القاهرة 10 يناير 2024 الساعة 01:09 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
كان تلقي العلم في تلك الفترة ممتعا، أن تسير مع أرسطو أسفل ظلال الأشجار وحولك التماثيل والمباني الفخمة، وفي المكتبة مئات من الكتب والمخطوطات والخرائط، تستمع، وتقرأ، وتشعر بأساس الفلسفة "اللذة العقلية".
كان ارسطو يلقي تعاليمه في الصباح لتلاميذه، وكانت تسمى المحاضرات السماعية أو المستورة، ويبدو أنها كانت محاضرات شديدة التخصص في مجالات العلوم والفلسفة المختلفة، أما في المساء فكان يلقي محاضرات للجمهور وتسمى المحاضرات المنشورة، وليس معنى ذلك أن الدروس الصباحية كانت تمتاز بالسرية أو كانت محجوبة عن الجمهور، ولكن الدروس الصباحية كانت تهم فئة محددة ومعينة من المشتغلين بالفلسفة والمسائل الفلسفية العويصة، مثل المنطق والميتافيزيقا والعلم الطبيعي، أما في المحاضرات المسائية فكانت دروس الأخلاق والسياسة تجذب أسماع واهتمام الجمهور.
وكما ذكرت أن ارسطو قد أتى بالمئات من الكتب والمخطوطات، بالفعل، استقدم ارسطو المئات من الكتب والمخطوطات من كل الدنيا لتصبح مدرسته أول مكتبة في التاريخ، فضلا عن اقتنائه لمتحف يضم نماذج من الأحجار والمعادن والنباتات والحيوانات ليستعين بها في توضيح محاضراته، ويقال إن الإسكندر وهبه مبلغًا من المال لمساعدته، وأمر جميع الصيادين في إمبراطوريته أن يجمعوا له نماذج مما يصطادونه في البر أو البحر أو حتى الجو.
وحتى بعد وفاة الإسكندر، خلفه "أنتيباتر" وصيا على العرش، وكان الأخير ميالًا إلى البحث الفلسفي، وكان صديقا لأرسطو، أكمل ما فعله الإسكندر من دعمه للمدرسة المشائية، حتى إن أرسطو أوصى بأن يكون أنتيباتر منفذا لتلك الوصية.
ويقول أحمد فؤاد الأهواني في كتابة المدارس الفلسفية: "ونحن إذا كنا نجهل حقيقة الدروس التي كانت تُلقى في الأكاديمية، ولا نعلم سوى الجانب الشعبي من تعاليم أفلاطون في محاوراته التي كان يُخرجها للجمهور بين حين وآخر، هذه المحاورات التي لا يزال معظمها موجودًا بين أيدينا حتى اليوم، فإن هذا الجانب الشعبي في تعاليم أرسطو، نعني محاوراته الرائعة الأسلوب التي وصفها شيشرون بأن أسلوبها يجري كأنه نهر من ذهب، أضحى مفقودًا منذ فُقدت هذه المحاورات، بعد أن استمرَّت ثلاثة قرون من الزمان، يقرؤها جمهور المثقفين، جنبًا إلى جنب مع محاورات أفلاطون. ولكننا لحسن الحظ نعلم تمام العلم حقيقة الدروس التي كان يُلقيها أرسطو في داخل المدرسة، لأن كتبه -ابتداءً من المنطق إلى الميتافيزيقا- لا تزال باقية، وسنتحدَّث عنها فيما بعد".
ويستطرد الأهواني في تعريف الفرق بين المدرسة المشائية والأكاديمية فيقول: "يختلف أرسطو عن أستاذه أفلاطون مزاجًا ومنهاجًا وفلسفة، صاحب الأكاديمية كان يرى أن الفلسفة شيء يُدرك بالحدس، والرؤية الباطنة، واتصال النفس بالحقائق الأزلية، ولذلك عرَّف الفلسفة بأنها «رؤية» الحق، وجدير بمن يبلغ الحق عن هذا الطريق أن يحتفظ به سرًّا من أسرار النفس، إذ يصعب التعبير عن الحق باللفظ واللغة، ولذلك حذَّر أفلاطون في أكثر من موضعٍ من محاوراته الناس أن «يُدوِّنوا» الفلسفة، لأنها تُدْرَك وتُحس فقط.
وقد ذكرنا قبلًا أن محاورات أفلاطون لم يُودعها فلسفته التي كان يُدرِّسها في الأكاديمية، وإنما عرفنا تلك الدروس ممَّا ذكره بعض تلاميذه، ونقلوه عنه، وعلى رأسهم أرسطو.
كان ذلك إذن رأي أفلاطون: أن الفلسفة حوارٌ يدور بين عقلَين، أو «جدل» يصعد في باطن النفس إلى آفاق المثل الخالدة، ويهبط من سماء المثل إلى عالم المحسوسات والتغيُّر.
ولكن أرسطو كان له في الفلسفة رأي آخر، فهي البحث عن العلل الأولى والغايات الأخيرة، وهي ضرب من البحث المُنظَّم الذي يعتمد على منهج آخر خلاف الحوار وخلاف الجدل، ذلك المنهج هو «المنطق» الذي ابتكره أرسطو حتى اشتُهر به، ولقَّبه المتأخِّرون وبخاصة العرب: «صاحب المنطق».
ولم يكن أرسطو يذهب إلى القول بعدم تدوين الفلسفة، لأن وجهة نظره نحو تفسير الموجودات تختلف عن وجهة نظر أفلاطون، فالفلسفة عند أرسطو هي «العلم بالموجود من حيث هو موجود»، أي إنه يقرُّ ويعترف بالموجود المحسوس، وما دام الأمر كذلك، فالمحسوس مركَّبٌ بلا نزاع من «مادة»، أو بالاصطلاح اليوناني الذي دخل لغة العرب من «هيولى».
أمَّا أفلاطون فقد ضرب عن المادة صفحًا، وفسَّرها تفسيرًا رياضيًّا، وزعم أن «المُثُل» هي أصل الموجودات المحسوسة.
من هنا كان اتجاه أرسطو طبيعيًّا، وكان اتجاه أفلاطون رياضيًّا، ولعل هذا الخلاف في الاتجاه كان من جملة الأسباب التي دعت أرسطو أن يهجر الأكاديمية، وأن يفتتح مدرسةً جديدة.
والفلسفة الطبيعية تبحث في أمور غير تلك التي تبحث فيها الفلسفة الرياضية، فضلًا عن اختلاف المنهجَين، واختلاف الأسلوبَين، واختلاف النزعتَين.
|