القاهرة 16 ابريل 2024 الساعة 10:56 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي
لعلنا نستطيع القول بأن مصطلح الدراما الرمضانية ارتبط في الذهنية المعاصرة بعروض الفنون المسرحية، والتمثيلية والغنائية، والاستعراضية، والأدائية، خاصة في شهر رمضان، وذلك لأن كثيرا من منتجي الدراما يؤجلون عروضهم إلى موسم شهر رمضان، وذلك لأن هذه الفنون الدرامية تحظى بمشاهدات أوسع، وإقبال جماهيري منقطع النظير، سواء على الشاشة الصغيرة (التلفزيون) أو من خلال دور السينما، والمسرح، أو حتى الأماكن العامة، والخاصة (القطاع الخاص) كما تنشط الفنون الأدائية والقولية (الحكواتي)، وفرق السامر، وعروض مسرح الطفل، والأوبريت الديني الغنائي، وغيرها.
وتلقى هذه العروض قبولا لدى الجمهور المصري والعربي، طوال أيام هذا الشهر الفضيل، وكذلك في الأعياد والمناسبات العامة القومية إلى جانب المهرجانات، وعروض دور الأوبرا وما تقدمه من فنون درامية وأوبرالية مائزة، تستهدف ثقافة الخاصة، كما تلقى العروض الدرامية الشعبية والتاريخية، والكوميدية، إقبالا من جانب الجماهير، حيث تختلف العروض التمثيلية والأدائية في الريف عن المدن، بحسب الثقافة الشعبية السائدة. ولقد وجدنا في الريف المصري نجاح دراما حكايات السيرة الشعبية: (السيرة الهلالية، سيف بن ذي يزن، الزير سالم، وسير الأبطال الشعبيين، ومسرحيات الظل، ومسرح الجرن، والريف، والمسرح الحر، وغير ذلك(
وكل هذه التواشيح الدينية، والحكايات الشعبية، والمواويل وفن السير كأيوب وناعسة، وشفيقة ومتولي، وحكايات زهران وغيرها، تلقى قبولا في الأوساط المجتمعية البروليتارية الريفية الفقيرة، لأنها توافق الذوق العام للمستمعين وتخاطب مشاعرهم وأحلامهم، حيث البطل الشعبي هو محور هذه الحكايات بتعدد أهدافها وأغراضها، وما تمسه من هموم، وطموحات لديهم.
أما المجتمعات المدينية فنجد تباينًا في العروض عبر مسارح الدولة، والمسارح الخاصة، وأخيرا مسارح الثقافة الجماهيرية لوزارة الثقافة (القطاع العام)، وغيرها. كما نجد دور السينما التي تستهدف الجمهور الأعلى ثقافة، وتمدينا، وهنا تلعب الصناعات الثقافية الإبداعية دورها في التنافس، لتقديم منتجات ثقافية فنية استهلاكية تدر ثروة كبيرة،على المنتجين والشركات الفنية، وتسهم في (الصناعة الفنية) التي تمثل إحدى نواتج الدخل القومي للدولة.
وما ألحظه- كما أرى- ظهور مسلسلات وأفلام يكتبها كاتب السيناريو، ويعد لها السيناريست الحوار، دون وجود أصول سابقة للعمل التمثيلي أي دون الرجوع الى أصل روائي، أو مسرحية مكتوبة، أو مطبوعة يأخذ عنها مادة السيناريو، ومن هنا عروض المسرح والمسلسلات والأفلام دون الرجوع إلى كاتب بعينه، أو غاب عن المشهد الكاتب الأصيل للعمل الفني التخييلي، واتجه كتاب السيناريو لكتابة القصة والحوار معا، بل ويمكن أن يقوم بإخراج العمل كذلك، وهو ما يضر بجودة العمل- كما أرى- وإن نجح كتاب كثيرون مثل أسامة أنور عكاشة، وغيره في تقديم سيناريوهات ناجحة دون وجود أصول لكتاب آخرين يتم صوغ المسلسل، أو الفيلم أو المسرحية منها، وغدت حاجة السوق، وذائقة المتلقي تتحكم في الإنتاج، دون النظر إلى القيمة، ومن هنا نشأ (القطاع الخاص) ليقدم منتجات تستهدف الشباك، أي المال، دون تقديم قيم مسرحية أكثر غنى، وجودة، ولا نقول كلها بالطبع، ولكن في ظل تراجع، بل غياب دور الرقابة، غدا الانفتاح الفني للصناعة هنا بمثابة الخروج عن كثير من التابوهات، دون الاهتمام بظهور منتوج هادف، أو على الأقل يحفظ للمجتمعات هويتها وأصالتها، وهو الصراع بين قيم الأصالة والحداثة والمعاصرة، وتسيدت قيم ما بعد الحداثة، التي تقاوم الهوية، وتستعدي الموروث من خلال العولمة والانفتاح الكوني على القيم والعادات الغربية التي تنظر لحركة الفن اللامحدودة، ولو على حساب القيم والأديان، ومن هنا تتم الثغرات الاستعمارية، كما أرى، وغير ذلك.
