القاهرة 19 ديسمبر 2023 الساعة 10:21 ص
ترجمة وإعداد: محمد زين العابدين
يسلط هذا المقال الضوء على عجائب علم الوراثة وألغازه، وعلاقته بتشكيل الفكر الاجتماعي في أوروبا منذ القدم. كما يعرج الكتاب على التقنيات البيولوجية الحديثة المذهلة التطور لعلوم الهندسة الوراثية والبيولوجيا الجزيئية، والتي تضعنا أمام العديد من المآزق والتحديات الأخلاقية والقانونية؛ حيث تعمل الأبحاث الجينية باستمرارعلى تغيير فهمنا للوراثة،على الرغم من عدم حماستنا للسيطرة عليها.
على الرغم من التكاثر والانتشار الرهيب للبشرية، استمرت أحلام البشرية من أجل السيطرة والتفوق في التصاعد. وبالنسبة ل(فرانسيس جالتون) ابن عم (تشارلز داروين) حدث أنه لاحظ في عام 1980، أشجار العائلات المتميزة، ورأى تركيزًا للصفات المتميزة، مثل الذكاء، وحسن المظهر، وقوة الشخصية.
هذا الرجل الفيكتوري، الذي منحنا عبارة "الطبيعة في مقابل التنشئة"، أقنعَ نفسَهُ بأن الموهبة والشخصية كانتا شيئًا وراثيًا، لأنهما يتم توارثهما في بعض العائلات. وقام (جالتون) بتدشين علم التحسين الوراثي أو"تحسين النسل"؛ الذي اشتق اسمه من الكلمة اليونانية التي تعني"النسل الجيد".
واعتمد مخطط تحسين النسل الذي وضعه على الإقناع والحوافز الاجتماعية؛ لإثناء أولئك الذين اعتبرهم "وحدة معطوبة" عن التكاثر؛ وفي المقابل تشجيع الإنجاب بين من يتميزون بالعظمة والذكاء. كان يعتقد أن النتيجة ستكون "مجَّرة مملوءة بالعباقرة"؛ لكن كانت النتائج اللاحقة، المبنية على علم تحسين النسل، أقل إثارة للتفاؤل.
ببساطة صُدِمَ العالم بحركة تحسين النسل الأمريكية بكل سماتها المتّزمتة المُقّززة، والأيديولوجية، والقسرية!. وللأسف فإن الفاشيون الألمان اعتنقوا أساليبها. من السهل جدًا أن نهز رؤوسنا، تجاه قسوة وسذاجة عقيدة تحسين النسل على الطراز الأمريكي والتي كانت ترى أنه يمكن علاج المجتمع من الجريمة، والمرض، والفقر، من خلال القضاء على فئة من الناس، من حملة الصفات المتدنية، الأقل ذكاءً وقوة؛ ومن خلال الاعتماد على تلك "الثقة الوحشية"، التي قادت علماء تحسين النسل إلى الاعتقاد بأنهم يفهمون قوانين لعبة الوراثة جيدًا، بما يكفي لهندستها على هواهم.
والأكثر صعوبة من ذلك، هو أن نضع في اعتبارنا أنه ربما في غضون العشرين عامًا القادمة؛ سوف يُعتَقد أيضًا أن العديد من الحقائق التي يتم تلقيها اليوم على أنها مُسَّلَمٌ بها، على خطأ. إن ممارسة لعبة التحدي مع الله تكون دائما أصعب مما يبدو!
يرشدنا كتاب عالم الوراثة (كارل زيمر) الذي صدر مؤخرًا تحت عنوان (لها ضحكة أمِّها)، إلى أعماق غابات علم الوراثة والجينوم، ويكشف عن المضاعفات والاستثناءات، التي تتحدى ما نعتقد أننا نعرفه عن الوراثة.
