القاهرة 12 ديسمبر 2023 الساعة 10:33 ص
بقلم: عيد عبد الحليم
في ديوانه الأخير "أنا جائع يا رب" يأخذنا الشاعر كريم عبد السلام إلى منطقة أخرى، جديدة، باتت قصيدة النثر تنفتح عليها في التجارب الأخيرة لبعض الشعراء، وهي قصيدة الموقف والتعبير عن القضايا الكبرى، وهي التيمة التي ظلت ملاصقة لكثير من تجارب القصيدة العمودية والقصيدة التفعيلية، وقد غايرت قصيدة النثر، هذا المنحى في بداياتها- ولسنوات طويلة، منطلقة من "الذات" كمحور أساسي للخطاب الشعري، لكن يبدو أن الذات الشاعرة قد ضاقت بهذا الخطاب، وأرادت أن يكون لها موقفها الجمالي مما يحدث حولها، فرأينا في السنوات الأخيرة دواوين كاملة، لشعراء من شعراء قصيدة النثر تتخذ من التماس مع الواقع وقضاياه متكأ، وأرضا وفضاء للتعبير عن التجاور ما بين الذات والآخر، وما بين الذات والموضوع اليومي بفضاءاته الشاسعة اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.
بدأت القصيدة الما بعد حداثية تنجرف إلى سمات التجاور، والرفض، باتت في بعض خطاباتها تتخذ شكل "القصيدة المضادة"، التي تشكل من هذا التضاد رؤية جمالية، للتعبير عن لحظات الانهزام الإنساني تجاه الانفتاح الاقتصادي الرهيب، والتحولات العالمية العاصفة، التي أصبحت تقلص من البعد الإنساني، بل تعمل على سحقه في كثير من الأحيان، فأصبح الشاعر الجديد وسط فراغ عاصف كالصارخ في البرية.
من هنا تأتي أهمية هذا الديوان "أنا جائع يا رب"، الذي يأتي طارحًا رؤى جمالية وشعرية مغايرة للسائد، الذي تم التعارف عليه في قصيدة النثر عند جيل التسعينيات الذي ينتمي إليه كريم عبد السلام، وإن صدرت له دواوين سابقة في هذا الإطار، مثل "بين رجفة وأخرى" و"قنابل مسيلة للدموع" و"كتاب الخبز" ولم يكن كريم وحده من أبناء هذا الجيل الذي بدأت القصيدة عنده تنفتح على هذه المنطلقات الجمالية التي وسعت من الرؤية، في قصيدة النثرلا، فهناك إلى جواره شعراء أصدروا دواوين فيها هذه المنطلقات منهم محمود خيرالله في "فانتازيا الرجولة" و"كل ما صنع الحداد" وعماد أبو صالح في "كنت نائما حين قامت الثورة" وعاطف عبد العزيز في "سياسة النسيات" و"الفجوة في شكلها الأخير، وفتحي عبد السميع في "تقطيبة المحارب"، وعيد عبد الحليم في "كونشيرتو ميدان التحرير" و"بيد واحدة أتصفح بريد الحرب".
....
في ديوان "أنا جائع يا رب" يتخلى كريم عبد السلام تمامًا عن فكرة المجاز، ليقدم لنا صورة حية للواقع المضاد عبر صور واقعية، لفكرة الضرورة، والخلاص الإنساني، والعجز تجاه التحولات الاقتصادية الصعبة التي غيرت من واقع الخريطة الإنسانية على الأرض.
فتبدو قصائد الديوان العشرون، كأنها قصيدة واحدة تقوم حول مفردة (الخبز) وأهميتها في المعادلة الإنسانية/ منذ بداية البشرية وحتى نهايتها، وكأنه يستعيد المثل الشعبي القائل: "عض قلبي ولا تعض رغيفي"، الخبز الذي يساوي الوجود ويعادل الحياة، المستلبة نتيجة سياسات استعمارية تعمل وفق النظام العالمي الجديد، الذي يسعى إلى تشييء كل ما في الحياة وتسليعه.
يتكئ الخطاب الشعري في الديوان على حالة من المناجاة، المنكسرة من الذات المسحوقة، في محاولة منها للتشبث بما تبقى من أمل في سماء لم تعد تمطر ولا ترى أوجاع البسطاء.
فالعالم بات فسطاطين: الأول: وهم قلة من الأغنياء الذين يسيطرون على كل المقدرات الاقتصادية، ثانيا: الكثرة الغالبة وهم البسطاء الذين باتوا لا يقدرون على توفير قوت يومهم- في أبسط معانيه.
كلا الطرفين خائف من الآخر، لكن بشكل مختلف، فالفقراء خائفون من توغل الجوع، الذي يقضي على أجسادهم وأرواحهم، والأغنياء خائفون من سرقة ما لديهم من أموال تكاثرت وفاضت بها خزائنهم.
