القاهرة 16 ابريل 2024 الساعة 10:48 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
تعد رواية "الأصنام.. قابيل الذي رق قلبه لأخية هابيل" للروائي الجزائري الدكتور أمين الزاوي، والصادرة عن دار العين المصرية، أحد روايات القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية2024.
وقد تعددت المحاور التى تناولتها الرواية، لكن المحور الأبرز فيها هى قصة الإرهاصات الأولى لصعود العنف الديني والتيارات الإسلامية المتشددة فى الجزائر فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى، وهو ما يمكن أن نقول أنه البداية التى منها دخلت الجزائر عشريتها السوداء فى التسعينيات، الحرب بين المتشددين الإسلامين والسلطة الجزائرية.
كذلك تدور عوالم الرواية حول التخبط والتناحر وحالة التشرذم التى سادت المجتمع الجزائري بعد جلاء الاستعمار بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. بين التيار اليساري والعلماني المنتصر للثقافة الأوروبية والعلم والتقدم، وبين التيار الديني المتشدد الذى يحاول العودة بالبلاد إلى قرون مضت، التيار الذي رفض فى الرواية أرجاع النوائب التى تلّم بالبلاد إلى الفساد والجهل والاستعمار الذى خرّب قبل رحيله كل شيء، بل أعزى كل شيء حتى الأمراض والزلزال إلى المثلية وشرب الخمر وعدم حشمة النساء."فى هذا البلد الغريب ثلاثة أشياء متوافرة بكثرة، الصلاة والتمر والخمر".
عندما تولد فى فجر يوم ثورة، أو بالأحرى يوم التصحيح الثوري كما فى الرواية، ويكون أبيك من أشد أنصارها فهناك احتمال كبير أن يكتبك على اسم قائدها، وفى الوقت عينه تكون أمك من الحانقين على السياسة التى ترى أنها ضياع للحياة فهناك احتمال أن تعيش فى الدنيا بإسمين، كما حدث مع بطل الرواية الذى سميَّ حميميد على اسم أحمد بن بله، ويونس على اسم خاله الغريق الذى أصرت أمه ألا يسير على خطاه رغم حمله ذات الاسم. وهو ما خلق لدى البطل حالة من الانقسام الداخلي" حميميد، يونس" ضاع بين الاسمين فى سبيل البحث لنفسه عن هوية، فهل كان بطلًا ثوريًا كما أحمد بن بله، أم كان مغامرًا شق عباب البحر كما خاله الغريق؟ لم يعرف. ولم يكن انقسام هوية البطل واختلاف اسمه إلا رمزية تدل على حال الانقسام والاختلاف العام للبلاد بعد الاستعمار.
-
الأصنام: رواية الصوت الواحد
يسرد لنا رواية الأصنام الرواي العليم من أولها لآخرها. صوت بطل الرواية هو الصوت الوحيد الذى سيسرد لنا التاريخ العام للجزائر فى فترات مختلفة وتاريخة الشخصي.
التحوّل الكبير.
فى العام 1980 تعرضت دولة الجزائر لواحد من أكبر الزلازل التى حدثت فى منطقة شمال أفريقيا وكان مركزه مدينة "الأصنام، الشلف" مسرح أحداث الرواية، الزلزال الذى سوى المدينة بالأرض وأطاح بآلاف الأرواح.
وفى عالم الرواية سنرى كيف أن هذا الزلزال لم يكن مجرد حركة فى باطن الأرض زلزلت سطحها بل كيف قلب كل ما فى الجزائر بشراً وحجرا. فأضحى تاريخ الجزائر بعد الزلزال مغايرا كليا عما قبله.
"مدينة الأصنام" التى تحتوي على الآثار الرومانية ولذا أطلق عليها العرب قديما عند الفتح اسم الأصنام، الاسم الذى تغيّر بعد الزلزال إلى الشلف. بعدما اقتنع الناس على يد أتباع التيارات الإسلامية التى برزت فى تلك الآونة وقبلها بقليل، أن الله غضب على المدينة وابتلاها بالزلزال لاسمها هذا.
