القاهرة 16 ابريل 2024 الساعة 10:34 ص
بقلم: د. شادي أبو ريدة
إن النقد الفني التشكيلي يقوي هشاشة التلقي، ليجعله قادرًا على حمل قيم جمالية وفكرية ونفسية لها وزنها وثِقَلَها، ولا شك في أن التقصير الجَلِي فيما يخص دعم المجال النقدي التشكيلي في الوطن العربي، نتج عنه ضعفٌ وخلل وارتباك في التذوق والتلقي، حتى بين المهتمين والمشتغلين بالشأن التشكيلي، بل بين الدارسين للفنون البصرية! وليس أدل على ذلك من أنه لا توجد مسابقات نقدية تشكيلية على المستوى العربي سوى مسابقة وحيدة، وهي مسابقة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي، التي أَثْرَت الفضاء النقدي التشكيلي منذ تأسيسها في عام 2008م حتى الآن، وشغلت حيزًا مهمًا منه بأكثر من خمسين بحثًا نقديًا فائزًا بجوائزها، تعد تلك البحوث يواقيتًا كريمة تزين المكتبة النقدية العربية، وهي حصيلة أربعَ عشرة دورة متتالية، وما زالت ترفدُ المكتبة العربية بالدُّرر النقدية، فقد قامت دائرة الثقافة بحكومة الشارقة بإطلاق الدورة الخامسة عشرة من المسابقة للعام الحالي 2024م، تحت عُنوان: (العالم العربي في الاستشراق الفني.. أبعاد حضارية جمالية).
ولا شك ونحن في عصر الانفتاح الأسلوبي والتقني وكذلك الفكري، أصبحنا بحاجة ماسة إلى تجديد الخطاب النقدي التشكيلي والجمالي في وطننا العربي، وإعادة تعريف وتوصيف الجمال وفق المعايير المستحدثة والمتجددة، مما سيترتب عليه تجديد وتغيير زوايا التلقي وأبعاده، فالتأخر في هذا المسعى كانت نتيجته أن نرى أرفف المكتبة العربية التشكيلية الرصينة، فارغة إلا من بعض الكتابات التقدمية المتفرقة الجادة الصادقة - لأصحاب القامات الفكرية والثقافية العالية - التي نأمل أن تجد من يجمع شتاتها ويُكْمِلها ويثريها بكتابات جديدة، تبحث في مناطق النقص وتسد الخَلَل، لبناء مكتبة توثيقية تأريخية متكاملة يستحقها الفن العربي الحديث والمعاصر، ترفع من صوته الخفيض، وذلك بوضع التجارب الفنية في مكانها الصحيح، ومكانتها المناسبة لقيمتها الفكرية والجمالية، والتي من بينها تجارب لا أصل لها، ولا هُوية تظللها، فقد انطلقت من العدم بلا ذاكرة أو نقاط بداية، أو كانت بداياتها النقل والتقليد والاختلاس، وتبادل المنافع في مختبرات ومحترفات صناعة النجوميات النرجسية الزائفة، التي ينبثق عنها سوق فنية لبيع واقتناء الأعمال الطفيلية التي تشرنقت داخل تلك المحترفات وورشات العمل المؤسَّسَة على النفعية والشللية وبطانة التطبيل والنفاق، صفات لا يمكن أن نتخيل أن يتسم بها فنان حقيقي، يحترم موهبته وفكره وإبداعه، فمن الطبيعي أن تكون هناك قواسم أسلوبية مشتركة بين تجربة فنية لأحد الفنانين وتجارب فنانين آخرين، لكن من غير الطبيعي أن تتطابق جميع الملامح والسمات الأسلوبية، هذا التطابق هو إعلان إفلاس فني لفنان سقط ثم عَلِقَ على جدران هاوية التِيه بين التجارب والأساليب الفنية المستنسخة، هذا الفنان العالق لم يَحِد قَيْدَ أُنْمُلَة عن الطريق الذي سار فيه وسلكه أستاذه أو مثله الأعلى، بل سار على استقامته كأنه امتداد أعمى له، رافعا لراية التبعية، ممسكًا بممحاة يمحو بها على الدوام ملامحه الشخصية وبصمته الخاصة وطابعه الأسلوبي.
