القاهرة 19 ديسمبر 2023 الساعة 10:11 ص
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
يزخر الوسط الأدبي المصري بالعديد من الكتاب المهملين المهمشين، رغم موهبتهم المتميزة وقيمتهم الأدبية العالية، ولا شك أن ذلك يرجع إلى تقصير النقد الأدبي، وعدم متابعته الجادة لهذه الأسماء المبدعة، كما يرجع – في الوقت نفسه – إلى اعتزاز هؤلاء الكتاب بأنفسهم والنأي عن فرض ذواتهم بأساليب يفعلها متوسطو القيمة والموهبة. والحقيقة أنني قد فوجئت – منذ سنوات – بإبداع الكاتب الروائي والقصصي حسين عبد العليم بعد اطلاعي على أعماله والكتابة عن بعضها، وتمنيت أن يكون هناك كتاب يكشف جوانب الغموض الكثيرة التي تحيط بهذا المبدع، وها هي الشاعرة والكاتبة الصحفية المتميزة إسراء النمر تقدم لنا ما خفي في حياة هذا الكاتب الكبير، في كتابها الممتع الشيق "ألعاب حسين عبد العليم ..الصياد الذي لم تنج منه أية رائحة" (دار صفصافة) والكتاب مقسم إلى ست ألعاب تحمل كل لعبة عنوانا مختلفا.
وبتأمل حياة حسين عبد العليم نلاحظ تأرجحه الدائم بين طرفين ، فهو – من ناحية – يقدم نفسه باعتباره كاتبا إقليميا ينتمي إلى الفيوم، في حين أنه من مواليد القاهرة وعاش فيها أغلب حياته، ومن ناحية أخرى نلاحظ جمعه بين مهنة المحاماة والكتابة الأدبية، واللافت أنه جعل من حكايات "موكليه " مادة خصبة لأعماله الأدبية فهو – كما أفضى بعض أصدقائه – لم يكن يكتب من "الخيال" بل يأخذ مادته الإبداعية من الواقع. ومن الأمور التي سجلتها إسراء النمر أن حسين عبد العليم بدأ شاعرا لكنها لم تعثر على أي نموذج شعري له، رغم حرصه على الاحتفاظ بكل شيء حتى "إيصالات الكهرباء" كما تقول زوجته، وربما رجع ذلك إلى عدم قناعته بما كتب من شعر، ثم كان انتقاله إلى كتابة النوفيلا بنصيحة من صديقه الكاتب الكبير يوسف إدريس الذي قال له " أنت حتكون كاتب رواية كويس"، وبالفعل اتجه إلى كتابة النوفيلا والقصة القصيرة وحقق فيهما إنجازًا كبيرا تصفه زوجته الثانية "سحر" بأنه " إنسان بلا طموح " وهي تقصد الطموح المادي حيث لم يكن حسين راغبا في الارتقاء بمستوى أسرته المعيشي، فظل مقيما فى "بولاق الدكرور" ومستأجرا مكتب محاماة شديد التواضع ، ولم يكن يطلب أتعابا كبيرة من موكليه، وكان – كثيرا- ما يتنازل عنها إذا عجز موكلوه عن سدادها. وعندما ألح عليه أصدقاؤه بالسفر لم يمكث – في عمان – إلا شهورًا قليلة، عاد بعدها إلى مصر بسبب خلاف بينه وبين صاحب العمل، كما رفض أن يعمل في مكتب أحد كبار المحامين، فما الذي يدل عليه كل ذلك؟ لا تفسير لذلك سوى أن حسين عبد العليم كان حريصًا على حريته، وألا يتحكم أحد فيه مهما كانت الإغراءات المادية.
على أن الأهم من ذلك أنه قد عشق "بولاق" وما بها من شخصيات وحكايات لا تنتهي بل وقع في سحر تعبيراتها العامية الشعبية، الأمر الذي دفعه إلى كتابة روايتين بالعامية هما "بازل" و"موزاييك" ، ورغم أنها تجربة مسبوقة فإنها نادرة الحدوث في السرد المصري والعربي. وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت بولاق مصدر إلهامه، فرواية "سعدية وعبد الحكم" قصة حقيقية وهي – حقًا- رواية جريئة لما سردته من تاريخ "البغاء" منذ أيام محمد علي تمهيدا للحديث عن سعدية التي مارست هذه المهنة بمعرفة زوجها عبد الحكم الذي كان أحد فتوات بولاق وذات يوم نادى على كاتبنا قائلا له إن بوليس الآداب ألقى القبض على سعدية متلبسة بهذا الفعل ولم يكن يهمه كل ذلك بقدر مايهمه أن "الرجل ابن الكلب لم يعطها إلا بريزة".