وكذلك انقلب حال الأب الذى كان أبرز أعضاء الثورة والمقاومين للاستعمار الفرنسي "علال فليتا" والذى كان يتفاخر أن جده الأكبر هو من أسر نابليون الثالث عندما جاء ليحتل الجزائر فى البداية، وتحوّل هذا الأب المجاهد الوطنى إلى مجذوب المدينة بعد الزلزال وذهل عن الدنيا.
تغيّر بيت حميميد بطل الرواية بعد جنون أبيه، بضياع توئمته حميدة فى الزلزال ولم يُعثر لها على أثر. وتغيّرت حال الأم التى ابتسمت مرتاحة عندما علمت وتعرفت على جثة ابنها"المثلي" المقتول ورأت أن مقتله أراحه وأراحهم وكأنها تخلصت من العار الذى كان عبئا عليهم طوال حياته. الابن المغدور والذى لم يصلِ عليه أحد بحجة عدم جواز الصلاة على المثليين، وهى التى كانت لا تفارقه ولا يفارقها هذا الابن أبدا. مقتل الأخ الأكبر"المهدي" الطالب الجامعى على يد المتشددين الإسلاميين بسبب مثليته الجنسية قتلوه فى مدينته الجامعية ونقلوا جثته إلى مدينة الأصنام ودفنوه تحت أنقاض الزلزال حتى يحسب ضمن من قتل فى الزلزال.
ومن نفس ليلة الزلزال انقلب عالم حميميد الشخصى بعدما قرر تكريس حياته للانتقام لأخيه من قاتليه والذى ذهب فى سبيل ذلك حتى النهاية. سافر إلى سوريا فالسودان وصولا إلى أفغانستان للثأر من الشيخ الذى قتل أخيه لمثليته والذى وللمفارقة هو الشيخ نفسه الذى حلل اللواط فى أفغانستان بين صفوف المقاتلين الإسلاميين إذا تعذر وجود المنضمات لما عُرف بجهاد النكاح.
تصدرت الرواية تلك الجملة التى قالها الشاعر المهلهل بن ربيعة حين وصله خبر وفاة أخيه. فى الرواية سنرى كيف أن كثيرين من الموتي لم يعتبرهم ذويهم موتي. فالخال يونس الذى مات غريقا فى البحر، وسنعرف أنها حكاية ملفقة فى آخر الرواية وكان لموته سببا آخر، لم تعتبره أخته لالة رحمة أنه مات، ظلت حتى النهاية موقنة بحياته وأنه سيعود يوما ما. كذلك الفتاة الصغيرة"حميدة" التى دفنت تحت أنقاض الزلزال دون أن يعثر على جثتها، لم يقدر أحد على التسليم بموتها. لكن فى موت المهدي المقتول، لم يُسلّم يونس بموت أخيه إلا حين أخذ بثأره وقرأ على قبره الفاتحة وأيضًا لأنه لم يفارقه طوال الوقت من ليلة موته حتى ليلة الثأر، فقد كان يتجسد لأخيه طوال الوقت فى نوع من الهلوسات، كان يتجسد له وهو يحرضه على الأخذ بالثأر ويدله على الطرق الصحيحة للقيام بعمله، يؤنس وحدته طوال رحلة سفره فى البلاد المتعددة المجهولة له حتى وصل لوجهته. كان رفيقة فى الموت كما لم يكن يفارقه بالحياة.
