغل بالمقارنة بين ثقافتين من أجل نقل المعرفة، بل من أجل التغيير الذي يتمناه لوطنه الأم، وثقافته الأصلية.
يلفت الكاتب النظر إلى ملاحظة مهمة كاشفة ودالة على طريقة نظر المجتمع الشرقي للعلم والعلوم، ومدى تقديرهم للعلماء، وأثر ذلك على اهتمام الحكومات في مجتمعنا بالعلم والعلماء والميزانية الضئيلة التي تخصص للبحث العلمي: "ما لفت نظري أن المقالات التي تناولت فيها ضرورة العلم كموضوع بديهي ليس مضافا ولا استثناءً بل في مقام الفاعل والحال، وكذا الموضوعات التي تناولت فيها الأقباط كنسيج ينبغي أن يكون متناغما في وطن واحد بعيدا عن دعوات الخلاف والصياح الهستيري من المنتفعين أينما كانوا، ما لفت نظري أن هذه المقالات هي تحديدا التي تم إغفال ظهورها في أرشيف الجريدة في وقت لاحق، فاختفت عن كل راغب في الاطلاع، رغم أن ثلاثة منها قد نُشرت بالفعل. لا أظن سوءا، لكني أستغرب أن موضوعها المتشابه قد حسم حجبها".
يكشف في مقال "العلم شهيق وزفير" الذي نشر في سبتمبر 2012، وقام الموقع بحجبه من الأرشيف، عن حال العلم والتعليم في شرقنا العربي، وفي هذا المقال يستعرض حال التعليم في مصر في فترة الستينيات، ومدى اهتمام المناهج بالفن والعلم والترفيه، وحال التعليم في معظم بلداننا العربية الآن: "تتحول العملية التعليمية بمجملها تدريجيًّا ما بين تعليم خاص بمصروفات عالية يتركز في الغالب على تعليم اللغات الأجنبية، دون أن نحبب تلاميذنا في لغتنا العربية الجميلة. والأسباب أيضا منطقية ومفهومة، فمن ذا الذي يرغب في إرسال أولاده وبناته لمدارس عامة يعاني الأساتذة فيها من ضحالة المرتبات وشظف العيش، فلا يرغبون في التدريس ناهيك عن شكل المدارس والفصول والإمكانيات البائسة التي قد تقتل حتى الموهوبين" ولا يكتفي الكاتب في المقال بالحديث عن التعليم في بلادنا، بل يعرج في نهايته على التعليم في أوربا، قائلا:" الحالة الأوربية أيضا ـ رغم تطورها الكبير ـ تتجه في السنوات الأخيرة للنيل من حصص الفنون لصالح حصص البرامج المعلوماتية والكمبيوتر، وهذا توجه غير حميد، فإذا كان العلم هو الشهيق، فالفن هو الزفير، ولا يمكن أن نشهق طوال الوقت دون زفير والعكس".
حاول الطيب في مقالاته أن يكشف ـ من وجهة نظره ـ عن أمراض مجتمعاتنا العربية، وأسبابها. حاول كشف التابوهات التي تُفرض على المواطن العربي، وخطورة هذه التابوهات على خلق مواطن مدجن لا يستطيع أن يعارض السلطة، ولا أن يكون صالحا لتقبل الأفكار العالمية عن الحرية العقائدية والحرية الجنسية وبقية الحريات التي صارت جزءا لا يتجزأ من الثقافة العالمية: "هناك مقالة محجوبة أيضا من الظهور حملت عنوان(الجنس في المدارس)..نالت حوارات جانبية مباشرة مطولة معي من قِبَل معارضي الفكرة، باعتبار أن الحديث العلمي والموضوعي في الجنس يثير الغرائز، ويرفع غبار الذنوب ويسبب كل اضطراب وبلبلة، وبرزت الحجج الرافضة للأمر بصورة مخجلة فضحت صفحات من تفكيرنا الجمعي في موضوع "الجنس" حتى أصبحت تلك الكلمة مكروهة التناول جهرا ومقبولة الثرثرة بشراهة سرا".
وكما عرّى الكاتب المجتمع العربي وما فيه من ثقافة عنصرية وطائفية ورافضة، حاول كذلك أن يعرّي ما يراه سلبيا في المجتمع الغربي، فلم يقع الطيب في فخ النظرة الدونية التي ينظرها الشرقي حين يذهب إلى أوربا إلى ذاته، في مقابل إعلاء مرضي من ثقافة الآخر، فقد حاول طارق الطيب أن يكون موضوعيا حياديا في مقارناته طوال الوقت بين المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية في كثير من القضايا التي قام بتناولها. في مقال آخر بعنوان: "احترس.. إنها امرأة" يتحدث عن خطر التكنولوجيا، ونيلها من حقوق المرأة، ويسرد في حديثه عن التكنولوجيا وأخلاق الاقتصاد، ويذكر قصة عن استغلال التكنولوجيا في النيل من النساء، وكيف أن الشركات والمصانع كانت تعرف، عبر التكنولوجيا الخاصة بعمل دورات المياه، عدد دخول النساء لدورات المياه، وكيف أن هذا كان يشير إلى حملهن الذي يجعلهن يحصلن على إجازات وينلن إجازات مع الاحتفاظ بحق الوضع ورعاية الطفل، ويرى أن هذا ضد أخلاقيات الاقتصاد، وأن التكنولوجيا يمكن أن تستغل للنيل من حقوق الإنسان:"في أوربا يصير للعلم وجه آخر قبيح وخفي وقاس، يتصيد الحلقات الأضعف تاريخيا، والمرأة هنا المثال بجدارة، ليغدر بها ويسحقها، ويتم تحويل التكنولوجيا إلى"بعبع" ضد إنسانية العمل، لا سيما بعد وصول مخططي الاقتصاد الجدد في عصرنا الحديث، أصحاب "المدرسة الحذفية"، وهو مصطلح جديد اخترعته ليناسب عصر المعلوماتية، يصمم فيه هؤلاء الجهابذة بقلب بارد غير إنساني حذفا لكل" مَنْ" لا يشكل إيرادا ملموسا، مجرد خطة حسابية تراعي الأرباح المادية والمنافع المعنوية وتهتم جيدا بـ "عصر الناس" عصرا حديثا. التكنولوجيا بدون أخلاق تتحول، بفضل حمق العلماء، من كلب أليف يحرس إلى كلب مسعور يعقر لمصلحة آخرين غير مرئيين!".
|