القاهرة 13 فبراير 2024 الساعة 11:02 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
يعد "يحيى السنوار" من الأعضاء القدامى لحركة حماس وقد وصفته مجلة الإكونوميست بأنه "الرجل صاحب النفوذ الأكبر في الأراضي الفلسطينية"، كما يشار إليه باعتباره مهندس عملية طوفان الأقصى التى شنت دولة الاحتلال الإسرائيلي على غزة بعدها حرب إبادة لا تزال دائرة حتى الآن ولا نعلم متى وكيف وعلى ما ستنتهي، وقد أصبح أحد الأسماء التي اشتهرت في الإعلام بعد هذه الحرب، خاصة خارج فلسطين، وهكذا يعد "يحيى السنوار" أكثر الرجال المطلوبين لدى إسرائيل والذي خصه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري، بتصريح "سوف نستمر، سنلاحقه حتى نعثر عليه".
لكن ليس الجانب العسكري الذى سنتحدث عنه بل سنتناول رواية السيرة الذاتية الأولى -وربما الأخيرة- التي كتبها يحيى السنوار، واستطاع تهريب أوراق مسودتها من بين أنياب العدو الصهيوني بينما كان معتقلا داخل زنازينهم.
فى عام 2004، انتهى يحيى إبراهيم السنوار من كتابة رواية السيرة الذاتية "الشوك والقرنفل" ونجح في تهريبها من سجن بئر السبع، حيث كان يقضى عقوبة السجن المؤبد منذ عام 1988. وقد أفرج عن السنوار في صفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل مقابل الجندي "جلعاد شليط".
تنقسم الرواية إلى ثلاث محطات رئيسية في حياة راويها. الجزء الأول مرحلة الطفولة المبكرة تتخللها أحداث تاريخية كبرى، ورواها بعيون الطفل. المرحلة الثانية مرحلة الشباب المبكر، بداية التعرف على الفكر الأصولي الديني الإخواني تحديدا. المرحلة الثالثة، الانخراط فكريًا وسياسيا في الحركات الإسلامية، حماس، وتكتلاتها في غزة.
من أهم سمات أدب السيرة كأحد الأجناس الأدبية هو تماهي التاريخ الشخصي والتاريخ العام، خاصة كتابات أدب المقاومة. فتتناول الرواية التاريخ الشخصي للمؤلف، المتضافر مع محطات بارزة من تاريخ بلاده، تحديدًا منذ حرب 1967، واحتشاد الجيوش العربية في فلسطين لمحاربة العدو الصهيوني هناك، وللأسف هزيمتها.
تبدأ الرواية بالحكي بصوت الراوي العليم الذي يحكي لنا طفلا، كيف أنه فتح عينيه على هذا العالم ليجد أمامه حربًا. تلك اللفظة التي لم يعرف معناها إلا كمرادف للخوف والهلع.
فى مخيم الشاطئ بغزة ينطلق السرد من الفضاء الخاص، حيث يصف لنا الرواي، يحيى، كيف تغرق أمطار الشتاء بيتهم البسيط في المخيم، البيت الذي انتقلوا إليه من الفالوجة عقب احتلالها بنكبة 1948.
نعيش مع الطفل الرواي ذي الخمس سنوات تلك اللحظات، ربما لأنها لا تزال مكررة أمام كاميرات الإعلام يوميًا، أمطارٌ منهمرة تغرق البيوت البسيطة، تتسرب قطراتها من شقوق الأسقف لتصدر رنينا في الأوعية التي يحاول الناس بها تجنب مزيد من الغرق، لكن بما أنه لا يزال طفلا لم يكترث كثيرا بالتهجير والمطر والحرب، كل ما يهمه أن يستيقظ صباحا ليخرج إلى الشارع، حيث يستقبله الجنود المصريون المرابطون عند مدخل شارعه بالحلوى ويرجعوه إلى البيت، وما أحزنه صغيرا أنه لم يجدهم ذات يوم على غير العادة!
في هذه الجزئية من حياته تعرف على الحرب بالمعايشة وليس بحكي الأجداد، مثلاً، حينما أنزلته أمه ذات يوم مع أخوته وأبناء عمه إلى خندق حفره الأب تحت البيت واختبؤوا جميعًا فيه لأيام لم يعرف عددها ولا أسباب الاختباء، لكنه أدرك أن هذه الحرب تملأ قلوب الكبار حوله رعبا وتضيق عليهم رحب المكان. وكانت تلك حرب 1967 التى انتصر فيها الصهاينة وانسحبت الجيوش العربية من فلسطين.
