القاهرة 19 مارس 2024 الساعة 11:34 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
تنطلق رواية أمين معلوف، "أخوتنا الغرباء" من أسطورة إغريقية عن الفيلسوف اليوناني القديم "إمبيدوقليس" صاحب نظرية عناصر الطبيعة الأربعة. وهذه الأسطورة تقول إن البشر قديمًا انقسموا إلى نوعين: بشرٌ مظلمون عاشوا فى النور، وبشر عاشوا فى الظلام ينشرون النور.
فى الرواية التى جاءت على أربعة مفكرات، المفكرات التي كان يدونها آلكسندر بطل الرواية الرسام، كيوميات لحياته على الجزيرة النائية. فالجزيرة بما يحاوطها من مياه المحيط كانت محور المفكرة الأولى بشكل خاص لتكون المكان والمسرح الذى تدور عليه أحداث العالم.
مثّلَ المكان، خاص وعام، فى رواية أخوتنا الغرباء شخصية رئيسية متفردة. فكان المكان ملاذًا للبعض ومنفى لآخرين. تبدأ حكاية المكان كملاذ عندما أاشترى والد آلكسندر جزيرة نائية "أنطاكية" فى أرخبيل ششيرون ليزرع أرضها ويبني بيده كوخ ريفي يسكنه وأولاده وزوجته، لكن لم يُقدّر له اللجوء لملاذه. وبعد سنوات حقق الابن، المحامي الذى تحوّل إلى رسام، مسعى الأب. ذهب ليسكن الجزيرة وعمّرها بمفرده فى البداية، مستأنسًا بوحدته التى لا يخرقها إلا بمزاجه عندما يرجع للاستمتاع بصخب العالم لفترة. وعلى الطرف الآخر من الجزيرة جاءت بعد اثنى عشر عاماً الروائية"آيف جيل" منفية.
وكما سكن الرسام والروائية الطرفين القصيين من الجزيرة، كانت كذلك نفسياتهما وشخصياتهما ومآربهما من العيش فى الجزيرة. فالرسام يحب العالم والحياة والناس لكنه بحاجة إلى الابتعاد عن كل شيء ليقيّم ذاك العالم بنظرة أكثر هدوءًا وشمولية فكانت الجزيرة بالنسبة له ملاذًا يستطيع العودة منه للتماهي مع العالم وقتما يشاء. لكن على النقيض كليًا كانت الروائية "آيف" التى هرعت للجزيرة كمنفى اختيارى. وقد كرهت العالم بأسره ونقمت عليه وتمنت هلاك البشرية بعد فشلها فى علاقتها مع العائلة والأهل والأصدقاء، حتى مع قراء روايتها الوحيدة التى صنعت لها نجاحًا مدويًا.
مثلت الجزيرة فى الرواية عالمًا قائما بذاته لا يربطه بالعالم المألوف سوى ممر جواي. الممر الذى كان بمثابة الحبل السري الذى يربط ساكني الجزيرة الوحيدين بالعالم الخارجى، وفيما بعد سيمثل الدور نفسه باتجاه معاكس حيث ستفد من خلاله أفواج الناس إلى الجزيرة طلبا للاستشفاء.
المفكرة الثانية خرجت من الحيّز المكاني الضيق للجزيرة المحددة بمياه المحيط، إلى الحيّز المكاني الأكثر رحابة والمتمثل فى كوكب الأرض بأسره. وأضحت الأرض مسرحا لأحداث تسير بالتوازي فى خطين لنوعين من البشر، بشر وصلوا إلى قمة التطور ومتواريين فى الظلام لكن بعقول مستنيرة وهم قوم إمبيدوقليس وجاؤوا لإنقاذ الأرض وأهلها، وبشر متخلفون يعيشون فى النور بعقول مظلمة ويسعون لتدمير كوكبهم بكل الطرق.
تصحو البشرية ذات يوم على انقطاع فى كل وسائل الاتصال والكهرباء، خيّم شبح العصر الحجري على أبناء القرن الواحد والعشرين، وذلك بعد الأنباء عن انفجارات نووية وشيكة ستفني البشرية جمعاء.
وهنا تتجلى أسطورة صيغت عن الفيلسوف اليوناني القديم"إمبيدوقليس" القائلة بانقسام البشر، ممزوجة بالنظرية الفلسفيلة المعروفة عنه والقائلة بأن "الحب والبغض هما المحركان الأساسيان للعالم" النظرية التى رمز إليها معلوف فى الرواية بشخصيتي "آلكسندر وآيف" و"بشر الأرض، والأخوة الغرباء".
فى هذا الجزء الفنتازيمن الرواية يأتي إلى البشر، قوم ليسوا مختلفين تماما فى الهيئة الخارجية، جاؤوا لينقذوا البشرية من الهلاك المحتم بحروب نووية بدأت بتفجيرات صغيرة فى بعض البقاع. وأيضا قضوا على الأسلحة الأشد فتكا من القنابل النووية وهى الأسلحة الكيميائية. السبب فى مجيئهم بسيط وهو أننا كبشر اكتشفنا أننا أخوتهم، ولأنهم الطرف الذى يمثل الحب الذى لن يسير العالم إلا به.
