القاهرة 02 ابريل 2024 الساعة 09:01 م
بقلم : محمود يسري حلمي
للأسف الشديد واقع نشر كتب الأطفال يعاني كثيرًا من المثالب ؛ فما هي وما أسبابها؟
لقد أقحم كثير من الأدعياء - سواء من الكتاب أو الرسامين أو المصممين أو الناشرين - أنفسهم في مجال إصدار كتب الأطفال ؛ بغرض وحيد هو الكسب المادي الشخصي . وربما كان البعض جاهلًا بقدراته ، ويتوهم أنه جدير بهذه المهمة الصعبة والشديدة الخصوصية .
لهذا ؛ كانت النتائج مؤسية ؛ إذ أسفرت عن نسبة كبيرة من الكتب الصادرة للأطفال ذات نصوص ضعيفة ؛ أفكارها سطحية ضحلة ومستهلكة وتقليدية، ولغتها غير سليمة وركيكة ، وبها من الأخطاء الطباعية والإملائية واللغوية ما يخجل ، لكن الجاهل كيف يخجل وهو لا يعرف ما يجب أن يخجله !
أما الرسوم ؛ ففيها ما فيها من خطوط ضعيفة ، ونسب مشوهة، وألوان كالحة أو شديدة القتامة ، وتكوينات غير متوازنة. والأغلفة والإخراج الداخلي يكونان غير مناسبين ؛ فصياغتهما بشكل عشوائي عاطل من الذوق و الجمال ، و الخطوط غير مناسبة حجمًا وشكلًا للمرحلة العمرية ، وأحيانًا يلجأ بعضهم إلى استخدام خطوط اليد التي في الأغلب تكون رديئة و شائهة؛ واهمين أن لديهم جماليات يتميزون بها.
والناشر الطماع يلجأ إلى أمثال هؤلاء ؛ ربما جهلًا بفداحة المهمة التي يقحم نفسه فيها ، أو استرخاصًا لأجور الذين يقبلون بالنذر اليسير ؛ لأن همهم الأكبر هو صدور أعمال عليها أسماؤهم واهمين في شهرة لن تأتي .
وبرغم وفرةٍ باديةٍ في مجال نشر كتب الأطفال ؛ فهي وفرة خادعة لا تخلو من قصور واعتوار؛ وذلك لما يأتي :
-
افتقاد الجودة في النصوص والرسوم والإخراج الفني والطباعة جميعًا ، وأحيانًا في عنصر أو أكثر .
-
عدم الشمول في الوفاء باحتياجات المراحل العمرية المختلفة فيكون التركيز على مرحلة أو مرحلتين دون غيرهما . ويتضح هذا بجلاء في النقص الشديد فيما يصدر من كتب للناشئة والمراهقين على وجه الخصوص .
-
الاهتمام و التركيز على كتب التسالي و الألعاب و التلوين والمغامرات للصغار؛ لأنها الأكثر رواجًا في الغالب من الناحية التجارية . ويستشري جدب في بقية الأنواع الأخرى كالشعر الفصيح و العامي ، والمسرحيات والروايات العلمية ، وكتب المعارف العامة ، وكذلك الموسوعات والقواميس .
-
الاهتمام بنشر أجناس بعينها على حساب أجناس أخرى ؛ فالأغلب الأعم هو نشر القصص ؛ مع شبه تجاهل للشعر ، وبعض القليل في مجال الرواية و المسرحية .
-
قلة عدد النسخ من طبعة الكتاب ؛ فمعظم الجهات – وبخاصة الحكومية– تكتفي بطبعة من خمسمئة نسخة . ويلجأ بعض الناشرين مؤخرًا إلى الطباعة الديجيتال ؛ بما لا يتجاوز خمسين أو مئة نسخة .
-
كل هذا يحدث بسبب تهافت الناشرين – معظمهم وليس كلهم – على الربح السهل ؛ فهو همهم الوحيد ؛ إذ لم يعد يوجد في سوق النشر الناشر صاحب الرسالة الذي يرغب في تأدية دور ثقافي واجتماعي ناهض إلى جانب ما يكسبه من هذا العمل الجليل . ولا نصادف إلا قلة قليلة ممن يسعون إلى عمل جاد و مفيد .