إن التركيز هو جعل الكروموسومات تلعب كل أنواع الحيل. خذ على سبيل المثال حيوان (الخَّيمَرْ)-chimeras؛ فبالنسبة إلى الإغريق القدماء، كان يمثل "وحشًا هجينًا يتنفس غضبًا"؛ أما بالنسبة لعلماء الأحياء، فإنه يمثل نوعًا من الكائنات الحية، التي تتألف خلاياها، من اجتماع خلايا مختلفة من فردين مختلفين. إن مُرّبي الماشية على دراية بنوعٍ واحدٍ يماثل حيوان الخَّيمَر؛ ألا وهو طراز جيني من الماشية، يعرف بالfreemartin والذي ينتج عندما تحمل بقرة توائم من الجنس الآخر، وتكون هذه التوائم متصلة بواسطة مشيمة مشتركة؛ فتتبادل أجِّنة العجول الخلايا الجذعية، وينمو العجل ليصبح ثورًا طبيعيًا إلى حدٍ ما؛ في حين أن الأنثى يكون لديها مبيض غير مكتمل، وتُظهر سلوكًا ذكوريًا (والطريف أن هذا النوع من الماشية، تكون لحومه لذيذة بشكل خاص في الشواء!).
فأين ينتهي نسلُ عِجلٍ، ويبدأ نسلُ الآخر؟!.. الله أعلم! ويصف (زيمر) بعض الانحرافات الوراثية الأخرى غريبة الأطوار-على نفس هذا المنوال- لفتاة ذات عينين مختلفتي اللون وأعضائها الجنسية العجيبة، التي ظهرت في عيادة الوراثة بمدينة (سياتل) الأمريكية، فقد اتضح أن مبيضها يحتوي على خلايا بها كروموسومات من النوعXXفقط، أي أنها أنثى نموذجية فائقة الأنوثة بمفاهيم علم الوراثة؛ لكن أنسجتها الأخرى كانت تحتوي على خليط من الطرازين الكروموسوميينXX وXY ، وقد أظهر المزيد من التحليل، أنها بدأ تشَّكلها من خلايا توائم غير متماثلة الجنس. لكن وفي وقتٍ مبكرٍ من التطور الجنيني، تم الاندماج بين خلايا الجنينين؛ ليصبح أحد الطفلين الناتجين غير عادي للغاية.
وفي النساء الحوامل، يمكن أن تعبر الخلايا الجذعية للجنين من المشيمة، لتدخل مجرى دم الأم، حيث قد تستمر لسنوات فإذا حملت الأم مرة أخرى، فإن الخلايا الجذعية الخاصة بمولودها الأول، ما زالت تسري في دمها، ويمكن أن تعبر المشيمة في الاتجاه الآخر، لتندمج مع تلك الخلايا الخاصة بالجنين الجديد؛ وبالتالي فإن الوراثة يمكن أن تسير ببطء ضد التيار، من الطفل إلى الوالدين، ثم صعودًا وهبوطًا إلى إخوته المستقبليين.
بالنسبة للجينوم، يذهب(زيمر) إلى الكشف عن أنه يراوغ متخطيًا الحدود المنظمة أيضًا. فلتنسَ فكرة أن الجينوم الخاص بك هو فقط الحمض النووي الذي يوجد في كروموسوماتك؛ فلدينا جينوم آخر، صغير ولكنه حيوي، يقبع في (الميتوكوندريا) الموجودة بخلايانا. والميتوكوندريا بالطبع هي مصانع الطاقة ضئيلة الحجم، التي تزود الخلية بالطاقة. وتكمن وراء الجينوم مفاجآت أكثر. يتعلم أطفال المدارس، أن سلف داروين، عالم الطبيعة الفرنسي الرائع (جان باتيست لامارك) قد أخطأ في حق علم الوراثة، عندما اقترح أن السمات المكتسبة من خلال التجربة، مثل استطالة عنق الزرافة؛ تحدث من خلال مد عنقها، ومحاولتها الوصول لأوراق الأشجار العالية.
