القاهرة 01 ديسمبر 2023 الساعة 07:04 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
أقامت المدرسة الأكاديمية نظاما تعليميا مجانيا، لم يتقاض أفلاطون أجرا، عكس كل مدارس أثينا التي كانت تتقاضى أجورا باهظة على التعليم، رفض افلاطون أن يتقاضي أي أجر من طلابه متبعا في ذلك نهج سقراط الذي كان يرى أن المعرفة لا تُعلم بل تتكشف للإنسان من باطن النفس، و أن العلم تذكُّر والجهل نسيان بحسب عبارته المشهورة، فكيف يتقاضي المعلم أجرا عن شئ لا يملكه ولا يمنحه، وذلك بالرغم من فقر سقراط ، فما كان من أفلاطون الثري إلا أن ينحي نفس المنحى، لذا فقد وهب أثرياء ورواد المدرسة العديد من الهبات.
كان المعلم يجلس علي مقعد عال، وحوله الطلاب على مقاعد حجرية، المعروف عن أفلاطون أنه لم يكن يلقي محضارته من كتاب ولكن طلبته كانوا يدونون ما يقول، كما أن الأكاديمية لم يكن بها أجهزة أو أدوات علمية أو تعليمية، بل كان المحاضر يتكلم أو يمشي وحوله طلبته.
"الفلسفة لا تُدوَّن".. هكذا كان يري افلاطون متأثرا بأستاذه سقراط، وقد كتب في الخطاب السابع إلى "ديون" ما نصه: إن حقائق الفلسفة لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ كما يمكن في غيرها من الموضوعات، ذلك أنه بعد أن يتلقَّى المرء المعرفة من مرشد صادق في هذه الدراسات الفلسفية، وبعد الانقطاع بعض الوقت إلى صحبة ذلك المرشد، إذا ببريق من الفهم يُضيء النفس، ولست أعتقد أن الكتب المؤلَّفة في هذا الباب تُفيد الناس أي فائدة، اللهم إلَّا بالنسبة لعدد قليل ممن يستطيع أن يكشف الحق بنفسه.
ويؤكد أحمد فؤاد الأهواني في كتابة "المدارس الفلسفية": أن الغرض الأساسي من إنشاء الأكاديمية هو تخريج طائفة من الحُكَّام والساسة، فمن الطبيعي أن تكون دراسة الشرائع وأصولها وأنظمة الحكم الصالح هي منهج الدراسة، ولهذا السبب لجأ إليها أهل المدن المجاورة يطلبون رأيها في التشريع، كما فعل "إيبامنونداس" عندما طلب تشريعًا لمدينة ميجالوبوليس.
وإلى جانب ذلك، كانت الأكاديمية تُدرِّس العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى، وقد مرَّ بنا كيف كان يتوقَّع الذين حضروا دروسه في «الخير» أن يسمعوا شيئًا عن الفضائل، فإذا بهم لا يسمعون إلَّا فلكًا وحسابًا وكلامًا عن الواحد والمحدود وغير ذلك من الأمور الرياضية، ذلك أن الرياضة كانت عند أفلاطون مدخلًا لا غنًى عنه إلى الفلسفة، ولذلك كتب على باب الأكاديمية العبارة المشهورة: "من لم يكن مهندسًا فلا يدخل علينا"، ومن الفروض الفلكية التي كانت سائدةً في المدرسة انتظام حركة الأجرام السماوية، وعلى أساس هذا الفرض كان علماء الأكاديمية يُفسِّرون تحيُّر الكواكب.
ويستطرد الأهواني في موضع آخر: "ومن الطبيعي أن يكون منهج البحث ملائمًا للعلوم الرياضية التي اشتُهرت بها الأكاديمية، وقد بدأت المناهج تتميَّز بوضوح منذ سقراط الذي اشتُهر بمنهج "التهكُّم والتوليد"، والمنهج السقراطي يعتمد أساسًا على الحوار، لأن المباحث التي خاض فيها هي العلوم الإنسانية من أدبٍ وفن ولغة وشعر ودين وأخلاق واجتماع وسياسة، وقد اتُبع هذا المنهج في الأكاديمية وتُصوِّره المحاورات أجمل تصوير، وهو منهج يقوم على تعريف المعاني الكلية، وتحديد الألفاظ، والاستقراء".
أما منهج "التهكم والتوليد" فهو الذي ابتكره سقراط وكان يقول: "إن الحقيقة الوحيدة التي أعرفها هو أنني لا أعرف شيئاً"، فالفلسفة عنده تبدأ عندما يبدأ الإنسان بتعلم الشك، وهذا الشك يدفعه للبحث عن الحقيقة.
وكان لسقراط أسلوب خاص في الجدل عند محاورة الأشخاص يعتمد على عنصري "التهكم والتوليد"، فالتهكم يستند إلى وقوع المتحدث في التناقض، حيث يصطنع سقراط الجهل ويبدأ كالمستفسر الجاهل بالشيء فيطرح الأسئلة على محدثه، ويستدرجه مشعرا أياه بأنه سيد الموقف، وهذه هي المرحلة الأولى. أما المرحلة الثانية فتبدأ بتوجيه الأسئلة التي يُثير فيها بعض الشكوك في كلام المتحدث، ويستدرجه في تصعيد الأسئلة وتكبير الشك في آراء المتحدث الذي يبدا بالاستفسار عن الآراء الصحيحة التي أثارها سقراط، واستخراج أجوبة منها في ترتيب منطقي متماسك حتى يبلغ المتحدث الحقيقة التي أراد سقراط أن يصل إليها، فيقر المتحدث بجهله. عندئذ تبدا المرحلة الثالثة حيث يعمد إلى عنصر "التوليد" في أن يلقي سقراط على المتحدث أفكاره وآراءه كاملة فيقبلها الشخص دون تردد أو مناقشة.
والأصل في المحاورة أنها مناقشةٌ تتم بين شخصَين أو أكثر، وتُسمَّى باللغة اليونانية "ديالوج" من المقطعَين «ديا» و«لوجوس» أي الكلام أو القول بين اثنَين، وقد تطوَّر الحوار عند سقراط إلى "الجدل" عند أفلاطون، وهو يعني باليونانية "ديالكتيك"، من المقطعَين «ديا» و «لكتيكون» أي كلام أو حديث. والفرق بين «الديالوج» و«الديالكتيك» أن الحوار حديث بين شخصَين، أما «الجدل» فهو حديث بين الشخص ونفسه، فهو تفكير يدور داخل النفس، ومنه عند أفلاطون جدل صاعد ومنه جدل نازل.
و"الجدل" بهذا المعنى هو المنهج الفلسفي بلا منازع، لأن النفس تصعد إلى المُثل أي الحقائق، ثم تنزل من عالم المثل إلى عالم الحِس، وتهبط من عالم الثبات إلى عالم التغيُّر.
|