القاهرة 27 فبراير 2024 الساعة 12:46 م
كتبت: سماح ممدوح حسن
وصلت رواية "أعوام الضباب" للكاتب المصري خالد بيومي فهمي إلى القائمة الطويلة لجائزة غسان كنفاني، تلك الرواية التي تقاطعت فيها اتجاهات أدبية متنوعة.. ولا يغيب علينا أن أدب السجون من أهم الأجناس الأدبية العربية، ذلك الجنس الأدبي الذى لم يكن جديدًا أو دخيلا على منتج العرب الإبداعي. فأدب السجون نوع أدبي طُرحت فيه تجربة السجن منذ زمن قديم، حتى إننا نستطيع القول إن شعراء الجاهلية العرب وفى عصر الإسلام كتبوا شعرًا عن تجربة السجن، التجربة التى تمثل أرضا مشتركة بين البشر فى العالم عمومًا وبين الأقطار العربية خصوصًا، وهى الدرب الأدبي الذى كثرت الكتابات فيه شعرًا ورواية وقصة.
من جماليات هذا النوع الأدبي أنه لا يُسرد منفردًا، بل يربط بين الأجناس الأدبية المختلفة، فهو الأدب الذى يستطيع التقاطع مع أنواع أخرى، كأدب السيرة الذاتية كما سنرى فى رواية أعوام الضباب، وأدب الشهادات والتاريخ وربما إذا توسّعنا قليلا فى مفهوم"أدب الرعب غير المألوف بالتأكيد كما سأوضح لاحقا" فهذه الرواية تضمنت منه شيئًا، خاصة عندما تتصدر صفحتها الأولى جملة"مستوحاة مِن أحداث حقيقية".
للنصوص الأدبية عتبات، وأولى هذه العتبات العنوان. وعنوان الرواية "أعوام الضباب" عنوان ينقل القارئ من عالمه الواضح محدد المعالم خارج النص، إلى أبعاد عالم ليس متخيلاً فحسب، بل باهتاً أو حتى متاهة مضببة. لكن للعنوان بالتأكيد صلة وثيقة بالنص. فالعنوان هو النبذة المكثفة المختصرة للدلالة على المتن الذى سيسرد الأفكار الأساسية الذى نوّه عنها غموض العنوان.
فى جزء السيرة الذاتية فى هذه الرواية يحكى الرواي البطل عن حياته قبل مأساة السجن. والذى خُصص لها الفصل الأول ليحكي عن قصة "زين" شاب هو مضرب الأمثال فى الاستقامة والاجتهاد والترقي في العلم والعمل والخُلق. الشاب الذى يعيش فى قصة حب أسطورية مع فتاة أحلامه. تتوج قصة الحب بخطبة العاشقين ويتفقا على موعد الزواج، والذى يحين بعد أيام من العاصفة. نعيم خالص يتجرعه الحبيبان ويصلا لذروة هيامهما، وما إن وصل العشق بهما إلى هذا الحد حتى بدأت العاصفة تزأر.
لكن مِن الطبيعى ألا ينتقل الكاتب من هذه المرحلة إلى المرحلة التالية بالتدريج، فالتدريج مِن طبيعة الأمور العادية، والتدريج كذلك لا يلفت الانتباه، لكن لإيصال الشعور بهذا الانتقال أو بالأحرى الانقلاب لا بد من خلق حدث مزلزل بسردية صادمة. كل شيء يسير على خير حال وفى ثانية واحدة انقلبت الأمور.
فى المرحلة التالية بعد جزء السيرة الذاتية، سيتجلى للقارئ ما ذكرناه آنفا عن أدب الرعب، لكن لم أقصد به الحديث عن كائنات خرافية، بل رعب سلب حياة إنسان بالكامل نُزع عن عالمه فى أقل مِن دقيقة، فقط لأن غيره لم يمتلك من الضمير ما يحمله على تقليل الاستهانة بمصائر البشر! ففى مرحلة ما فى الرواية سيجد القارئ نفسه يقف ليتأكد من أنه لم يقع فى نفس مأزق البطل بتلك الهفوة المنسية.
