القاهرة 27 فبراير 2024 الساعة 01:04 م
بقلم: د. حسن العاصي - باحث فلسطيني مقيم في الدنمرك
يعتبر كثير من المنظرين الغربيين أن الغرب يخوض معركة ثقافية مع المهاجرين المسلمين، حيث إن للثقافة جذورًا في الدين، وبالتالي يمكن للإسلام أن يخلق فوضى ثقافية في أوروبا.
هل يمكن دمج المسلمين في أوروبا، وهل ينبغي توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل الدول الإسلامية؟ هذان هما السؤالان الأساسيان اللذان يشكلان أساساً لنقاش العديد من المفكرين الغربيين الذين ينتقدون بشدة سياسات الهجرة الأوروبية.
كتاب "الإسلام كتحدي في الاتحاد الأوروبي: الفوضى الثقافية على الطريق؟" Islam som udfordring i EU : kulturkaos på vej? للكاتب الدنمركي "بول أندرسن" Poul Andersen يشكل مساهمة جدلية ومهمة في المناقشة الدائرة حول الهجرة والتنمية الاجتماعية، لأنه يركز في الأساس على الثقافة باعتبارها شيئًا أساسيًا للتماسك في أوروبا. في عصر العولمة والعابر للحدود، حيث أصبحت الديمقراطية وحقوق الإنسان في كثير من الأحيان الأساس المشترك الوحيد لتعاون الاتحاد الأوروبي. تشير العديد من المساهمات إلى أن الثقافة الأوروبية - وبالتالي المسيحية أيضًا- هي قضية مهمة في التنمية لمستقبل أوروبا.
يذكر بول إريك أندرسن في فصله التمهيدي أن مستقبل سكان أوروبا الأصليين مهدد ولا يمكن التنبؤ به إذا لم تأخذ التنمية في الاعتبار حقيقة أن الثقافة الأوروبية متجذرة في المسيحية. ويشير إلى أن الأنثروبولوجيا الثقافية الكلاسيكية نظرت إلى الثقافة باعتبارها بُعدًا محددًا يجب فهمه من خلال المجتمع الوطني، الذي تم إنشاؤه من خلال اللغة والتاريخ والدين. اليوم، أصبحت المفاهيم الثقافية الثابتة نسبية، ولهذا السبب ليس من المشروع الادعاء بأن بعض المواقف أو التقاليد أفضل من غيرها. ويشير إلى أن انتقادات الحضارة في الغرب، والتي أعقبت الحرب العالمية الثانية، قوضت الثقة وفهم التراث الثقافي الكلاسيكي، مما جعل السكان الأوروبيين غير مستعدين لهجرة المسلمين. "فقط إذا أمكن توحيد هذه القيم في هدف مشترك، ستتمكن أوروبا من حل المشاكل الناجمة عن الهجرة"، كما يعتقد ويشير إلى أنه من الضروري لأوروبا تعزيز هويتها الثقافية.
ومن بين المنظرين وجهات نظر معروفة لمعارضين معروفين للهجرة والاتحاد الأوروبي. مثل الفيلسوف الدنمركي "كاي سورلاندر" Kai Sørlander الذي يشير في كتاباته المثيرة، إلى الصعوبات التي يواجهها الإسلام مع الديمقراطية من خلال التعمق في جوهر الدين. لقد تم بناء الإسلام، على النقيض من المسيحية، كدين دولة مع فكرة مركزية مفادها أن الدين هو مصدر التشريع. ولذلك، لا يوجد في الإسلام طريق داخلي لعلمنة السياسي، ولهذا السبب تواجه الثقافات الإسلامية مثل هذه الصعوبة في تطوير الديمقراطيات، كما يقول.
وفي كتابه "الدفاع عن العقلانية: الدين والسياسة من منظور فلسفي" Forsvar for rationaliteten: religion og politik i filosofisk perspektiv يرى "سورلاندر" أن المسيحية لعبت دورًا مهمًا في تطوير الديمقراطيات العلمانية وحقوق الإنسان المستقلة عن الدين في العالم الغربي. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى حقيقة أن المسيحية - على النقيض من الإسلام - لديها تقليديا فصل واضح بين السياسة والدين "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وبالتالي فإن إمكانات العلمنة أكبر داخل المسيحية.