لقد ظهر المسرح التجاري، وصناعة الفيلم والمسلسل من أجل تحقيق العوائد المالية الأكثر مبيعا، ومشاهدة، وتم البعد تماما عن المسرح والفن الجاد -نوعا ما- لصالح الإنتاج الفني الذي يستهدف الروحية فحسب، وهنا لن نجد مكانا للفنون الجادة، فقد سيطر السيناريست، مع المنتج، على موضوع العمل الفني، بل رأينا انتهاكا من جانب المنتج على المخرج، وكاتب السيناريو لتقديم أعمال تجارية هزلية، أو تقديم دراما مشوهة، أو موجهة-كالتي في مسرح ودور عرض القطاع العام كذلك- وربما لم نعد نسمع في المسلسلات والأفلام تهتم بموضوع العمل، ولن نجد روايات تاريخية مثل روايات لنجيب محفوظ، أو مسرحيات ذهنية لتوفيق الحكيم، أو روايات اجتماعية مثل روايات إحسان عبد القدوس، أو روايات رومانسية مثل روايات محمد عبد الحليم عبد الله، وغيرها.
ولسنا نحن مع تجمد الفنون، أو الإصرار على تقديم تابوهات معينة فحسب، لكننا مع كل تطوير وتجريب، ولقد رأينا بعض الكتاب الجدد المعاصرين، وكتاب السيناريو الرائعين، لكنهم قلة، فانحدرت الصناعة الفنية المصرية والعربية لأنها اعتمدت تقديم قصص وأفلام ومسرحيات تنتهي بنهاية رومانسية في زواج المحبوب من محبوبته، أو نهايات مأساوية، وقلة بدأت تترك مساحة للجمهور ليتخيل عبر النهاية المفتوحة، وكأن تنمية الفن وأدلجته غدا سمة لصناعة الفنون المصرية والعربية على السواء.
لقد انتشرت السينما الأفريقية، وغدت تنافس هوليود في تقنياتها (بوليود أفريقيا)، ولنضرب مثلا بدولة نيجيريا التي تقدمت بشكل لا مثيل له في عالم السينما، والفنون الأدائية، والاستعراضية، وغدت الثيمات الشعبية، والموروثات سمات حاضرة في المعاصرة، فقدموا فنا مختلفا يحفظ الهوية، ويقدم المعاصرة بل وينافس في الفنون المابعد حداثية.
ولعل الملحوظة التي وجدتها في مسلسلات وأفلام، بل ومسرحيات هذا العام هو وجود التشاركية في التأليف للعمل الواحد، وهو ما يسقط الفردية للفن، إلا أنه -كما أرى- يسعى لتقديم "مسخٍ فنيّ"، فالبداية له مؤلف واحد، أما وجود أكثر من مؤلف على "أفيشات العروض" فهذا لم يقصد به تقريبا في الفن، وإنما ابتسامات لكعكة المؤلف التي يحصل عليها، وكأنهم استكثروا على صانع البهجة الفنية أجره، الذي لا يضارع أجر راقصة داخل العمل، أو أجر ممثل من الدرجة الأولى، وكأن تدخل بعض الأفراد كالمنتج وكاتب السيناريو في توجيه العمل الفني على خشبة العرض قد أعطاهم الحق في اقتران أسمائهم كمؤلفين مع المؤلف الأصلي، وهذا وإن دل فإنما يدل على تسطيح الفن لصالح دراما الفنتازيا الهزلية التي تجذب الجمهور من أجل المتعة فقط، رغم تواضع وبساطة وسطحية العمل، رغم وجود أكثر من مؤلف له، بل أكثر من مخرج ومساعد، ناهيك عن أن العمل ليس له وجودية من قبل، فقد يجلس الجميع في سهرة عامة، أو خاصة ويجتمعون على تقديم مسلسل، ويتم توزيع الأدوار، من قبل المنتج، ويشير للمؤلف، أو السيناريست بأن يضيف إلى جانب اسمه فلانا، أو فلانة، لتلميعهما من جهة، أو أنهما سيساعدان السيناريست في تقديم رؤى حداثية تجريبية-تخريبية- جديدة، لكن مع تواضع الذوق الفني العام، أو توجيه العمل الفني إلى وجهة خاصة، تم وضع شركاء التأليف ليغيب هارموني الإبداع والقيمة، لصالح توجيه ذائقة الجمهور، أو تعميته، وهذا جريمة في حق الفن، ولكن لا رقابة في ظل حرية الفن، أو الفوضى الفنية الخلاقة ، كما أرى.