وقد فنَّدَ عالم الأحياء (أوجست وايزمان) الأكاذيب الوراثية الشهيرة، عما يُعرف ب"الوراثة الناعمة"، وقال إنه إذا كانت المغامرة صحيحة، فإن تقطيع ذيل فأرة وإخصابها؛ يجب أن يؤدي في نهاية المطاف، إلى أن تنتج فئرانًا عديمة الذيل جيلًا بعد جيل؛ وهو ما لم يحدث.
إن استغلال الطاقات الكامنة في علوم تكنولوجيا الجينات، لاستنباط سلالات مقاومة من النباتات؛ تشير بعض التكهنات، إلى أنها يمكن أن تمكننا من إنتاج محاصيل من شأنها أن تتكيف مع المرض في غضون جيل أو جيلين، ثم نقل المقاومة المكتسبة إلى نسلها من النباتات. ولكن إذا غادر المرض المنطقة التي ينتشر فيها، فهل ستفيد المقاومة. كل هذه التقنيات الوراثية التي تطبق على الكروموسومات والجينات والميتوكوندريا؛ ما تزال لا تضيف ما يحقق منفعتنا الكاملة، ليس حتى قريب. كل واحد منا يحمل المئات، وربما الآلاف من الميكروبات، ولكل منها الجينوم الخاص به؛ والتي لا يمكننا أن نشعر بها إلا إذا أثرت على حالتنا الصحية.
مع وضع ذلك في الاعتبار، يجب إعادة النظر في الجهود المستمرة بمجال الهندسة الوراثية. كان شعار المؤتمر الدولي الثاني لعلم تحسين النسل في عام1921 هو"علم تحسين النسل والاتجاه الذاتي للتطور البشري". ومنذ ذلك الحين، أصبح التحكم في الوراثة أسهل من الناحية التقنية، لكنه أكثر تعقيدًا من الناحية الفلسفية". وفي السبعينيات، عندما تمت أول عملية هندسة وراثية؛ جعلت العلاج الطبي الجيني ممكنًا من الناحية العملية، حيث قام العديد من رواد هذه النوعية من التقنيات البيولوجية، بالحث على الحذر من عواقب الفوضى في تطبيقها، خشية أن تحاول بعض الحكومات ابتكار"رايخ رابع وراثيًا"؛ في إشارة للتخوف من اعتناق الأفكار النازية عند تبني تطبيق هذه التقنيات.
على وجه الخصوص، كان هناك اثنان من المُحَّرَمات المتوافقة مع الفطرة السليمة؛ لا تعظيم أو تحسين للنسل، فقط العلاج للحالات المرضية (لمنع ترسيخ فكرة الجنس المتفوق)؛ كما أنه لا تبديل في أنسجة الجاميطات الوراثية الجنسية، فقط التعديل المسموح به في الخلايا الجسدية (لمنع إحداث تحورات وراثية وتحاشي الطفرات).
لكن بالنسبة لمهندسي الجينات في عالمنا اليوم، تبدو هذه المعايير غريبة، وسيأخذونها على محمل الطرافة! حيث يمكن للباحثين الآن، تحويل نسيج جسدي ناضج، مأخوذ على سبيل المثال من مسحة من الخلايا الجذعية إلى أي نوع آخر من الخلايا؛ حتى الحيوانات المنوية والبويضات.
لقد توسعت تقنيات وراثية جديدة مثل تقنية تحرير الجينات؛ وامتدت لتشمل توسيع نطاق تطبيق التقنيات الوراثية القديمة. وعلى الرغم من الفرحة بهذا التقدم العلمي، إلا أن المآزق الأخلاقية لبعض تطبيقاتها كثيرة، وتطرح أمامنا العديد من الأسئلة المحيرة؛ فعلى الرغم من أن حقن هرمون (الإريثروبويتين) ، يمكن أن يكون سببًا في إنقاذ حياة الأشخاص، الذين يعانون من فقر الدم الشديد؛ إلا أنه غير قانوني للرياضيين.