يقول كريم عبد السلام في قصيدة "أيها البعوض المحترم":
الأغنياء لا ينامون الليل
خوفًا من اللصوص والقتلة والإفلاس
وفي النهار يسيرون محاطين بحراسهم
تحسبًا لطلقة طائشة.
وفي المقابل نرى صورة أخرى للمسحوقين الذين يعبرون عن أنفسهم قائلين:
أما نحن فلا نخشى الشياطين ولا الملائكة
ليس لدينا دموع نذرفها
ولا نملك أرصدة في البنوك
ننام ملء جفوننا في برد يناير
وفي حر أغسطس
ونطرد أبناءنا في الشوارع
قبل أن يطالبوا بالغداء.
....
وتقوم بنية الديوان على استلهام البنية المسرحية باستخدام تقنيات مسرحية متنوعة منها "الديالوج" و"المونولوج" المسرحي، وكذلك تيمة (المسرح داخل المسرح) و(المونودراما).
ولعل قصيدة "أنا جائع يا رب" تمثل صورة للمونودراما ذات الصوت الواحد، عبر مونولوجات ترتكز على صوت واحد هو صوت الذات المعذبة، وقد اعتمد كريم عبد السلام ربما دون قصد على البناء المسرحي، حيث يبدأ النص بجمل تشبه مفردات (المنظر المسرحي) من المكان والزمان ومفردات السينوغرافيا، حيث يقول:
شوارع تفضي إلى شوارع
فتارين
ومحال مضاءة
وأطعمة شهية
بشر يعرفون إلى أين يتجهون
آخرون يتسكعون ويضحكون
بشر يشعرون بالطمأنينة
وأنا هنا أنظر كل برهة إليك
هل تراني؟
ثم بعد ذلك نرى تقاطعات للمونولوجات وفق التصاعد الدرامي للحدث النابع من مخيلة الذات المؤرقة بانتظار ما لا يجيء. ومنها قوله:
أنا لا أريد أن ترتفع بي إلى السماء
أريد أن ترشدني إلى حبات قمحي
ها أنا أجرب شوارع جديدة
حتى تعبت قدماي
وأنا أنظر إلى السماء كل برهة
وأنت علام الغيوب.
في هذا المقطع وغيره، نرى الجمل الشعرية تتصاعد في أول كل مقطع لكن تنتهي بعبارة تقريرية مثل "وأنت علام الغيوب"، أو تنتهي بسؤال استنكاري، وهذا من وجهة نظري، أفضل من الانتهاء بجمل تقريرية تكون حمولة زائدة على النص الشعري. فالأسئلة الاستنكارية تحمل في هذا النص دلالات متعددة منها الاستنهاض والسخرية ووضع الخطاب الشعري في حالة مفارقة، بالمقارنة بالصورتين المتضادتين في الواقع، وذلك من مثل قوله:
أنا الآن أمام مطعم
ماذا أفعل؟
الناس يأكلون ويخرجون
وأنا واقف
بطني يؤلمني وأطفالي ينتظرون. ص16
كما يحفل الديوان بِسمة أساسية اعتمدها كريم عبد السلام في كل دواوينه السابقة وهي "الحكاية الشعرية" وهو بذلك يستفيد من بنية الخطاب السردي، كما في قصيدة "العجوز بطرحتها السوداء" حيث قصة عجوز تبيع المناديل، بينما في داخلها أحزان شتى.
وكذلك في قصيدة "وليمة النيل" فبطلها صياد يحمل حقيبته الخوص، ويقدم ما يشبه (المناجاة) للرازق سبحانه وتعالى، يشتكي إليه جوعه وحاجة صغاره للطعام، فتمتلئ حقيبته بالسمك في النهاية.
....
في ظني أن الديوان على مستوى الخطاب الشعري استفاد من فضاءات متعددة.
أولها: استفادته من الموروث المصري القديم، فبنية النص الشعري- خاصة في قصيدة (أنا جائع يا رب) تذكرني بشكاوى الفلاح الفصيح، "خون أنوب" الذي اعتدى عمال الحاكم على أرضه وأخذوا ما يمتلكه من متاع، فذهب إلى الفرعون وألقى شكواه في نص بديع، ومن مقولاته فيه: "لا تخف وجهك عما تراه/ لا تكن متراخيًا وأعلن كلمتك/ ها أنا أشكو إليك ولكنك لا تسمع/ سأذهب بشكواي إلى أنوبيس".
على هذا النمط جاء النص المحوري في ديوان كريم عبد السلام "أنا جائع يا رب" وإن كنت أرى أن النصوص التالية له هي تنويعات على اللحن الأساسي بما فيه من بناء هرمي وهارموني، حيث يبلغ ذروة التصاعد الدرامي في نهايته بصرخة فيها من الرجاء والتمني الذي يبدو مستحيلا في ظل المأساة الإنسانية على الأرض:
أعطني خبزًا
أرشدني كما ترشد العصافير
والكلاب والثعالب.
|