يؤكد الكاتب البريطاني المعروف "دوجلاس موراي"Douglas Murray في كتاب "الموت الغريب لأوروبا: الهجرة والهوية والإسلام" The Strange Death of Europe: Immigration, Identity, Islam الذي صدر عام 2017، أن الحضارة الأوروبية كما كانت تاريخيًا لن تستمر. ويستكشف عاملين في تفسير ذلك: الأول هو الجمع بين الهجرة الجماعية للشعوب الجديدة إلى أوروبا مع انخفاض معدلات المواليد. والثاني هو ما وصفه موراي بأنه "حقيقة أنه في الوقت نفسه فقدت أوروبا إيمانها بمعتقداتها وتقاليدها وشرعيتها".
عنوان الكتاب مستوحى من كتاب "جورج دانجرفيلد" George Dangerfield الكلاسيكي للتاريخ السياسي "الموت الغريب لإنجلترا الليبرالية"، الذي نُشر عام 1935.
الموضوع الرئيسي للكتاب هو الهجرة واسعة النطاق من الدول الإسلامية إلى أوروبا، وتأثير ذلك على الثقافة الغربية، والمؤسسات السياسية والاجتماعية. يقدم الكتاب أيضًا تحليلاً شاملاً للمتطلبات الاجتماعية والثقافية للهجرة الجماعية. الكتاب يقدم وجهة نظر محافظة ومنتقدة للهجرة، ويُعتبر كتاب متشائم وكئيب للغاية، وهو ما يشير إليه بالفعل عنوان الكتاب. الرسالة واضحة بالفعل في الجملة الأولى من الكتاب: "أوروبا على وشك الانتحار". والسؤال هو ما إذا كان موراي قادرًا بشكل مُرضٍ على تبرير تشخيصه وتوقعاته المجتمعية.
نقطة البداية لتحليلات موراي هي الوضع الديموغرافي في أوروبا. حيث تعاني جميع الدول الأوروبية تقريبًا من شيخوخة سكانية شديدة. والسبب هو ارتفاع أعداد المواليد في العقد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، وانخفاض معدل المواليد الحالي بين العرقيين الأوروبيين. وإذا أُريد أن يظل حجم السكان مستقرًا، يجب أن يكون لدى كل زوجين ما معدله 2.1 طفل.
واليوم، لا توجد دولة أوروبية واحدة يتحقق فيها هذا الأمر. تتمتع الدول الاسكندنافية ـ على سبيل المثال ـ بواحد من أعلى معدلات الخصوبة في أوروبا حيث يبلغ 1.86، وهو ما لا يزال أقل بكثير من المستوى الذي يمكن أن يبقي السكان من أصل أوروبي عند مستوى مستقر. وللمقارنة يمكن الإشارة إلى أن المعدل في ألمانيا هو 1.44.
يوجد في أوروبا اليوم ثلاث مجموعات فقط من الناس لديهم ثلاثة أطفال أو أكثر وهم الأغنياء والفقراء والمهاجرون الجدد. ومع ذلك، فرغم أن هناك زيادة في عدد السكان في العديد من البلدان الأوروبية، فإن ذلك يرجع إلى الهجرة، وأن المهاجرين لديهم أطفال أكثر من الأطفال ذوي الأصل الأوروبي.
تحتل الصومال المركز الثالث كبلد منشأ للمهاجرين في بلد مثل النرويج، بعد بولندا وليتوانيا. في الصومال، يبلغ معدل المواليد 5.99، وهو رابع أعلى معدل في العالم بحسب بيانات عام 2021.
لقد أدى انخفاض معدلات المواليد بين الأوروبيين العرقيين، والهجرة، وارتفاع معدلات المواليد بين المهاجرين في العديد من البلدان الأوروبية إلى وجود نسب عالية من ذوي الخلفيات الأجنبية. تبلغ نسبة المهاجرين في الدنمرك 15.4%، وفي النرويج 17%، وفي السويد حوالي20%.
يذكر موراي في كتابه أن التحليلات الديموغرافية تظهر أن السويديين العرقيين قد يصبحون أقلية في بلدهم في حياة معظم السويديين الذين لا يزالون على قيد الحياة. ويعتقد أن الثقافة والعقلية الأوروبية تتميز بنوع من الضجر والازدراء لثقافة الفرد وقيمه الخاصة، وما يصاحب ذلك من إضفاء جمالية مفرطة على الثقافة والتقاليد الإسلامية.
