القاهرة 26 مارس 2024 الساعة 12:51 م
بقلم : محمود يسري حلمي
يتعرض مجتمعنا العربي لجائحة شرسة مخطط لها مع سبق الإصرار والترصد؛ تستهدف هذه الجائحة طمس الهوية الثقافية ؛ وبالتالي الوطنية والقومية .
ولأن الثقافة هي المرتكز الأساس في تشكيل ملامح الهوية ؛ فهي المجال المغزو بكل الوسائل الممكنة لتحقيق عملية الطمس تمهيدًا إلى المحو .
وأول من يصيبه الأذى من هذه العملية هم الأطفال الذين يمثلون رصيد آمالنا للمستقبل الذي ننشده .
وتتجسد عملية الطمس في مظاهر عديدة ؛ أخطرها عدم الاهتمام باللغة القومية ، وإحلال لغات أخرى أجنبية تسربل الحياة بالتشوهات والعوار .
إن التعليم في بلادنا يعاني أزمة شديدة ؛ أدت إلى تدني مستوى الأطفال علميًّا؛ وهذا ينسحب على طرق ووسائل تعليم اللغة العربية . وقد تسبب في تدني مستوى التعليم اللغوي عدد من الأسباب أهمها المستوى الهابط للمناهج التعليمية ، وضعف المستوى التأهيلي لمعظم المعلمين علميًّا وتربويًّا وفنيًّا ؛ بالإضافة إلى الأسباب التي تنسحب سلبًا على العملية التعليمية برمتها.
ومن مثالب النظام التعليمي السماح بانتشار مدارس اللغات الأجنبية والمدارس ( الإنترناشيونال) التي تجتذب فئات أثرت دون حساب ؛ فاندفعت تتكالب على إلحاق أبنائها بهذه المدارس .
ولقد انتشر هذا النوع من المدارس بشكل وبائي ؛ مابين مدارس إنجليزية وفرنسية وألمانية وأخيرًا يابانية ؛ فنتج عن ذلك جيل ممن لا يعرفون لغتهم الأم، ولا يتحدثون بها، وقد يخجلون منها ويتباهون بمعرفتهم باللغات الأخرى ؛ بل يسخرون من غيرهم ممن لا يتصرفون بالمثل .
وامتد الأمر إلى التعليم الجامعي ؛ استكمالًا لحالة التدهور ؛ فأنشئت إلى جانب الجامعة الأمريكية - الموجودة منذ زمن بعيد وكانت وحيدة في القاهرة– جامعة بريطانية ، وجامعة فرنسية ، وأخرى ألمانية ، وأخيرًا جامعة يابانية ، وغيرها .
وهذا لا يعني أننا ضد تعليم اللغات أو ننكر أهمية تعلمها ، لكننا نصبو إلى أن يتم ذلك دون جور على لغتنا الأم ، وأن يكون الاهتمام أساسًا بلغتنا القومية، ويكون تعليم اللغات الأجنبية إضافيًّا إليها؛ وليس غالبًا عليها .
وخطورة الأمر لن تقف عند حدود اللغة ؛ بل سيكون له أثر اجتماعي خطير؛ بحدوث فجوة اجتماعية طبقية تقسم المجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ، وتحدث صدعًا في تكوينه وتماسكه .
إن من يمشي في شوارع مدننا ستلاحق عينيه إعلانات منتشرة في كل مكان مكتوبة بإحدى اللغات الأجنبية ، وقد يلحظ أحيانًا أن بعضها القليل مصحوب بالاسم العربي كترجمة لما هو مكتوب .
ومن يراقب أسماء المحال المنتشرة في الشوارع يكاد لا يجد إلا القليل جدًّا مكتوبًا بالعربية ؛ ولقد استفحل الوباء إلى حد وصوله إلى القرى والحواري والأزقة.
والمهزلة الكبرى تتجلى في إعلانات التلفزيون وأسماء البرامج ؛ بل حتى أسماء القنوات المحلية ؛ بما فيها الرسمية التابعة للدولة ، وكذلك عناوين ونهايات البرامج والأفلام والمسلسلات . ويبلغ الأمر ذروته عندما تصدمنا أسماء أماكن وجهات رسمية تتسمى بأسماء أجنبية .
إن معظم الشركات والمؤسسات الاقتصادية صارت تشترط لمن يلتحق للعمل بها أن يؤدي عمله باللغة الإنجليزية ، وما يصدر عنها من مستندات ومراسلات لا تكون باللغة العربية .
ما أبأسنا حين نرى شبابنا و شاباتنا و أطفالنا يرتدون قمصانهم موسومة بالعلم الأمريكي أو بعبارات إنجليزية ، ومنها ما تنتجه شركات ومصانع محلية ! هذا بدلًا من الاهتمام بأن توشى هذه الملابس بالخط العربي الذي يغتني بجماليات عالية.
وحتى مجلات الأطفال ؛ يصر بعض رؤساء تحريرها على إفراد بضع صفحات في آخرها باللغة الأجنبية ؛ بحجة أنها موجهة لأطفال مدارس اللغات و( الإنترناشيونال ) ؛ كما لو كانت صفحتان أو ثلاث صفحات ستفي بتثقيف هؤلاء الأطفال ؛ وهم لديهم ما يكفيهم من دونها . أليس هذا انجرافًا دون وعي للتيار السائد ، ومشاركة تسهم في ترسيخ وتعميق الكارثة ؟
ومما يلاحظ أيضًا أن إنتاج الأفلام والمسلسلات الموجهة للأطفال قاصر جدًّا، ولا يفي بما تقتضيه الحاجة . ويكون البديل المقدم لهم هو الأفلام والمسلسلات الأجنبية التي تزرع في وجداناتهم أفكارًا وقيمًا غريبة على مجتمعنا و ثقافتنا ؛ ومنها ما هو سلبي وضار ، كما أن هذه الأفلام والمسلسلات تبتعد بهم عن لغتهم الأم ، وعن أصالة الثقافة التي ينبغي إشباعهم بها .
كل هذا يقتحم بإلحاح وجدان وذائقة المواطنين ؛ وبخاصة الأطفال الذين – دون أن يدروا – يكونون محاصرين بما يفرض عليهم ويتسرب إلى تكوينهم النفسي والذهني ويحتل وجداناتهم دون استئذان ؛ فيغرقون في دوامة ومتاهة التغريب.
|