كل فصل بالرواية يعرفنا على عالم جديد فُتح أمام أعين الرواي، في الفصول الأولى شاهدنا شوارع وأزقة المخيمات في غزة، الألعاب الشعبية للأطفال، وشكل المجتمع المكون من عائلات تتسع دائرتها من الأب والأم والأخوة وأبناء العمومة والجدود، لتصل إلى الجيران الذين يُعدون من العائلة أيضًا، عرفنا بدور وكالات الغوث التي كانت تهتم بإقامة مدارس للأطفال كان بطل الرواية أحد تلاميذها.
وفي الفصول التالية تظهر في أفق الرواية والراوي حركات المقاومة الفلسطينية، والتي كان أبو الرواي وعمه الشهيد أحد أعضائها. يحكي لنا كيف لم تستسلم المقاومة فى المخيمات بعد الهزيمة، ورغم حظر التجول والاعتقال والقتل الذي تعرض له الفلسطينيون في المخيمات على يد الإسرائيليين، إلا أن المقاومة نجحت فى عمليات اقتناص لأعدائهم عدة مرات جعلت عدوهم يخشى التوغل داخل المخيمات مخافة المقاومة، وهو الأمر الذي كان مصدر زهو واطمئنان أهل المخيمات.
من ضمن تلك الحركات "حركة فتح" في الضفة الغربية، و"قوات التحرير الشعبية" في غزة. يذكر المؤلف كيف أن حركات المقاومة في غزة كانت أقوى من تلك التي في الضفة الغربية وذلك بسبب وجود كتيبة مقاتلين "جيش تحرير فلسطين" أو القوة العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطنية التى تفككت بعد هزيمة 1967، وتفرق أعضاؤها، لكن من تبقى منهم في غزة أنشأوا قوات التحرير الشعبية.
ويحكي كيف أن أعضاء المقاومة وقعوا حينها بين سندان المبادئ بعدم التعاون مع العدو المحتل، وبين العوز والفاقة التى ألمّت بأهل المخيمات، وذلك عندما كانت المقاومة تضطر لتمزيق تصريحات العمل التي أصدرها الاحتلال للفلسطينيين ليعملوا داخل الأماكن المحتلة، ورغم التضييق من المقاومة على العمال الفلسطيين، إلا أن كثيرين منهم نجح في الخروج والعمل لدى الاحتلال، وشيئا فشيئا صار كثيرًا من الفلسطينيون يقلدون الاحتلال في معاشهم وتقاليدهم.
لكن على الجانب الآخر يذكر الراوي تلك الفرصة التى أتاحها تدفق العمال بالعشرات والمئات داخل الأراضي المحتلة، للمقاومة، التي وجدت بابًا جديدا تتسلل منه لتنفيذ عمليات التحرير داخل تلك الأراضي والمستوطنات. ويذكر مثالاً لجاره"عبد الحفيط" الذي ذهب للعمل في الأرض المحتلة خصيصا للعمل كفدائي متخفي، كان يزرع القنابل التى أفقدت العدو ممتلكات وأرواح. لكن فى النهاية قُبض عليه وسُجن.
من ضمن الأحداث التاريخية التى مرت عليها الرواية، أحداث "أيلول الأسود" في سبتمبر عام 1970، والتى بدأت عندما خسرت الأردن أراضي الضفة بعد هزيمة 1967، ونقل الفدائيون الفلسطينيون إلى الأردن، وبدؤوا بمهاجمة قوات الاحتلال من هناك، وردت القوات الإسرائيلية عليهم الهجوم داخل الأراضي الأردنية تحديدا فى مدينة الكرامة التى يقيم فيها أعضاء منظمة التحرير. انتصر الفلسطينيون فى معركة الكرامة مما زاد الدعم العربي لهم، لكن حركات المقاومة الفلسطينية فى الأردن بدأت تطالب بإقالة الملك الأردني، وذلك على اعتبار أنها دولة تعمل داخل دولة، وحاولوا اغتيال الملك حسين مرتين، مما أدى إلى مواجهات عنيفة بينهم وبين الجيش الأردني طوال شهور. وبعدها رحلت القوة الفلسطينية إلى لبنان، التى سيحدث فيها الشيء نفسه لاحقا.
