القاهرة 05 مارس 2024 الساعة 11:55 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
يستطيع القارئ العزيز أن يعتبر هذا الكتاب، الذي جمعتُ فيه مختارات من مقالاتي عن الفن، صفحات من حياتي أو جانبًا من مذكراتي، فأنا في الفن لم أكن مجرد مشاهد أو مستمع أو متلق، وإنما كنت عاشقًا منفعلًا متبتلًا، مشاركًا للفنان الذي أقف أمام عمله في التعبير عما في خياله ووجدانه، معتقدًا دائمًا أن الفن لغة يعرفها كل البشر، ويتخاطبون بها ويتفاهمون حين يعجزون عن التفاهم لو تخاطبوا بألسنتهم إلا إذا تحول الكلام إلى فن. عندئذ يصبح لغة إنسانية مشتركة كما نرى في لغة الشعر والرواية والمسرح.
هذا ما يخطه الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي بقلمه في كتابه "في معبد الفنون" الصادر حديثًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، وفيه يرى أن الفنون تعددت وأصبحت تراثًا إنسانيًّا مشتركًا، في ظل وجود إسهام متميز في هذا التراث لكل شعب، مشيرًا إلى أن المسرح لم يعد فنًّا يونانيًّا، بل أصبح منذ وقت طويل فنًّا إنسانيًّا نشاهده ونستمتع به في كل بلاد العالم، وما يقال، يقول حجازي، عن المسرح يقال كذلك عن النحت والتصوير والموسيقى والغناء والرقص والشعر كذلك.
هنا يذكر حجازي تجربته الشخصية مع هذه الفنون إذ بدأ في صباه نحاتًا يلعب بالطمي، ثم انتقل بعد ذلك للعزف على الكمان، حتى وصل إلى الشعر معتقدًا أنه يمثل الفن الجامع أكثر من غيره، فهو، أي الشعر، تصوير وتمثيل وإيقاع وموسيقى، مشيرًا إلى أن اللغويين والنقاد العرب القدماء انتبهوا لما بين الشعر والفنون الأخرى، خاصة الموسيقى والتصوير، من تواصل وتوافق، مؤكدًا أن الفنون تنبع من بئر واحدة وهي توق الإنسان للحرية، والحرية، كما يقول هيجل، هي الروح الذي يعمل على أن يحقق ما يجده في نفسه من مثل أعلى للجمال، ذاكرًا أنه وهو بصحبة أي فن من هذه الفنون يشعر وكأنه في معبد للجمال، مضيفًا هنا أن الإنسان في فن النحت يخلق الحياة من جديد، ويدافع عنها، ويخلدها، ويمكن أن نقول إن كل إنسان نحات بطبعه، لأن كل إنسان مفطور على حب الحياة والدفاع عنها.
حجازي الذي يكتب هنا عن عدد من الفنون المختلفة منها العمارة، النحت، المسرح، السينما، الموسيقى، الأوبرا، يذكر، في سياق حديثه عن فن العمارة، ما قاله المعماري الفرنسي موسوعيّ الثقافة إتيان لويس بوليه من أن مصر هي أم العمارة في العالم كله، رغم أنها انحطت، مضيفًا، حجازي، أن العمارة فن تُلبّى به أهم مطالب الحياة الاجتماعية، كل ما شيد على الأرض ليسكنه البشر ويستقروا فيه أقيم بفضل هذا الفن الخيّر الجميل، متسائلًا أية معجزات يحققها هذا الفن الجميل بوسائله الخاصة؟ مجيبًا أن فن العمارة يستطيع، عند الحاجة، أن يغيّر مجرى النهر، ويعيّن له مجرًى جديدًا، ويعرف كيف يبني لنا فوقه طرقًا لها صلابة الطرق البرية، ويفتح صدر الأرض ليحفر لنا في أحشائها أنفاقًا، أو يُعلق بين قمم الجبال جسورًا ممدودة في الهواء، والعمارة، يقول الكاتب، هي الفن الذي يتحدى هيجان البحر ويحتويه داخل حدود يُعينها له، وهناك معجزات لفن العمارة نراها عند الإغريق الذين عرفوا "شِعر العمارة" أي فن وضع الطبيعة موضع الاستخدام.