نرى فى الرواية كيف يوجه البطل حميميد انتقادات لكل شيء فى المجتمع الجزائري بداية من المشهد الأول فى الرواية عندما سجن الأب فيما يعرف ب"التصحيح الثوري" فعلى الرغم من أن علال فليتا أحد أكبر المقاومين ضد الاحتلال الفرنسي وأهم المجاهدين الذين أدت عملياتهم الفدائية إلى زوال الاستعمار إلا أنه كما يقال "الثورة تأكل أبناءها" فقد سُجن على يد السلطات الجديدة بعدما أطلق على أبنائه" حميميد وحميدة، اشتقاقاً من أحمد بن بله".
كذلك انتقد البطل ظاهرة ربما متفشية فى المجتمعات العربية بأكملها وهى ظاهرة إهمال الرموز الوطنية والإنسانية في أثناء حياتهم والإفراط فى تكريمهم بعد الممات وقد عبر عن نقده أو ربما ذمه هذه الظاهرة فى حوارات الأشخاص بعدما قررت الدولة تكريم علال فليتا البطل المجاهد بعد مماته بينما فى حياته كان شريدا فى الشوارع يتحصل على قوت يومه، وقططه، بالتسول "كِي كانْ حيّ اشتاقْ تَمْرَة وكِي ماتْ علَّقُولُو عَرجونْ" (لما كان على قيد الحياة اشتاق لحبَّة تمر وحين مات علقوا له عُرْجُونًا"
كذلك نقده لانقلاب الحال فى الدولة الجزائرية بعد الاستقلال للأسوأ. مثل النسيج المجتمعي الذى عبّرت عوالم الرواية عن تفككه الشديد. فبعد الاستعمار أراد كل فريق الجزائر لنفسه ونفى الآخر. وهو ما حدث عندما قرأنا عن وضع اليهود مثلا فى المجتمع الجزائري قبل الاستقلال وكيف أنهم كانوا بشكل بديهي جزءًا من المجتمع لهم أماكن عبادتهم كغيرهم من الناس وكيف كانوا "أخوة السلاح" يساعدون كجزائرين أبناء وطنهم لنيل الحرية، عندما كان الحاجام يخبئ المجاهدين فى الكنيس. لينقلب الحال بعد الاستقلال وتروّج عبارات مثل "لنا وحدنا، أي البلاد" وحدث إقصاء لليهود ومن ضمنهم الحاخام الذى هاجر وعائلته إلى تونس، وتحول كنيس اليهود إلى مكان خرب، ثم مع صعود الإسلامين تحول إلى مسجد "مسجد جامع اليهود، السبت فى الجمعة والجمعة فى السبت". أيضا من ضمن حالة الإقصاء التى انقلب بها المجتمع الجزائري كما فى الرواية هى محاولات الدولة لطمس الهوية الأمازيغية والعمل على تعريبها حتى بالقوة.
كذلك نقد المجتمع الذى ضغط على أم "لالة رحمة" لدرجة أنها ابتسمت فى ارتياح لموت فلذة كبدها، ولدها البكر، بعدما زادت ضغوط ذلك المجتمع الذى أقنعها أن المرض الغريب "مرض الخنزير" الذى أصيبت به ابنتها نورة، هو من جراء مثلية أخيها، كذلك هُم مَن أرجعوا اقترابها من فقدان البصر وجنون الأب وضياع الفتاة الصغيرة للسبب ذاته.
امتلأت الرواية بالتفاصيل السياسية والاجتماعية للمجتمع الجزائري بعد الاستقلال. هناك العديد من المظاهر السلبية التى سردها الكاتب فى الرواية ولا نعرف أهى من الواقع أم مجرد خيال إبداعي، عن مدى تفشي القبح وإحلاله محل الجمال فى المباني والشوارع والثقافة الجزائرية ونفوس الناس. وقد عمد الكاتب إلى كتابة الرواية فى قطعة واحدة لم يقسمها إلى فصول، بل غيّر هذا النمط بكتابة جملة مؤثرة يعلق فيها بطل الرواية على منولوج داخلى أو على حدث عام يتساءل عن أسبابه، لتكون تلك الجملة بداية فصل جديد.
|