كما يعتقد موراي أن الإرهاق الذي تعاني منه أوروبا يرجع إلى حد كبير إلى تراجع المسيحية. في بريطانيا، يتراجع الدعم للمسيحية بشكل أسرع من معظم الدول الغربية الأخرى. كان ثلثا السكان تقريبًا مسيحيين في عام 2010. وإذا استمرت عملية اجتثاث المسيحية بنفس الوتيرة الحالية، فسوف تنخفض النسبة إلى الثلث في عام 2050. وحقيقة أن أوروبا على وشك أن تفقد دينها وإيمانها بقيمها الخاصة تعني أنها على وشك خسارة تاريخها، لأن المسيحية كانت العمود الفقري لهذا التاريخ كما يرى موراي.
يناقش وزراء الداخلية في الاتحاد الأوروبي باستمرار اتخاذ إجراءات لمنع الدعاية الإسلامية عبر الإنترنت، وتدريب الأئمة على القيم "الأوروبية"، وإيلاء المزيد من الاهتمام لدمج المسلمين. وإذا كان لبعض هذه الإجراءات ما يبررها نظرًا للمخاوف من تزايد الإرهاب المرتبط بالإسلاميين، لكن مثل هذه الأفعال تؤدي غالبًا إلى زيادة العنف والتمييز والكراهية ضد المواطنين المسلمين.
في جميع أنحاء القارة، تمكنت المنظمات والأفراد المعادون للإسلام من تعزيز أجندتهم. أصبحت حركات الشوارع والأحزاب السياسية المعادية للإسلام أكثر شعبية. وقد تم دمج أفكارهم في - وفي بعض الحالات تغذيتها - آلية الدولة الحديثة، التي تراقب المسلمين وتشرف عليهم، وتصورهم كتهديد لحياة الأمة. فمن الشارع إلى الدولة، تغلغلت ظاهرة الإسلاموفوبيا في الحياة السياسية الأوروبية.
أصبحت الأحزاب اليمينية المتطرفة المبنية على الإسلاموفوبيا وسياسات مكافحة الجهاد ناجحة انتخابيًا. لقد أصبح حزب فلامس بيلانج في بلجيكا، وحزب الديمقراطيين السويديين، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب فوكس القومي في إسبانيا، حزب الرابطة وحزب إخوة إيطاليا في إيطاليا، وحزب الحرية النمساوي، وحزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، وحركة مجر أفضل "فيدس" في المجر، وحزب الحرية الهولندي، وحزب الشعب الدنمركي، وحزب الفجر الذهبي في اليونان، وحزب القانون والعدالة في بولندا، أصبحت في الأعوام القليلة الماضية من الأحزاب الرئيسية التي تحظى بدعم كبير. وقد تسربت أفكارهم إلى خطاب وسياسات أحزاب يمين الوسط في جميع أنحاء أوروبا.
إن العلاقة بين الحكومات الأوروبية ومواطنيها المسلمين في حاجة ماسة إلى إعادة ضبط. يشكل مناخ الشك المتبادل تقويضًا لقيم الشمول والتسامح التي يدعي الاتحاد الأوروبي أنه يؤيدها، كما أنه يدعم الادعاء المتطرف بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعايش بين الإسلام والغرب. إن صياغة عقد اجتماعي جديد وتحويله إلى محادثة بناءة تتطلب تحويل التفكير الذي عفا عليه الزمن والاعتراف بأخطاء الماضي ومفاهيمه الخاطئة. وكخطوة أولى مهمة، لا بد من تحدي أسطورة المسلمين الأوروبيين باعتبارهم غرباء إلى الأبد، ويتمتعون بثقافة وعادات تجعلهم أوروبيين "غير حقيقيين" إلى الأبد. وهذا يعني عدم الخلط بين تصرفات أقلية صغيرة من المتطرفين الإسلاميين، وبين معتقدات وسلوك الأغلبية، التي تمقت مثل هذه الآراء. ويعني أيضًا ليس قبول دور الإسلام التاريخي ونفوذه في أوروبا فحسب ـ كما فعل ماكرون ـ بل يعني أيضًا الاعتراف ـ كما فعلت أنجيلا ميركل في عام 2018ـ بأن الإسلام جزء من أوروبا الحديثة.
|