حجازي الذي يعتبر أن السينما هي فن المدينة الحديثة، لأنها ثمرة من ثمار الثورة الصناعية والتقدم العلمي والتقني، ولأنها تتجه إلى جمهور المدينة العريض، يقول عنها كذلك إنها قلعة من قلاع الثقافة المصرية الحديثة، وضلع من أضلاع المثلث الذهبي الذي استطاعت به مصر أن تلعب دورها الطليعي في المنطقة العربية، وتساهم في تشكيل الوجدان القومي، وترسيخ شعور العرب بأنهم أمة واحدة قادرة على أن تنهض وتتقدم، ذاكرًا أن الفيلم المصري والأغنية المصرية هما الضلعان الآخران اللذان حملا رسالة مصر إلى ملايين المستمعين وجماهير المشاهدين بين الخليج والمحيط، معلنًا تفاؤله بمستقبل السينما المصرية، لأنها لها تراث عريق من الصعب أن نتنكر له، ولأن إمكانياتها الفنية الآن تفوق إمكانياتها في أي وقت مضى.
الكاتب الذي يقر أن الموهبة وحدها لا تكفي في الشعر، وكذلك فن الباليه ليس موهبة فقط وإنما هو علم وتراث وقواعد ومذاهب، حين يتحدث عن حرية التعبير يكتب قائلًا إنه لا يزعجه أن يصدر له كتاب فيقاطعه القراء، أو يكيلوا له التهم، أو يرفعوا أمر المؤلف إلى القضاء، وإنما يزعجه ألا تدافع مؤسسات الدولة عن حقه، ككاتب، في أن يفكر ويكتب كيفما يشاء، ويصدر ما يشاء من الكتب التي يستطيع القراء أن ينددوا بما جاء فيها، دون أن يكون من حقهم أن يصادروها أو يحولوا بينها وبين من يرغب في قراءتها، مستنكرًا ابتزاز الدولة من قِبل من يتاجرون بالدين، مؤكدًا أن المثقف، في ظل عدم وجود قانون يحميه ويكفل له حقه في حرية التعبير، يبدو غير مرغوب فيه ويشعر بالاغتراب ويقف وحيدًا في مواجهة الجميع.
كذلك حين يتحدث حجازي عن ميلاد الموسيقى يقول إنه إذا كان جمهورنا الواسع يشعر نحو الموسيقى السيمفونية بالاغتراب، فهذا ما يشعر به الجمهور الأوروبي الواسع، لأن الموسيقى السيمفونية نوع راقٍ من الإبداع والتأليف يحتاج إلى إعداد واستعداد، ولا يتذوقه إلا الجمهور المثقف في كل بلاد العالم، ذاكرًا أن التراث تكمن فيه كل بذور التجديد، وفي هذا تتفق كل ثقافات البشر، كما يلفت الانتباه إلى أن الإخراج العبقري هو تلك العصا السحرية التي تقود بإشارات لا تكاد تُرى كل هذه الآلات، وتؤلف بين هذه النغمات، وتستثير في العازفين عواطفهم، وتأخذهم من حركة إلى حركة، ومن أغنية إلى صرخة، ومن سكون إلى انفجار.
هنا، وفي كتابه الذي يضم اثنين وسبعين مقالًا تشغل خمسمائة صفحة تقريبًا، ويقول فيه إن الطغاة لا يتورعون عن ارتكاب الحماقات، يخصص حجازي عددًا من هذه المقالات للمسرح، وها هو يقول كما أن إحياء المسرح القومي هو الطريق إلى إنشاء مسرح تجريبي، فالمسرح التجريبي يستطيع، بما يملكه من طاقات شابة متفجرة متحررة، أن يوقظ المسرح القومي من نومه، ويضطره للدفاع عن نفسه، ومقاومة الأخطار التي تهدده، كمل يفعل المصل الذي نحقن به الجسم الضعيف المتهافت فيكتسب الحصانة والمناعة وينجو من الهلاك.
حجازي الذي يذكر أن صمويل بتلر كان كاتبًا وموسيقيًّا، وبودلير كان شاعرًا وناقدًا فنيًّا، وكان جبران خليل جبران شاعرًا ورسامًا، وكانت نازك الملائكة شاعرة وموسيقية، وكان صلاح جاهين شاعرًا ورسامًا، يكتب هنا عن عدد من الفنانين منهم آدم حنين، جورج البهجوري، أحمد شيحا، عبد الغني أبو العينين، كما يتساءل، معلقًا على موت ألفريد فرج، لماذا نموت ولا نولد من جديد! لماذا نؤدي للموت حقه، ولا تؤدي لنا الحياة حقنا؟ لماذا يذهب السلف ولا يأتي الخلف؟ وهل يمكن أن يظهر في مصر ألفريد فرج جديد؟ هل يمكن أن تزدهر فيها ثقافة؟ كما يتساءل إذا كان الكثيرون يخلطون بين العلم والخرافة، فكيف لا يخلطون بين رقص الغوازي والباليه؟ وما هو المطلوب من الفنانين المصريين؟
|