ويعاني مجال النشر من فوضى عارمة ؛ بسبب غياب استراتيجية شاملة توجه الإنتاج ليكون هادفًا لصالح الفئة المتوجه إليها ، وأيضًا افتقاد التخطيط العلمي الذي ينظم توجهاته ويجعله صالحًا لأداء رسالته السامية .
إن تعدد جهات النشر - حكومية وخاصة – دون تنسيق أو تخطيط هو السبب الأساس المؤدي إلى كل هذا . نجد الهيئة المصرية العامة للكتاب ، والهيئة العامة لقصور الثقافة ، والمركز القومي لثقافة الطفل ، ووزارة الأوقاف، ورابطة خريجي الأزهر ، ووزارة الشباب والرياضة ، ومؤسسة الأهرام، وغيرها من المؤسسات الحكومية التي تنشر كتبًا أو مجلات للأطفال دون تنسيق أو تخطيط، كما يكتظ سوق الكتب بدور النشر الخاصة التي تتهافت على نشر عشوائي في معظمه رديء؛ بهدف الكسب السهل فقط ؛ دون مراعاة لأية قيم أخلاقية أو فنية .
فما الحل إذن لهذه المشكلة المستفحلة وهذا المرض العضال الضار أفدح الضرر بأطفالنا ، وتعديل الحال إلى ما يفيدهم و يقدم لهم الخير الذي يحتاجونه ويستحقونه ؟
أقترح إنشاء هيئة عامة لكتب الأطفال - تتبع المجلس القومي للأطفال الذي سبق اقتراح إنشائه - يتوفر لها قيادة واعية ومجلس إدارة من ذوي الخبرات الحقيقية العميقة ، وكوادر فنية على درجة عالية من الكفاءة ؛ تختص بالنشر للأطفال ، وتكون هي الجهة الوحيدة المنوط بها النشر للأطفال ، ومنع النشر للأطفال في كل الجهات الأخرى ؛ فيما عدا دور النشر الخاصة التي لن يكون من المتاح منعها ؛ لكن منافسة ما تنتجه الهيئة العامة لكتب الأطفال – المستحدثة - بمستوى الجودة التي ستكون متحققة ، سيجعل هذه الدور تعيد حساباتها ؛ فتحاول تحسين عملها وتصحيح أوضاعها ، أو منها ما سينسحب من المجال ، ويكفي خيره شره .
أما مجلس إدارة الهيئة العامة لكتب الأطفال ؛ فعليه عمل ما يلي :
-
وضع سياسات النشر الخاص بالأطفال وخطط قريبة المدى واستراتيجية مستقبلية .
-
اختيار لجنة استشارية من كبار الكتاب والرسامين والمصممين والنقاد والخبراء التربويين ذوي الخبرات الواسعة والوعي العميق بمجال كتب الأطفال . وتكون مهمة هذه اللجنة التصفية والانتقاء وإجازة النصوص قبل التعاقد على نشرها ، وكذلك إجازة رسوم وتصميمات الكتب قبل طبعها . ويتسع مجال هذه اللجنة إلى إجازة أي نص يوجه للأطفال ؛ سواء كان أغنية أو برنامجًا تلفزيونيًّا أو فيلمًا أو مسرحية . وهذا لتلافي صدور أي عمل دون المستوى المرجو ، ويؤدي إلى تشويه عقليات ونفسيات أطفالنا.
-
اختيار عدد من المحررين الأكفاء الذين يجيدون فنيات التحرير الخاص بكتب الأطفال .
-
اختيار عدد من الرسامين المبدعين والمصممين الفنيين المحترفين .
-
استكتاب الكتاب المبدعين لتأليف الكتب وفق خطط النشر الموضوعة ، وتكليف الرسامين المتميزين لإنجاز الرسوم .
-
تحديد سلاسل ذات رؤى محددة لكل مرحلة عمرية من مراحل نمو الأطفال ؛ في المجالات المختلفة ؛ وفقًا لأسس علم نفس نمو الأطفال.
-
وضع خطط التوزيع بالتنسيق مع المدارس وقصور الثقافة والمكتبات العامة ومنافذ البيع؛ لضمان الانتشار على أوسع نطاق .