وهنا تأتى دلالة اسم الرواية، فالأسطورة تقول إن لنا أخوة لا نعرفهم افترقوا عنا من الأزمنة السحيقة وشيدوا حضارة مختلفة فى مكان لا نعرفه وحين احتجنا إليهم ليحمونا حتى من أنفسنا وجدناهم. وهكذا أغاثنا "أخوة غرباء" لم نعرف بوجودهم قبل الكارثة.
تلقي المفكرة الثالثة الضوء على "الأخوة الغرباء" ومدى تطور حضارتهم. فهم قادرون وببساطة على اجتراح الأعاجيب "المعجزة الإغريقية". نرى كيف عطلوا كل وسائل الاتصالات، بكل سهولة قطعوا الكهرباء، وشوشوا إرسال موجات الراديو.
أيضا تقدمهم الطبي المهول الذى حوّل الأمراض إلى مجرد ذكرى باهتة من التاريخ البشري بعدما وجدوا علاجات تغلبوا بها على كل الأمراض. محوا الشيخوخة والعجز حتى بلغ الواحد منهم مئة عام، ويبدون فى هيئة وصحة شاب فى العشرين. وعند مقارنة طبهم بطب بشر الأرض تبيّن أن طبنا غارق فى البدائية، وهذا ما أقر به الجميع بعد وصول ممرات وسفن الاستشفاء التى يدخلها المريض ليخرج وقد شفي من جميع أمراضه بكيفية مجهولة خلال دقائق.
تمتلئ الرواية بسرد المتناقضات، مثل قوم إمبيدوقليس الذين جاؤوا لتخليص البشرية من الشرور وفى الوقت عينة كانوا سبب النكبة وحدث ذلك بعدما ألمح أحدهم أنهم يريدون السيطرة على البشرية مقابل إنقاذهم، بذريعة تعليمهم وتطويرهم. لكن المقابل الحقيقى والذى كان يخشاه بعض العقلاء، هو استعباد حضارة الأخوة لبشر الأرض.
فببساطة، وهى الرمزية المجسدة ربما فى واقعنا، تشبه استعباد واستغلال أصحاب المكتشفات العلمية والشعوب الأكثر تطورًا للشعوب الجاهلة. تمثلت النكبة أيضًا فى إمكانية استغلال بعض بشر الأرض لهذا التطور فى العلوم للسيطرة على بنى جنسهم واقتصار تحصيل الفائدة على البعض دون الآخرين. والأخوة أيضًا تسببوا لأنفسهم فى مأساة قتل بعضهم على يد بشر الأرض، وكانوا قبل مجيئهم يتوقعون حدوث ذلك. فالسلام الذى ينادون به لم يكن من مصلحة الجميع. وبتضحيتهم هذه حذوا حذو آباهم إمبيدوقليس الذى ألقى بنفسه فى فوهة البركان.
تؤكد الرواية فى المفكرة الرابعة، على الغرور الذى أصاب البشرية فأعماها عن احتمالية وجود حيوات أو حتى كيانات مختلفة فى هذا الكون الفسيح وربما كانوا أكثر تطورا منهم. ليجعل أولئك الآخرين من بشر الأرض مجرد سكان أصليين غزاهم صاحب الحضارة الأكثر تطوراً وجعل من نفسه وصيًا عليهم، وهو الأمر الذى يؤكد عليه أمين معلوف عندما قارن حال بشر الأرض وبشر إمبيدوقليس، تمامًا كحال الأمريكيين عندما حلوا غزاة على الهنود الحمر.
جاءت نهاية الرواية ملحمية لتؤكد على فكرتين ربما كانا أملا صعبًا إن لم يكن مستحيلا لدى أمين معلوف وآخرين. الفكرة الأولى: ترابط البشرية جمعاء كوحدة واحدة، وتحقيق نظرية أن المخلّص الوحيد للبشرية هم البشر أنفسهم.
فالمخلصون الذين جاؤوا فجأة من العدم وأنقذوهم مرة، اختفوا ذات لحظة بالبساطة نفسها. وعندما عاد ممثل المخلصين بعد مناشدات بشرية، لم يفتأ ينادي بأن النضج البشري هو السبيل الوحيد للخلاص، التخلى عن الحروب والتطاحن، وعدم اتخاذ البشر عدوًا لهم سوى الموت. الفكرة الثانية هى: تحقيق اتحاد المتناقضات المذكورة آنفًا، في الجيل القادم. وهو ما عبر عنه معلوف بمولد الطفلة "إلكترا" التى جاءت نتيجة لتزاوج وامتزاج ساكني الجزيرة الوحيدين والذين كانا على طرفي النقيض فى كل شيء.
تعتبر هذه الرواية على بساطتها وفنتازيتها، فكرة مُكمّلة لما ينادي به معلوف فى مقالاته وكتاباته كافة والتى يصوغها بطريقة فلسفية عن ماهية الأسباب التى تحول كل نتاج بشري إلى أداة تناحر، وهو الأمر الذى سيثير في ذهن القارئ تساؤلات تدفعه للتفكير في العالم بشكل مختلف.
|