ومن الأمور غير المعروفة التي كشفت عنها إسراء النمر أن رواية "رائحة النعناع" لكاتبنا كانت معرضة لنفس معركة الروايات الثلاثة الشهيرة بسبب ما نشرته صحيفة "الشعب " حينها، و"رائحة النعناع" تحكي قصة انهيار الطبقة الوسطى بسبب الانفتاح الاقتصادي. وكما كانت بولاق مصدرًا لحكاياته فقد كانت الفيوم بناسها وماضيها وحاضرها هي عالم روايته. فالفيوم - بالنسبة له – هي الأصل بينما كانت القاهرة هي الهامش / واللافت – كما تقول إسراء النمر- "أن يصر على العيش في العاصمة – كما كان يسميها – وروحه وفكره وكيانه في الفيوم" 0هذا التأرجح بين المحاماة والأدب كان مثار سخرية بعض زملائه المحامين حين قال أحدهم "ما معناه" دا ضيع نفسه بين المحاماة والأدب قال يعني هيكتب زقاق المدق"، لكنه أصر على ذلك فالكتابة عنده لا يمكن الفكاك منه.
على أن الأهم من كل ما يمكن ملاحظته على هذه السيرة هو أنه كان غريبا بين الأجيال :"فبالنظر إلى قصص مجموعته الأولى"مهر الصبا الواقف هناك"، سنجد أن قصة "أجازة" كتبها 1973وقصة "السبب" عام 1974وقصة "أبو قدح" عام 1974وقصة "ثلاثية الجند" في مجموعته الثالثة "الأمسيات والضحك والولادة" عام 1973 وهذا يعني انتماءه إلى جيل السبعينيات، كما كتب قصصا كثيرة في سنوات الثمانينيات لكنه رغم ذلك حسب على جيل التسعينيات لمجرد أن مجموعته القصصية الأولى نشرت عام 1990، والحقيقة أن هذا التصنيف القائم على سنة النشر ليس مقبولا، فالأهم هو كيفية الكتابة والرؤية التي ينطلق منها الكاتب ، وبهذه الاعتبارات فإن حسين عبد العليم بعيد عن الحساسية الجديدة التي طرحها جيل التسعينيات، لأنه لا ينتمي إلى هذا الجيل سنا أو مظهرا أو إيقاعا، فهو يعمل الخيال ويحاول سد الفجوات حتى يبدو السرد نسيجًا متجانسًا، فسعدية – في الرواية التي أشرنا إليها – "مختلفة عن سعدية الأصلية ، فالأولى – أي الفنية – تركت قريتها القريبة من طنطا، وتخلت عن أهلها فور وفاة زوجها، وانتقلت إلى القاهرة، بالتحديد إلى شارع كلوت بك، الذي كان مخصصًا للدعارة الشرعية آنذاك، مدفوعة برغبة في التجريب والانخراط في هذا العالم".
ومن هذا العالم ينتقل حسين عبد العليم إلى رواية "زمان الوصل" التي تتناول جزءا من سيرته خاصة علاقته بالصيد، وكان صيده عجيبًا حيث كان يأتي بأعداد هائلة من العصافير وانتهاء بصيد الثعالب التي يقوم بسلخها وطهو لحومها وأكلها. وهو أمر كان في غاية الغرابة لمن حوله وامتدادا لسرد السيرة كانت روايته "التماع الخاطرة بالسيرة العاطرة" التي ذكر فيها بعض أصدقائه مثل الدكتور محمد طه عليوة عضو مجلس الشيوخ ومحمد برهومة والفنان التشكيلي ثروت فخري، ولثروت فخري قصة مؤلمة انتهت بانتحاره، فقد اشتدت غربته بعد انتصار 73حيث "لم توف السياسة بما وعدت به الحرب، وازدادت مرارته مع بوادر الانفتاح الاستهلاكي، فتوقف تماما عن الرسم ، وفي عام 1974أخبرهم بأنه ماض لأن الزمن الجميل قد مضى، فلم يصدقوا بل سخروا منه، ليستيقظوا في يوم على خير منشور في الجرائد بعنوان "انتحار فنان" فقد ابتلع فخري مادة سيانيد البوتاسيوم السامة ولم يستطع أحد إنقاذه".
ذكرنا أن حسين عبد العليم كان ينهل من حكايات الآخرين خاصة المهمشين ونضيف هنا أنه جعل من قصة حياة بعض أصدقائه مادة للكتابة مثل "مجدي أديب" وذلك في روايته "سيرة التراب والنمل " ، لكن هل معنى ذلك – كما تتساءل إسراء النمر – أنه كان بعيدا عن "الواقعية السحرية"؟ يجيب بعض أصدقائه "أنه كان مفتونا بأدب أمريكا اللاتينية وأنه كان يرى أن الواقعية السحرية ليست خيالا أو فانتازيا إنما هي الواقع بحق"، ولأن الكتاب "سيرة غيرية" فبعودة إسراء النمر إلى الأرشيف وجدت أن حسين عبد الحليم "لم يظهر في الصحافة بصفته المهنية إلا مرتين الأولى في العدد الأول من مجلة "المحامون" عام 1984حيث كتب مقالا بعنوان "هل باع الفلسطينيون أرضهم؟ ..الحقيقة والأسطورة" والثانية في جريدة "أخبار الأدب" حيث كتب مقالا نشر على جزأين بعنوان "أدباء أمام المحاكم" يستعرض فيه أهم القضايا التي وقف فيها أدباء سواء متهمون أو مدعون أو مدعى عليهم". وهو بالفعل مقال مهم لأنه يوحي بدرجة الوعي والحرية المسموح بهما في مجتمع من المجتمعات.
|