-
تجهيز مطبعة حديثة على مستوى جودة فائقة .
ماهي الخصائص والسمات التي يجب أن تتوفر في كتاب الأطفال ؟
-
أولها وأهمها أن يكون موائمًا للمرحلة العمرية التي يوجه إليها ؛ بما لديها من اهتمامات ، وآفاق تفكيرها ، ومجالات خيالها .
-
أن يتناول فكرة جيدة تصب في مسار بناء الشخصية كما هي مرجوة .
-
أن يتمتع بخيال رحب وخصب يثير خيال القارئ و ينشطه .
-
تكون صياغته سليمة ، وذا لغة صحيحة سلسة تتسم بالوضوح والاستقامة في الوقت نفسه، مع مراعاة المعجم اللغوي للقراء في كل مرحلة من مراحل النمو المختلفة .
-
يكون خاليًا من الأخطاء الإملائية واللغوية و الطباعية .
-
يشكل النص بحيث يتدرج في نسبة تشكيله بحسب المرحلة العمرية للقارئ .
هذا عن النص المكتوب . ولأن النص في كتب الأطفال ذو وجهين : أحدهما يتمثل في النص المكتوب ، والآخر في الرسوم ؛ ليتمازجا في نسيج يتماهى مع الفكرة ؛ فينتج النص النهائي في صورته المثلى .
إن كان الأمر كذلك ؛ فماذا يجب أن يراعى فيما يتعلق بالنص المرسوم ؟
-
أن يتسم بالخيال الرحب والتنسيق الجمالي المتوازن الجذاب.
-
وضوح الخطوط ومراعاة النسب الصحيحة في رسم الشخصيات و العناصر .
-
توازن التكوين .
-
استخدام الألوان المناسبة .
بعد هذا يأتي دور الإخراج الفني ، وهنا يجب أن يراعي المصمم أو المخرج الفني ما يلي :
-
بالنسبة للغلاف يجب أن يكون جاذبًا و مثيرًا للخيال .
-
تكتب العناوين بوضوح شديد وبخطوط مناسية ؛ يراعى فيها نوع الخط المستعمل ؛ ويفضل الخط العربي التقليدي ليعتاد الأطفال أشكاله وجمالياته ، ولا يفضل أن يكون بخط اليد أو من أنواع الخطوط المبتدعة القبيحة المستخدمة على أجهزة الكمبيوتر .
-
يكون قطع الكتاب مناسبًا لعمر الطفل أو الطفلة ؛ بحيث يستطاع إمساكه بسهولة .
وأما عن التصميم الداخلي ؛ فيراعى ما يلي :
-
توازن التكوين في الصفحات ما بين النص و الرسوم .
-
حساب المساحات الفارغة من الكتابة والرسم بما يريح عين القارئ .
-
نوع الخط و حجمه ؛ فلكل مرحلة عمرية ما يناسبها .
-
أن يتناسب قطع الكتاب و عدد الصفحات مع طبيعة الموضوع ، وكذلك مع المرحلة العمرية.
ولكي ينتج هذا النوع من الكتب بهذه المواصفات السابق ذكرها ؛ يلزمه كاتب ورسام ومصمم أو مخرج فني ، ثم ناشر أخيرًا .
بعض الكتاب – عمومًا – ينذر نفسه لرسالة خاصة به ؛ فمنهم من يعتقد أن رسالته موجهة إلى الإنسانية ، ومنهم من يسعى لرسالة اجتماعية أو إصلاحية ؛ وقد تكون رسالته فلسفية يطرح من خلالها رؤيته للحياة . والبعض الآخر لا يعبأ بكل هذا ؛ بل يعتبر أن الكتابة وسيلة للتعبير عن نفسه ، ومجرد حالة تخصه يحقق بها ذاته ليصل إلى حالة من التوازن النفسي .
أما كاتب وكاتبة الأطفال ؛ فليس أمام كل منهما إلا أن ينذر حياته لرسالة سامية تستهدف بناء وتكوين جيل قادر على صياغة مستقبل عظيم لنفسه ولبلده .
