القاهرة 30 ابريل 2024 الساعة 10:21 ص
بقلم د. هويدا صالح
ازدادت أهمية الترجمة في عصر العولمة، فالترجمة وسيلة نقل ثقافات وحضارات الأمم، عاداتها وطقوسها وتقاليدها من لغة إلى أخرى، كما أنها مهمة جدا لإثراء اللغة المترجم إليها، وتطويرها ورفدها بالثقافات والحضارات المختلفة، كما أن للترجمة دورا فعالا في توصيل مفاهيم فكرية وفلسفية ورؤى من ثقافات لها مفكروها الذين ينتجون هذه المفاهيم وتلك الرؤى؛ مما يساعد على تغيير الوعي لدى الأفراد والشعوب؛ مما يساعد على التطور الحضاري، والانتقال بالمجتمعات من البداوة إلى الحداثة، حداثة الفكر، وحداثة طرق العيش. وهي وسيلة ناجعة تمكن الأمم المختلفة أن تتخطى الحواجز اللغوية بسبب اختلاف الألسنة، فتُقرِّب الشعوب، وتقضي على الخلافات التي تسبب الحروب والصراعات؛ مما يساعد في نهضة الحضارة الإنسانية، فبناء الحضارة الإنسانية ليس حكرا على أمة من الأمم، بل هو إرث مشترك، وتقوم الترجمة بإتاحة الفرص المتساوية للشعوب للمشاركة في مسيرة الحضارة الإنسانية.
ولا يختلف الحال في البلدان العربية عن غيرها من الشعوب، فحاجتنا للترجمة تمكننا من المشاركة في ركب الحضارة الإنسانية من ناحية، وتدفع عنا تُهما طالما ألصقوها بنا، فلسنا أمة بدائية متخلفة، كما أننا لسنا إرهابيين أو متطرفين دينيا، تلك هي الصورة المغلوطة التي يروج لها الفكر الكولونيالي، وسعينا نحو التواصل الحضاري والثقافي مع بقية الأمم، يكرس لصورتنا الحقيقية التي نسعى لأن يعرفنا العالم بها، فالترجمة هي فضاء حقيقي للتبادل الثقافي والتسامح وحوار الحضارات.
لكن الترجمة ليست مجرد نقل معانٍ ودلالات لنصوص من لغة إلى أخرى، إنما هي نقل ثقافة ورؤى وفكر وفلسفة من الثقافة المنتجة للنصوص التي يتم ترجمتها إلى لغة أخرى؛ لذا تتطلب الترجمة أن يكون المترجم واعيًا ليس فقط بجماليات اللغة التي يترجم منها وجماليات اللغة التي يترجم إليها، بل يجب أن يكون واعيا بثقافة اللغة التي أنتجت تلك النصوص.
لقد تغير مفهوم الترجمة في ظل ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار. وقد اكتسبت دراسات الترجمة أبعادا جديدة في ظل مفاهيم النقد الثقافي والدراسات الثقافية، فلم تعد الترجمة عملية نقل نص من لغة إلى أخرى وفق اشتراطاته الجمالية ومحدداته الإجناسية فقط، إنما بات يُنظَر إلى الترجمة باعتبارها تغييرا إلى لغة أخرى، أي استبدال لغة المصدر النصية بلغة الهدف المستقبلة للنص مع نقل كل ما يحيط بالنص من ظلال وأنساق ثقافية، فالترجمة كما يراها جاك دريدا "قوة الحياة التي تضمن وجود بقاء النصوص الأدبية".
والترجمة هي حقل من أهم حقول المعرفة ولها تخصصاتها الدقيقة. إنها أداة فاعلة في تحقيق التواصل والتقارب بين مختلف الشعوب والحضارات والثقافات واللغات. وقبل نشأة دراسات الترجمة كان ينظر إليها باعتبارها "نقل كلام في لغة بكلام آخر في لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده".
ويشترط بعض الباحثين فكرة التكافؤ بين النص المصدر والنص الهدف، حتى يسهل على القارئ المطابقة إن أراد أن يقارن النص المصدر مع النص الهدف، فترى سعيدة كحيل أن الترجمة هي"نقل الألفاظ والمعاني والأساليب من لغة إلى أخرى مع المحافظة على التكافؤ". ولكن عملية النقل الحرفي لنص من لغة للغة بات طرحا قديما في ظل دراسات الترجمة التي وسعت المفهوم لتصير الترجمة "عملية تحويل نص أصلي إلى نص مكتوب في لغة أخرى، فتعد الترجمة نقل للحضارة والثقافة والفكر.
ومن ثم لا بد أن يعي المترجمون أن الترجمة لا تكون "في الأساس مجرد نقل كل كلمة بما يقابلها في اللغة الهدف، ولكن نقل لقواعد اللغة التي توصل المعلومة ونقل للمعلومة ذاتها، ونقل لفكر الكاتب وثقافته وأسلوبه أيضا، لكن اختلفت النظريات في الترجمة على كيفية تنقل هذه المعلومات من المصدر إلى الهدف".
إن الترجمة بطريقة ما مفاوضات ثقافية، ويوضح مفكر ومبدع مثل ألبرتو إيكو معنى التفاوض بدقة، فيقول:"قمت بتحرير الكثير من الترجمات، وترجمت عملين بنفسي، ورواياتي تُرجِمت للغات عدة. وجدت أن الترجمة هي نوع من أنواع التفاوض. لو أردت أن تبيعني شيئا، فإننا سنتفاوض. ستخسر شيئا وسأخسر شيئا أنا الآخر من ناحيتي. لكن في نهاية الأمر كلانا سنخرج بشكل ما، بنتيجة مرضية".
كما أن الترجمة مغامرة تواصل بين الثقافات بدلاً من التعامل مع اللغات، فاللغة، ككائن ثقافي وحامل رئيسي للثقافة، لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة إن انفصلت عن الخلفية الثقافية التي يتجذر فيها هذا بعمق؛ لذا، فالترجمة عملية يتم فيها الاتصال الثقافي من خلال حامل اللغة ذاته، فكل لغة ولدت من ثقافة وتستمد التغذية منها. لذلك، يجب على المترجمين، ليس فقط التركيز على كيفية إيصال الرسالة بلغة ما عن طريق لغة أخرى، بل الوعي بأن الترجمة حقل معرفي، يتقارب ويتقاطع مع حقول معرفية أخرى مثل علوم اللغة واللسانيات والأدب المقارن كما أنها تشتبك وتتقاطع مع العولمة وفلسفة التكنولوجيا وغيرها من حقول معرفية مختلفة.
|