يحكي السنوار أيضا عن أساليب التعذيب التي ينتهجها الاحتلال تجاه المعتقلين في سجونه، والتى عرفها بعدما اعتقل أخوه محمود بتهمة الانتماء للمقاومة، وهى أساليب التعذيب التى ما زال الاحتلال ينتهجها حتى الآن، الأخ الذي ألقي فى سجن غزة أو "المسلخ" كما يسمى من شدة تعذيب وسلخ من يدخله. من تغطية الرؤوس بأكياس قماشية، الإغراق بالمياه الباردة، تقييد الأيادي خلف الظهر بقيود حديدية، الضرب والركل دون انقطاع، التجويع، تكديس العشرات فى زنزانة لا تكفي اثنين. الإجراءات التى رد عليها الأسرى بالإضراب عن الطعام.
المرحلة الثانية فى الرواية هى التعرف على المنظمات ذات التوجه الديني الأصولي، الإخوان تحديدًا، بداية من وجود شخصية "الشيخ أحمد" الذي اشتهر فى المخيم بأنه "أخونجي" منضم لجماعة الأخوان المسلمين ونجح فى استمالة ألأخ الأكبر حسن إلى فِكره، ومن هنا بدأ السنوار التعرّف على عالم الاصولية الدينية والفكر الأخواني.
وقد بدأ هذا الفكر ينتشر بعدما عمل بالمدارس الثانوية بالقطاع والخليل مجموعة من المدرسين ينتهجون فكر الأخوان، وأنشؤوا فى تلك المدارس ما يشبه التكتلات الإخوانية، بالاضافة إلى إنشاء كلية الشريعة فى الخليل.
فى تلك الفصول من الرواية يسرد الراوي على لسان شخوصه كيف احتدمت النقاشات بين من انضموا فى محيطه إلى صفوف وفكر الأخوان المسلمين، وبين من لا يزالوا على فكرهم القومي واليساريين. النزاع الذى نشأ جراء عدم اعتراف الأخوان بالقومية، فالقضية الأساسية بالنسبة لهم الدين أهم من الأوطان. واتضح دور الإسلاميين أكثر بعد نصر أكتوبر 1973، ومعاهدة السلام، الأمر الذى أعطى لهؤلاء فرصة لإقامة مدارس ومؤسسات وجمعيات تخدم أهالى المخيمات وتنشر من خلالها أفكارهم على نطاق أوسع، هذا بالإضافة إلى نشاطاتهم فى الجامعات كجامعة بيرزيت.
فى هذا الجزء من الرواية يعرض الرواي كيف بدأت الحياة تتغيرّ على كلا الجانبين، الأراضى المحتلة التى بدأت تتغير اقتصاديا وسياسيا، وكذلك تغيّر أراضي المخيمات كما فى غزة التى ازداد عدد التكتلات الإسلامية بها وتنافسها الذي تحوّل لصراع مع الحركات اليسارية.
الجزء الثالث، الذى بدأ فى الثمانينيات والتسعينيات والتحاق الراوي بالجامعة الإسلامية بغزة. ومن الأحداث التاريخية الأبرز فى تلك الجزئية هي اجتياح إسرائيل لبيروت وانسحاب المقاومة الفلسطينية من المخيمات المقامة هناك. أيضا عرّج الكاتب على مجزرة صبرا وشتيلا التى راح ضحيتها مئات المدنيين الفلسطينيين. وازدياد مظاهر المقاومة ضد المحتل من المظاهرات والعمليات الفدائية، التى قابلها الاعتقالات، وزيادة بناء المستوطنات، وتهجير أصحاب الأرض الأصليين، كذلك زيادة أعداد العملاء والجواسيس الذين يعملون لصالح إسرائيل. وعلى الجهة المقابلة زيادة قوة التكتلات الإسلامية فى غزة تحديدا مقابل اليساريين والقوميين، وزيادة حدة الصدامات بينهم. لكنها فى الوقت نفسه أججت المقاومة ضد المحتل وصولا للانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة.
يحكي الرواي فى هذه الجزئية عن أهوال التعذيب التى لاقاها المعتقلون الفلسطينيون في هذه الانتفاضة على يد المحتل الصهيوني، حكايات التعذيب التى حدثت للأخ الأكبر محمود اليساري، وحسن الإخواني، وابن العم إبراهيم، هذه الأهوال التى انتفض ضدها المعتقلون الذين مثلوا تكتلات فى المعتقل أيضا، يساريون ومن منظمة التحرير وإسلاميون. الإسلاميون الذين رأوا أن أوضاعهم أكثر بؤسا، فقام الجميع بانتفاضة داخل المعتقل توازي الانتفاضة فى الشوارع. فى تلك الفترة بدأ الشعب الفلسطيني فى كل الأرض المحتلة يتعرف على الكثير من عملاء المحتل الصهيوني، فأخذوا بمطارداتهم بالشوارع والقبض عليهم وإعدامهم علنا فى الميادين، حتى خاف بقية العملاء وهربوا إلى الداخل الإسرائيلى أو خارج البلاد كلها، فى الوقت الذى تحتدم فيه حدة الانتفاضة فى كل الأراضى المحتلة.