كما ينبثق عن تلك التجمعات سيئة السمعة أيضا، شرنقة أخرى من النقاد المرتزقة المُحَابين غير المتخصصين، والمفتقدين لأدنى معايير المصداقية والتجرُّد، فيبرُزُون ويطفون على السطح ويغمرونه سفسطة وإطنابًا وتضليلًا، بينما أصحاب الرؤية والثقافة والفكر المحايد لا يجدون سبيلًا للظهور، أو مساحة متاحة للكتابة، ولا تسليط لضوء إعلامي إلا فيما نَدُر. بالإضافة لانبثاق آخر، يمكن أن نطلق عليه (قاعات نخاسة الأعمال الفنية)، وهي صالات العرض المتحكمة بشكل أساسي في اختيار ومباركة نخبتهم المحددين والمحدودين، وإرضاء تلك النجوم البالونية - في كثير منها – وتمجيدهم وإزكاء نرجسيتهم، والعرض الدائم والأبدي لهم، والمنع والرفض القاسي لفنانين آخرين واعدين ومجتهدين، فيصاب هؤلاء الفنانون بالإحباط والأكسدة النفسية، بسبب هذا الصَّد والمنع وعدم التقدير لموهبتهم ولتجربتهم الفنية الصادقة والمميزة، بل ربما لدى تلك القاعات وصالات العرض متخصصون يستطيعون تقييم الأعمال الفنية المقدمة إليهم، تقييمًا سليمًا وصادقًا من الناحية الفنية والفكرية والجمالية والتقنية، لكنهم لا يريدون المجازفة والمغامرة بتقديم مبدعين جدد، على الرغم من أن الفنون الحديثة والمعاصرة برُمَّتها قامت على أساس من المجازفة والمغامرة بالثوابت والتقاليد الفنية الكلاسيكية.
ولا بأس بالاستطراد، لنشير أنه في العقود الأخيرة قد توقف الفنانون أنفسهم عن تكوين ما يسمى بالجماعات الفنية، التي كانت تمثل تحالفات وتآلفات وتوافقات فكرية وفنية وأسلوبية، تجمع الفنانين من خلال آصرة الصداقة ووحدة المذهب والفلسفة والطريق، يتسامرون ويتناقشون وتتعاطف أفكارهم وتصوراتهم، (فالفن صورة الفكر) كما قال الفيلسوف الفرنسي بول فاليري Paul Valery (1871 – 1945م(.. وقد كان يؤرَّخ للفن من خلال تلك الجماعات التي كانت تربط الماضي بالآني ثم باللاحق في سيرورة ودينامية.
أما في العقود الأخيرة، فقد حدثت تحولات نفسية تستوجب البحث في أسبابها، فكثير من الفنانين تفتك بهم الغيرة السلبية، حيث يُضمرون مشاعر الحقد لزملائهم، ويتخذون من التدافع والتخطيط لإزاحة زملائهم عن الضوء سبيلًا للظهور في مقدمة المشهد التشكيلي، ليتواجدوا هم وحدهم في مرمى الكاميرات والإعلام، الذي لا يبحث هو الآخر إلا عن الفقاعات الإعلامية الفارغة من الداخل، ويلهث خلف نِسَب المشاهدة، فاتحًا ذراعيه لمن يركض وراءه، ويتجاهل بل لا يرى الفنانين الأغنياء من التعفف، وغير محترفي التملق والتسلق.
لقد أصبحت الطرق الهابطة عن مستوى سطح الثقافة والقيم والعلم هي أقرب الطرق للوصول والانتشار والتحقق المادي، بل هي المسالك السالكة لكل من يرغب في أن يصبح رمزًا هابطًا متصدرًا للمشهد المجتمعي، ومثالًا للانحطاط يُحتذَى ويُقْتَدَى به ويُسَار على دَرْبِه ويُقْتَفَى أثره، انزلاق نحو الحضيض بسرعة بالغة والاستقرار فيه.. وعلى المدى الآخر في الأعلى يمتد طريق طويل غير مُعَبَّد، رائحته ذكية، يسلكه أناسٌ طوال النَفَس والرقاب، بقامات منتصبة، قليل منهم يبلغ نهاية الطريق ليوضع التاج فوق رأسه تكريمًا وعرفانًا، والكثير منهم يموتون قيامًا قبل الوصول! فنانون امتلكوا رؤىً أبعد من جيلهم ومجايليهم، فماتوا في حيواتهم، وعاشوا بعد مماتهم!
د. شادي أبوريدة - انزوائيات 4 Introverts 4
- طباعة بارزة ملونة من القالب الخشبي طولي المقطع
- مساحة القالب الطباعي: 40,5 × 40,5 سم - 2023م.
د. شادي أبوريدة - انزوائيات 5 Introverts 5
- طباعة بارزة ملونة من القالب الخشبي طولي المقطع
- مساحة القالب الطباعي: 40,5 × 40,5 سم - 2023م.
د. شادي أبوريدة - انزوائيات 6 Introverts 6
- طباعة بارزة ملونة من القالب الخشبي طولي المقطع
- مساحة القالب الطباعي: 40,5 × 40,5 سم - 2023م.
|