القاهرة 27 مارس 2024 الساعة 05:52 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
وتظل الإسكندرية عاصمة العلم والفلسفة، وتخرج من عباءتها ودهاليزها العديد من المدارس الفلسفية، ليس ذلك فحسب، بل الكثير من الأفكار التي ما زالت حتي اليوم تجد الهوى لدى المفكرين والعلماء، وهذا ما حدا بأفلوطين، الرجل الصعيدي المولود في ليقوبوليس بجوار مدينة اسيوط في عام 205 والمتوفي عام 270 بعد الميلاد، أن يشد رحاله وترحاله إلى مدينة الإسكندرية طلبا للعلم والفلسفة واللذة العقلية.
وإن كنا لا نعلم الكثير عن أفلوطين وحياته الشخصية، حيث كان يأبي أن يتحدث عن حياته وعائلته وأقربائه مع أحد من تلامذته، هو ما أكده تلميذه فرفريوس الصوري، بالرغم من أن هذا الأخير هو الذي حاول أن يتلتقط الشذرات ليكتب سيرته..
بدأ أفلوطين اهتمامه بالفلسفة في عمر الثامنة والعشرون، ولكنه لم يجد ما يسد رمقه لحبه هذا إلا بعد أن سافر إلى الإسكندرية حيث استمع هناك إلى محاضرات أمونيوس، ومنذ ذلك اليوم استمرَّ يتبع أمونيوس حتى بلغ من تقدُّمه في الفلسفة أنه رغب في الاطلاع على مناهج الفرس والمذهب السائد بين حكماء الهند.
ويقول أحمد فؤاد الأهواني في كتابة المدارس الفلسفية: "وصادف أن الإمبراطور جورديان كان يُعِدُّ حملةً يُجرِّدها على الفرس، فالتحق أفلوطين بالجيش وذهب مع الحملة، وكان عند ذلك في التاسعة والثلاثين من العمر، إذ كان قد أمضى أحد عشر عامًا في صحبة أمونيوس، وانهزم الجيش في العراق، وقُتل الإمبراطور، وهرب أفلوطين إلى أنطاكية، ثم ذهب إلى روما واستقرَّ بها وهو في الأربعين من العمر".
وفي روما أنشأ أفلوطين مدرسته التي ظفرت بتأييد الإمبراطور جالينوس الذي حكم من 260 إلى 268، فكفاه بذلك مئونة الإنفاق على المدرسة، ويبدو أن المدرسة كانت تستقبل النساء كما تستقبل الرجال، ويستطرد الأهواني فيقول عن افلوطين: "كان هدف أفلوطين من المدرسة أن تكون نبراسًا يهدي النفوس إلى التقوى والصلاح والخير، فكان يصرف تلاميذه عن الاشتغال بأمور الدنيا، ويحملهم على حياة من الزهد توصل إلى شفاء النفس بالتجرُّد عن جميع العلائق وإماتة سائر الشهوات، وكان هو نفسه مهملًا أمر جسده محتقرًا إياه، ممتنعًا عن أكل اللحم، وقد استهوت هذه التعاليم كثيرًا من التلاميذ، حتى إن «روجاتيانوس» عضو الشيوخ نزل عن أملاكه وأمواله وعبيده وألقابه، وسار في طرق الزهد حتى أصبح لا يأكل إلَّا مرةً واحدةً كل يومين. وكان للناس -رجالًا ونساءً- فيه اعتقاد عظيم، حتى إنهم عندما كانت تحضرهم الوفاة يعهدون بأبنائهم وبناتهم وما يملكون لرعايته ووصايته، فكان منزله يعج بالصبيان والبنات، وكان إلى ذلك يقوم بتعليمهم الأدب والشعر، ويأخذ بيدهم إلى طريق الفلسفة، ويحتفظ بأموالهم لا يمسُّها حتى يبلغوا مبلغ الرجال وسن الرشد".
وكانت المدينة الفاضلة الحلم الذي راود معظم الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم أفلاطون صاحب الجمهورية أو المدينة الفاضلة المثالية، وانتهز أفلوطين فرصة منزلته عند الإمبراطور جاليانوس وزوجته سالونينا، تلك المنزلة التي كادت تبلغ التقديس والعبادة، فطلب منهما أن يعيش هو وأتباعه في «كامبانيا» التي كانت فيما يُروى مدينةً للفلاسفة في قديم الزمان، ثم تهدَّمت وخربت. ورأى أفلوطين إعادة بناء المدينة، وأن يعيش السكَّان في ظل القوانين التي يضعها لهم، ويُسمِّي المدينة «فلاطونوبوليس» Platonopolis. ومعنى بوليس Polis باليونانية مدينة، ومنها هليوبوليس إحدى ضواحي القاهرة، ومعناها مدينة الشمس. وعزم أفلوطين الإقامة مع أتباعه في تلك المدينة لولا أن حُسَّاده في البلاط حالوا بين الإمبراطور وبين تنفيذ وعده.
ويمضي الأهواني قائلا: "كان أفلوطين في التاسعة والخمسين عندما اتصل به فرفريوس قادمًا من أثينا، وظلَّ أفلوطين زُهاء عشر سنوات لا يُدوِّن شيئًا ولا يكتب فلسفته، بل يتحاور مع جماعة من الأصحاب على أساس ما تعلَّمه من أمونيوس، ويمضي فرفريوس في روايته بعد ذلك قائلًا: إنني حين أول ما التقيت به، كان قد ألَّف خمسًا وعشرين مقالةً -وستسمَّى المقالة فيما بعدُ تاسوعًا- حصلت عليها، على الرغم من أنه لم يُعطِها إلَّا لعددٍ قليل جدًّا، والحقُّ أنها وُزِّعت بعناية شديدة، ولم يضع أفلوطين لهذه المقالات عناوين، فاجتهد كل من حصل عليها أن يضع لها العنوان المناسب، وظللت على صلةٍ وثيقة به مدة ست سنوات، وألَّف بعد ذلك أربعًا وعشرين مقالةً أخرى، ثم أرسل لي حين كنت بصقلية وقبل وفاته بمدة قصيرةٍ أربعًا أخرى، فأصبحت جملتها أربعًا وخمسين. وعندما نشر فرفريوس هذه المقالات قسَّمها ستة أجزاء، في كل جزء تسع مقالات، ومن هنا جاء اسمها وهو «تاسوعات أفلوطين»، وقد نُقِلَ بعضها في عصر الترجمة وسُمِّيت كتاب «الربوبية»، ونُسبت خطأً لأرسطو، قام بالترجمة ابن ناعمة الحمصي وصحَّحها يعقوب الكندي".
|