القاهرة 07 مايو 2024 الساعة 11:11 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
وصلت رواية الكاتب المغربي عيسى ناصر بعنوان "الفسيفسائي"، والصادرة عن دار مسكلياني، إلى القائمة القصيرة بجائزة البوكر العربية 2024. وهى رواية كما يبدو من اسمها فسيفسائية البنية والسرد.
رغم أن الرواية فى كل مواضعها تتحدث عن فن ولوحات الفسيفساء إلا إنى أعتقد أن السبب في تسمية الرواية بهذا الاسم أكثر هو من هذا، وهو أن كتابة الرواية بحد ذاتها ماهى إلا لوحة فسيفسائية البنية والسرد، قطع صغيرة من روايات ثلاث، توضع بفن وحرفية عالية فى مكانها الصحيح لتكمل فى النهاية اللوحة الكبيرة. رواية الجميع فيها كتّاب والجميع فيها فنانو فسيفساء.
من القطعة الفسيفسائية الصغيرة الأولى وهى جريمة القتل التى سيطابق المحقق عناصرها مع حبكة رواية يقرؤها بالصدفة ليصل إلى القاتل الكاتب. فى الحقيقة رواية الفسيفسائي هى ثلاث روايات لرواية واحدة. كل رواية لمؤلف وزمان مختلف لكن المكان واحد. ولكل رواية أبطال سوف يرون حكايتهم المستقلة التى جمعها أحدهم بطريقة ما لتصير وحدة واحدة.
-
"ليالي وليلي، أرديانا، وجواد"
الرواية الأولى"ليالي وليلي" الزمن تسعينيات القرن الماضى، المؤلفة الإيطاليه "أريادنا نويل" زائرة منطقة وليلي الأثرية بالمغرب والتى أغرمت بفن الفسيفساء المغربي بعدما رأت لوحة فسيفسائية فى محتف اللوفر، وأرادت أن تكتب رواية تستند على هذا الفن. وفى رحلتها قابلت "جواد" المُعلّم المؤلف أيضا، وبالمصادفة التى سنكتشف زيفها فيما بعد، كان قد أبرم اتفاق مع مجهول بأن يكتب له، ككاتب ظل، رواية تاريخية عن المنطقة الأثرية التى بات يقطنها "وليلي الأثرية" وأعطاه مفاتيح القصة عن السيدة السمراء الجميلة التى كان يحلم بها كل ليلة منذ أول ليلة سكن فيها بيت وليلي. وكلاهما سيحكى للآخر مغزى روايته، عرف جواد أن أرديانا تكتب عن الفسيفساء أما هو فيكتب عن الفتى الموري. وفى هذه الرواية سنرى كيف أن السرد جعل من مذكرات أرديانا التى تكتبها عما رواه لها جواد، جعلت جواد هو نفسه الرواي فى هذه الرواية بينما سيكون المؤلف للرواية الثانية.
-
إيدموند وسلينا، الموري الذى انتصر على الرومان
الرواية الثانية ومؤلفها جواد كاتب الظل، القاطن ببيت تمتلكه أمريكية، طلب منه شخص مجهول كتابة رواية يعود تاريخها إلى زمن الاحتلال الروماني لمورتنيا الطنجية وفى المقابل سيدفع له ستين ألف دينار؛ ثلاثون قبل البدء فى العمل والثلاثون الأخرى عن التسليم بعد عامٍ كامل. وبالفعل أنجز جواد الرواية أروع مما اعتقد فى نفسه فى البداية لدرجة أنه لم يكن يريد تسليمها لصاحب الاتفاق. وكان بطل الرواية "إيدموند" الفتى الموري فنان الفسيفساء الذى عشق سيلينا الرومانية. المتفرض أنها ابنة أحد المحتلين لكن حبهما لم يعترف بهذه المآساة، وفى رواية إيدموند وسلينا ستنتج جميع اللوحات الفسيفسائية العابرة للزمن والتى ستحوذ دور البطولة ويكن لها الحضور الطاغى فى الروايات والأزمنة الثلاثة.