ومع ذلك وجدنا أعمالا جادة تشارك فيها مبدعون ومؤلفون -حقيقيون، ولكنهم ارتقوا بمشاركة التأليف، خارج ناموس الإبداع، وقوانين فرادة الفن لصالح القيمة المادية المغرية، من جانب المنتج، أو لأن المخرج الكبير سيقوم بإخراج عمل ما لفلان غير المشهور، وهنا عليه أن يتنازل حتى عن مشروطيات الفن لصالح الشهرة، أو التمثيل إلى جانب ممثل كبير، وغير ذلك. فكم من ممثل لم يأخذ أجره، لأنه اكتسب شرف الوقوف أمام الممثل القدير المشهور.
نلحظ منذ البداية خاصة في المسلسلات وجود أكثر من مؤلف للعمل، كما وجدنا عروضا جديدة تعرض الجزء الثاني أو الثالث للمسلسلات التي نجحت جماهيريا، ولا أعرف كيف يصنع كتاب السيناريو بمجرد نجاح مسلسل جزءًا ثالثًا ورابعا، فماذا لو سقط الجزء الأول، هل سيفكر هؤلاء في استكمال الأجزاء المتتالية؟.
لقد رأينا في الأعوام السابقة تشاركية في الفن، أو سيطرة "شللية"، تحتكر صناعة الإنتاج الدرامي المصري والعربي بشكل عام، متناسين جوهر الفن الذي هو إبداع فردي في الأساس، إلا أن الكتابة التشاركية للتأليف وكتابة السيناريو، أو الإخراج كذلك، فهذه قد تفيد العمل الفني من ناحية، أو قد تضر به لصالح الصناعة، بمعنى توزيع الدخل على أكثر من كاتب سيناريو:(السبوبة)، بل وأكثر من مخرج أيضًا، ولا يمكن أن يتعدد المخرجين كذلك، لأن الرؤية الفنية للمخرج يحددها مخرج وحيد فقط، كي لا يشاهد الجمهور أكثر من رؤية إخراجية، وهي وإن تصلح لرؤي ما بعد حداثية، إلا أنها يمكن أن تصلح كمادة جيدة، وتجديدية في مجال (الميديا الرقمية) أو (المسرحية التشعبية)، حيث تتشارك الرؤي مع الآلة والخوارزميات، والجميع، لصوغ حالة رقمية إمتاعية، تستخدم تقنيات الحاسوب، والشبكة العنكبوتية، والذكاء الاصطناعي لصناعة عالم فني جديد يستفيد من الرقمنة والخوارزميات لتجديد الفن، بما يتسق مع الكوكبية، والكونية وعالم ما بعد الحداثة بتناقضاته الهائلة، والتي يغيب فيها المعني لصالح التخييل وتقنيات الحداثة، والميتافيرس، وعالم الفضاء العنكبوتي الكوني الممتد.
وصناعة الدراما تتأثر كغيرها من الصناعات الأخرى بالحالة الاقتصادية وسعر السوق والتضخم، وبالكوارث والأمراض التي قد تؤثر على اقتصاديات العالم والدول كما رأينا التأثر بمرض كوفيد 17(كورونا)، أو بحروب عالمية كحرب روسيا وأوكرانيا، أو حرب غزة، ومن أمثلة هذا التأثر على الدراما الرمضانية أنه كان من المقرر إنتاج وعرض حوالي 50 مسلسلا تلفزيونيًا وأكثر من عمل سينمائي ومسرحي، لكن تم سحب بعض العروض، وعدم استكمال تصوير بعض المسلسلات ليتراجع الإنتاج من 52 عملا إلى حوال 32 عملا، ولا شك أن للتأثيرات الاقتصادية أبلغ التأثير في انخفاض الإنتاج بصفة عامة، إلى جانب أن أحداث غزة، والتخوف من انصراف الجمهور وعزوفهم عن حضور عروض دور السينما والمسرح تضامنا مع الشهداء والمجاذر، وهذا من شأنه الخسارة الفنية، وهنا لابد للدول والحكومات من التدخل لتوجيه الصناعات الفنية، والمشاركة مع رجال الأعمال والمنتجين لسد مثل هذه الفجوات، ودعم الصناعات الفنية، والمشروعات الثقافية الكبرى كذلك.
|