يكتسب المكان الأهمية الكبرى فى أدب السجون. فهو المسرح الذى يدور فيه الحدث الرئيسى، وتجتمع فيه كل العناصر الروائية كالأحداث والشخصيات والعلاقات بينهما. المكان الذى لم يقتصر وصفه بالرواية كفضاءً جغرافي فقط، بل تقسيمه كطبقات اجتماعية فقراء وأغنياء. تقسيم العنابر بحسب تصنيف تُهم نزلائها. عنبر المحكومين بالإعدام والذين يخشاهم الجميع بمن فيهم حراس السجن أنفسهم، فهؤلاء لن يضيرهم السلخ بعد الذبح ويتصرفون على هذا الأساس. وعنابر لتجار المخدرات وأعضاء المافيا الكبار. وطبقة المستضعفين وهم كُثر يحاولون فقط ألا يفقدوا حيواتهم داخل هذا السعير مع محاولات لتأمين لقمة العيش، وكلٌ له مكانه الموصوف.
والمكان الرئيس فى هذه الرواية "السجن"، هو حيّز مغلق يتسع ويضيق رغم تحديده بجغرافيا معيّنة تعزلة عن العالم الخارجي. يتسع ويضيق ليس فقط لأن السجن، بحسب سرد الشخوص، مقسم إلى عنابر بعضها أضيق وبعضها أكثر اتساعًا، لكن أيضًا بحسب رؤية السجناء أنفسهم للمكان. فهناك شخصية ترى المكان أفضل من الخارج بعدما وجد مصدر رزق بين أسواره، وهناك من رأى أنه مهما اتسع لا يزال جحيم. أيضا شكّل المكان، المكان المفتوح خارج السجن فى جزء السيرة الذاتية من هذه الرواية قدرًا كبيرًا من جماليات الرواية، كوصف الشوارع والساحات أمام البيوت وأماكن اللعب واللقاء.
-
التغيّرات السيكولوجية فى أدب السجون
فى أغلب الأعمال الأدبية التى تُروى عن السجون ثمة نقطة مشتركة فى جميعها وهى التغيّرات النفسية التى عادة ما تطرأ على السجين، سواءً بالسلب أو الإيجاب. ورواية "أعوام الضباب" خير مثال. فى البداية خاصة فى جزء السيرة، نرى كيف انقلبت نفسية البطل من شخصية تجعل من صاحبها قدوة حتى صار عبرة.
لكن ما بين هذين الانقلابين ماذا حدث؟ بالظبط هى تلك التغيّرات التى يُحدثها الظلم فى النفس البشرية. فى البداية دخل "زين" السجن منهارًا يصرخ ويستجدي ويتوسل، لكن بما أن طبيعة المكان المظلوم فيه وحشية، فلم يكن له من سبيل للعيش إلا الاستئساد. أيضًا فقدان معنى الزمن فى السجون من أهم التغيرات التى تطرأ على نفسية السجين. فقد تحول زين من إنسان هادئ لطيف إلى شخص يخافه الجميع ولا يأمنون بطشه، يقاتل حتى موته أو موت خصمه. لكنه الشخص نفسه الذى عاد لفطرته الأولى بعدما رأى أملًا فى الخلاص.
وحتى نتعرف على الرواية كوحدة واحدة لنلقي نظرة على قصتها الأساسية.
شاب يعيش حياة مثالية في كل مناحيها. يتعلم ويعمل ويحب وعلاقته ممتازة بأهله ويتحضر للزواج من حبيبته. في لحظة وجد الرجل نفسه متهما بجرائم لم يرتكبها ولا يعرفها. فإن تدخل السجن فهذا كرب، وإن تجهل تهمتك فهذا كربٌ مضاعف. يُرحّل إلى السجن المركزي وهناك يواصل صراخه واستفهامه وتوسلاته حد الانهيار وأخيرًا عرف الجرم المتهم به. لكنه لا يستسلم ويواصل السعى لإثبات براءته.
ليس بالضروة أن يكتب أدب السجون أديبٌ خاض التجربة وسُجن بشكل حقيقي، فببساطة محور أدب السجون يدور حول "الظلم والمعاناة" أيًا كان الظلم والمعاناة: اجتماعية، أو فكرية، أو قانونية حتى مثل حالة بطل رواية "أعوام الضباب" الذى بدأت رحلة معاناته بظلم الإهمال وظلم السرقة. سرق أحد الصوص جواز سفره وبدّل صورة صاحب الجواز ووضع صورته، ارتكب به الأفعال الإجرامية بعدما انتحل شخصيته. وظلم لأن أحدا لم يكلف نفسه عناء البحث والتدقيق، وظلم بعدما لم يصدق براءته أقرب الناس إليه، الحبيبة والأصدقاء. لكن فى النهاية حقق ذلك النوع من الأدب هدفه وانتصر للمظلوم، وظهرت براءة زين مما نُسب إليه.
|