ستضفر أحداث الرواية الثالثة التى كتبت بطريقة المذكرات "باخوس فى العيادة" على يد الطبيبة النفسية "نوال" ومريضيها اللذين جُذبت لحالتهما المرضية أكثر من الآخرين. "تهامي، وعياش" شخصيتان متناقضتان تمامًا وكلاهما قطعتان أساسيتان فى لوحة الفسيفساء الكبيرة. انتهجت الطبيية منهج العلاج بالكتابة مع هذين المريضين بالذات فحثت كلاهما على كتابة ما يعتريه من مشاعر ويكتب قصته كاملة كل ما يريدان قوله بالألسن ويمنعهما سبب ما فليكتبانه، ومن هنا عرفنا قصة كليهما. بالإضافة إلى مذكراتها هى نفسها عن المريضين الذين بطريقة ما ستكون لهما يد فى بقية الأحداث.
عياش الذى سجن ظلما بتهمة سرقة تمثال أثري من منطقة وليلى واعترف على نفسه تحت التعذيب، أما تهامى "الملقب بباخوس، وباخوس هو إله الخمر، وقد لقب بهذا الاسم لانغماسه فى شرب الخمر" والذى كان مدير المدرسة التى يعمل بها جواد مؤلف الرواية الثانية، كان يُعالج نفسيا من كارثة قتله لابنه عن طريق الخطأ عندما لم يره فدهسه بالسيارة وبعدها هجرته زوجته.
إن تضافر وتمازج تلك الروايات الثلاثة وبعضها باستخدام التاريخ والفن والبشر وأرواحهم وما يعتري نفوسهم من اعتلال هو ما صنع لهذه الرواية شخصيتها المميزة.
تناقش الرواية عدة أفكار مهمة منها حياة البشر تحت ظل الاحتلال وما يعانونه من اضطهاد على يد المحتل وما تتفتق عنه أذهانهم كوسائل للمقاومة. وهذه الرواية تناولت تاريخ المغرب العربي تحت الاحتلال الروماني قديما والاحتلال الفرنسي فى القرن العشرين، وجاء التعبير عن مقاومة الاحتلال بأجمل فن، عندما انتصر الشاب الموري على الرومان وعبّر عن انتصاره بالوحة الفسيفسائية الخالدة التى كانت محور الرواية "الموري ينتصر".
نجحت الرواية فى تسليط الضوء على فن من أبدع الفنون ربما يكون سائد فى منطقة المغرب العربي أكثر من مشرقه وهو فن الفسيفساء الذى شعرنا بكم الجمال الذى ينضح من تلك اللوحات التى كانت الناس قديما تستخدمها بدلا من المواد الأخرى لصناعة فن تتزين به الحياة وأيضًا استخدموه لتخليد تاريخهم، فإن كان المصريون رسموا على جداريات المعابد ونحتوا التماثيل، صنع المغاربة الفسيفساء لتحكي تاريخهم.
أيضًا نجحت الرواية فى إقناع القارئ أن العلاقات الإنسانية هى الأساس بغض النظر عن الاحتلال والسياسة والجغرافيا المتباعدة. وذلك بعدما أنشأ الكاتب علاقة حب بين موري صاحب الأرض ورومانية محتله، بين مغربي وأمريكية، بين مُعلم وفلاحة عادية. وما جمع كل هذه المتناقضات إلا الإنسانية والفن.
-
الكولاج السردي فى الرواية
هناك اتجاه فى الفنون التشكيلية يسمى "فن الكولاج" والذى يعتمد على قص وقطع خامات متعددة ولصقها وضمها فى إطار واحد، شبه الفسيفساء، وهذا ما حدث فى الرواية، التى ضمت اقتباسات لكتاب كثر فى أزمنة متعددة، ضمت قصائد شعر، نظريات لعلم النفس، أساطير قديمة، وبنيتها السردية نفسها تُعتبر "كولاج" سرديًا، حيث اعتمد الكاتب أسلوب القطع والوصل، الواقع والفنتازيا، الحقيقة والإيهام الغموض والفوضى حتى ساد شعور فى الرواية من عدم اليقينية وهو الأمر الشبيه تمامًا بالحيوات التى دارت الرواية فى إطارها.
|