طوال سنوات الانتفاضة تواصلت العمليات الفدائية فى الأراضى المحتلة والقطاع، وبدأت قوات المقاومة الإسلامية والقومية فى حشد قواها عددا وعدة، حتى وصلت الأحداث إلىاأتفاقية أوسلو، أو اتفاقية غزة وأريحا، الاتفاقية التى خرجت على إثرها مظاهرات واسعة فى فلسطين بين مؤيد ومعارض لها، المعارضون يهتفون غزة وأريحا فضيحة، والمؤيدون يهتفون غزة وأريحا البداية. ورغم توقيع الاتفاقية لم تنته العمليات الفدائية ضد المحتل.
تختتم الرواية بسيرة الشخصيات الحقيقية خاصة من الفدائيين ممن استشهدوا فى عمليات المقاومة ضد الاحتلال ومن ضمنهم "عماد حسن إبراهيم عقل" المقاوم فى كتائب عز الدين القسام، وأحد مؤسسي الكتائب فى الضفة الغربية، والذى حكي الرواي قصته باستفاضة، حيث نفذ أربعين عملية ضد الاحتلال خلال سنتين، وبعد أكثر من سنتين من مطاردة قوات الاحتلال ومخابراته، وإفرادها وحدات خاصة لمتابعته والبحث عنه، ووظفت العشرات من الضباط للعمل على حل هذا اللغز المعقد، حتى تمكنت في الرابع والعشرين من نوفمبر 1993م، من رصد عماد عقل في منزل خنساء فلسطين مريم فرحات "أم نضال"، وخاض اشتباكًا مع قوات الاحتلال التي حاصرت المنزل إلى أن استشهد.
أيضا المهندس "يحي عيّاش" العضو فى كتائب القسام، حيث برز عياش خلال فترة الانتفاضة الأولى في صفوف كتائب عز الدين القسام. ولندرة الأسلحة والمواد المتفجرة، ركز عياش جهوده على مجال تصنيع المتفجرات، وأصبحت مهمة الفلسطيني يحيى عياش هي تصنيع السيارات المفخخة والعبوات ذات الانفجار العنيف. ونجح في نقل المعركة إلى قلب المناطق الآمنة داخل إسرائيل، حيث زعم كثيرون أن أجهزتها الأمنية تسيطر تمامًا على هذه المناطق. وبسبب الاستنزاف الذي تسببت فيه أعمال يحيى عياش للكيان الإسرائيلي. وأسفرت عملياته عن مقتل أكثر من 76 إسرائيلياً وإصابة أكثر من 400، كثفت دولة الاحتلال جهودها في مطاردته في الضفة الغربية المحتلة، مما اضطره في النهاية إلى الانتقال إلى قطاع غزة. وفي الخامس من ينايرعام 1996، تمكنت المخابرات الإسرائيلية من اغتيال المهندس البارز والقائد في كتائب القسام، يحيى عياش. جرى استخدام مادة متفجرة وُضعت في بطارية هاتفه لتفجيرها، مما أدى إلى استشهاده.
تسرد الرواية التاريخ الذي بإمكاننا أن نقول إنه "التاريخ المُعاد" للأرض المحتلة، فالأوضاع منذ 75 عامًا من الاحتلال كما هي، تنكيل بأهل الأرض المحتلة، إبادة، تهجير، اعتقالات، تعذيب، تدنيس للمقدسات، استيطان ونهب أراضى. وعلى الجانب الآخر مقاومة وفداء واستشهاد واستقتال أصحاب الأرض على أرضهم، وكل مقاوم يموت يولد مقاوم جديد، وأساليب مقاومة مستحدثة، والدليل عليها تلك الرواية أو السيرة الذاتية بين أيدينا التى جاء فى تصديرها:
"هذه الرواية كتبت في ظلمة الأسر في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وداءب على نسخها العشرات ومحاولة إخفائها عن عيون الجلادين وأياديهم الملوثة".
فكما نجح المعتقلون الفلسطينيون فى سجون الاحتلال بتهريب نطفهم ليتناسلوا بمقاومين جدد ضد الاحتلال، نجحوا أيضا في تهريب جزء من القصة الحقيقية عن وحشية المحتل من بين أنيابهم أيضًا.
|