ولكن ماذا عن العلاج الجيني لرفع مستوى الإنتاج الطبيعي لهرمون (الإريثروبويتين) لدى أحد الأشخاص؟ وهل من الأفضل استبعاد بعض العوامل الجينية، لعلاج فقر الدم المنجلي والثلاسيميا؛ أو الإبقاء على صفات مقاومة الملاريا التي تمنحها تلك الجينات؟ وما هي أنواع الآثار الجانبية التي يمكن أن تبدو قابلة للاحتمال، من أجل رفع معدل الذكاء لطفلك، من خلال تطبيق القليل من التقنيات البيولوجية؟
إن الجوانب الأخلاقية المتعلقة ببعض التقنيات الإنجابية، تصبح ضبابية في ضوء الفهم الحديث المعقد للتيارات الوراثية المتعارضة. إن تقنية (الأم البديلة) على سبيل المثال، من المحتمل أن تجعلها تتبادل الخلايا الجذعية مع الجنين الذي تحمله؛ مما سوف يفتح الباب للادعاءات بأن الطفل والأم البديلة مرتبطان. فإذا كانت الأم البديلة في وقتٍ لاحق، تحمل طفلها الخاص، أو ذلك الطفل الذي يمكن أن تحمله من أمٍ مختلفة؛ فهل سيرتبط هؤلاء الأطفال بعلاقة بيولوجية ما؟!
إن علاقة الأبوة والأمومة، تصبح أكثر غرابة، مع ما يسمى بالعلاج باستبدال (الميتوكوندريا). إذا كانت المرأة ذات (الميتوكوندريا) المضطربة، تريد طفلاً بيولوجيًا؛ فمن الممكن الآن حقن نواة إحدى بويضاتها، في بويضة امرأة سليمة (بعد إزالة نواتها)، ومن ثم إجراء الإخصاب في المختبر. والنتيجة هي"طفلة ثلاثة آباء"، كان أولهم قد ولد في عام 2016. لا يفترض (زيمر) تطبيق أحكام أخلاقية بالنسبة للإجراءات المتبعة في مثل هذه التقنيات؛ ولكنه يحذر من أن "الموافقة المسبقة" في مثل هذه الحالات، يمكن أن تكون شائكة بشكل غير متوقع.
ولماذا نتوقف عند عالم البشر؟ من الممكن ل"محرك الجينات المزعوم"، أن يسمح للباحثين بإطلاق تطبيقه على كائنات أخرى في الطبيعة؛ والتي سيكون ممكنًا أن تهندس بعضها البعض وراثيًا، وتنشر صفة وراثية مرغوبة في جميع تعدادها في غضون أجيال. ويتصور العلماء، أنه يمكن استخدام هذه العملية لابتكار محاصيل مقاومة للآفات وبعوضٍ خالٍ من الملاريا، وابتكارات أخرى لا حدود لها، في مجال الزراعة والصحة العامة. والتجارب في هذا المضمار قيد التقدم.
إن الهندسة الوراثية للجينوم العالمي من الممكن أن تنقذ ملايين الأرواح، أو في المقابل-إذا تم استخدامها دون قيود- ستنتج بشرًا وكائناتٍ هجينة مليئين بالعجائب، على غرار التي ظهرت في الفيلم العالمي (جاتاكا والحديقة الجوراسية)-((Gattaca and Jurassic Park. يمكننا التعديل في هندسة الجينات في المستقبل، بطرق لا يمكننا تخيلها بعد، ناهيك عن أن نفهمها. إن (زيمر) متحمس بالنسبة للاحتمالات التي يفتحها هذا المجال السريع التقدم بسرعة الصاروخ؛ ولكنه في الوقت نفسه يحث العلماء والعامة، على التعلم من التاريخ، في ظل عالمنا الذي تتفوق فيه الابتكارات المندفعة على التأمل الدقيق.
ويؤكد (زيمر) في كتابه أنه "يجب أن نبذل جهدًا، في النظر إلى الوراء؛ لنتأمل كيف أن الأدوات التي اخترعناها، قد غيَّرت بالفعل تراثنا البيئي على مدى العشرة آلاف سنة الماضية".
* المصدر: مجلة (the Atlantic) الأمريكية - عدد يوليو 2018.
|