القاهرة 16 ابريل 2024 الساعة 10:42 ص
كتبت: شيماء عبد الناصر
بعد يوم شاق في العمل، هل يستطيع الإنسان أن يجلس مع ورقة وقلم، يتذكر كم عميلًا كان سيء السلوك ناحيته خلال اليوم، وأوجعته كلماته؟ في وسط كل الهزائم اليومية تضيع روحه وكيانه وكل ما يمت له بصلة، ولكن جلسة واحدة في نصف ساعه تخرس الضوضاء الناهشة في عقله، وتلك الدهشة اللذيذة بعد اكتمال نص ما، حينما ينظر المرء إلى مرآة عقله، فيدهشه كم هو عميق أو بسيط أو حتى رقيق.
تبدأ الكتابة بمحنة وتنتهي بمنحة، خلاص، راحة، هذه الإطلالة على الروح تمنحها حياة جديدة لتبدأ يومًا آخر في الحياة، متجددة، نشيطة، تقتل الكتابة شوائب الأمس فننام بعد إلقاء كل همومنا على الورق.
هذه السلسة عن الكتابة والنفس تذكرني كل يوم بمواقف من الماضي وكأني أصنع لنفسي عصفًا ذهنيًا يوميًا يخرجني من روتين الحياة والعمل والناس والأزمات والاقتصاد والحرب والجوعى والمرضى، تدخلني إلى نفسي، تلك الحائرة ما بين الضمير والقلب والروح والعقل.
سأكتب هنا عن رجل قابلته في العمل، صوته عال ونبرته جميلة، صاحب فن عالٍ في "الأسافين" يعرف كيف يذيب كل الخلافات بين الناس من أمامهم ولكنه في الظهر يفعل الكثير، هو محبوب وله سمعة بين الناس، لكن هل الجميع يعرفون حقيقته، أم من لدغوا من لسعته فقط، اللسعة البراشوتية، حينما يضع لمسته الأخيرة على عمل غيره فينسبه لنفسه، حينما أضع نفسي مثلا مكان أحد أو إحدى ضحاياه..
حينما يكتب عنه فما جدوى وتأثير ذلك على الضحية إنها تكتب عن شخص آخر، ماذا ستستفيد، ربما فقط سيخبرها عقلها في النوم بعد الكتابة أنها ليست كذلك فتعرف معلومة عن نفسها، أو ترى في الحلم أنها هي نفس الرجل ذاته، فتعرف أن تشابها مع يجمعها بالرجل، ربما يكره الإنسان نفسه فيقلع عن الأمر وربما يجد فيه متعة ما فيكرره لمصلحته مرات ومرات ويظل طوال عمره في دائرة الأسافين و البراشوتية، لكنه سيكون مدركا لما يفعله، ويفعله عن عمد، سيعرف نفسه بحلوها ومرها في جميع الأحوال.
ما بين ضياعنا في ذوات الآخرين خاصة من نحبهم، وبين بحثنا عن ذاتنا، تلعب الكتابة دور النور في آخر النفق المظلم، ماذا نقول وعن أي شيء نتحدث، القصص والإبداع شيء في غاية الصعوبة كيف يستطيع الأدباء الدخول إلى هذا العالم، حولي صمت جميل وهدوء أثير بالطبع أنا سعيدة لذلك.
هذه المنطقة ما بين أحلامي وبين اللهو في أي شيء بعيدًا عن الواقع، هل أستطيع الكتابة عنها وإخفاء مخاوفي داخل أحداث مصطنعة ونقل حقيقة نظرتي لها في كلمات متوارية كيف استطاع الأدباء الكتابة وماذا فعلوا كي يسيروا في هذا الطريق؟!
كنت في أثناء العمل كباحثة ميدانية أفكر طوال اليوم والليل في التفاصيل، وأستيقظ وأنا أقول لنفسي: عليّ تسجيل العينة كذا بطريقة كذا وتعديل الحالة كذا لأن الذي كتبته غير مناسب، والأسرة التي تناولت كشك على الغداء لا يتم تسجيل "الكِشك" هكذا ولكن يعود إلى عناصره الأولية، قمح، ولبن وتوابل، أتذكر التفاصيل من خلال الكتابة، تصحبني الورقة والقلم أيامها في كل الأوقات، وكانت خير صحبة، اليوم حينما انتقلت لعملي الجديد لا زالت تصحبني ليست فقط في الكتابة الخاصة بالعمل والعيادة، ولكن في دائرة الكتابة الذاتية، الكتابة عن النفس والكتابة عن الكتابة.
|