وهنا يلزم أن يتوقف كتاب وكاتبات الأطفال – بالضرورة – أمام سؤال مهم للغاية ، ولا مناص من الإجابة عنه .
أي طفل وطفلة نريد أن نعدهما بما نقدمه لهما من هذا الأدب وهذا العلم وهذه المعرفة الصادرة خصيصًا لهما في كتاب موجه . إنه يسهم في تكوين شخصية المستقبل ؛ فما سمات هذه الشخصية كما نريد أن نرى أطفالنا عليها؟
-
شخصية سوية نفسيًّا ، ومتوازنة عقليًّا .
-
شخصية مفكرة تثير التساؤلات ، وتبحث عن الإجابات .
-
شخصية مثقفة تسعى للمعرفة و تتمثلها وتهذب سلوكها .
-
شخصية ذات عقلية نقدية لا نقلية ؛ تقبل من الواقع ما هو خير ، وترفض نقيضه ، وتسعى للتغيير .
-
شخصية منتمية بقناعة وحماس تؤثر الإيثار و التضحية .
-
شخصية تتمثل قيم الخير والحق والجمال والصدق والأمانة وغيرها من القيم والمثل العليا.
-
شخصية شجاعة حرة تتمسك بحقها في الحرية ، و لا تخشى في الحق شيئًا .
-
شخصية مستنيرة تسعى إلى التقدم وينتظم تفكيرها المنهج العلمي .
-
شخصية إيجابية فعالة تسعى إلى التغيير ولا تتقاعس عن الخدمة العامة ومساعدة الغير ، وتخدم مجتمعها بكل الوسائل الممكنة.
فما سمات كاتب وكاتبة الأطفال الحقيقيين ؟
يجب توافر ما يأتي :
-
الذكاء وسعة الخيال والموهبة والقدرة على الإبداع .
-
اتساع وعمق الثقافة والإلمام بآفاق المعرفة المختلفة .
-
الإلمام بعلم النفس ، وعلم نفس الأطفال ، وعلم نفس النمو.
-
إجادة اللغة العربية ومعرفة أسرارها وروحها ومواطن الجمال فيها .
-
المعرفة التامة بمعجم الأطفال في المرحلة العمرية التي يكتب لها ، ويفضل التخصص في مرحلة بعينها دون غيرها .
-
معرفة إحدى اللغات الأجنبية للاطلاع على ما ينجز في العالم ومحاولة الاستفادة منه .
أما الرسام والمخرج الفني ؛ فيجب أن يتوفر لديهما ما يلي :
-
الموهبة وسعة الخيال والقدرة على الإبداع والتمتع بحس جمالي عال .
-
إجادة الرسم ، وصياغة عناصر اللوحة بمهارة ودقة ، وإتقان عملية التوازن في المنظر والتكوين التشكيلي فيه .
-
اتساع الثقافة والإلمام بآفاق المعرفة المختلفة .
-
الإلمام بعلم النفس وعلم نفس الأطفال وعلم نفس النمو لاستيعاب وإدراك طبيعة خيال الأطفال وآفاق تفكيرهم في كل مرحلة عمرية ، ومعرفة مايشغفون به ويثير خيالهم ويجذبهم.
-
التمتع بذوق وحس جمالي راق .
ويأتي بعد ذلك دور الناشر الذي يجب أن يحرص أشد الحرص على أن تكون الطباعة جيدة ونوع الورق مناسبًا ، ثم يطرح الكتاب في الأسواق بسعر مناسب لا مغالاة فيه ، وبعدد نسخ مناسب من الطبعة الواحدة .
***
إن كنا تناولنا الوضع النموذجي الذي يجب أن تكون عليه كتب الأطفال، فعلينا أن نعاين ما يحدث في الواقع .
استشرى في مجال نشر كتب الأطفال وجود أدعياء كتابة وأدعياء فن ؛ يستمرئ بعض الناشرين التعامل معهم ، ثم يدفع الناشر بالكتاب إلى مطبعة متواضعة الإمكانات ؛ غير حريص على جودة الطباعة ونوع الورق ، وكل هذا أيضًا لتوفير النفقات ؛ فيخرج الكتاب على ورق خفيف ورديء ، والألوان باهتة شديدة القبح .
|