القاهرة 15 نوفمبر 2023 الساعة 11:56 ص
بقلم: أحمد محمد صلاح
بالرغم من أن مباديء علوم الرياضيات التي أسستها المدرسة الفيثاغورية كانت بدائية للغاية، إلا أنها كانت نواة أو أحد درجات هذا العلم، نقول «العلم» ونعني بذلك الفرق بينه وبين المعرفة العملية التجريبية، لأن الإنسانية لم تبلغ المرحلة العلمية بمعنى الكلمة إلَّا بعد أن مرَّت مئات -بل آلاف- من السنين، تقتصر على المعرفة التجريبية القائمة على الحس.
وبالرغم من أن الكثير من المؤرخين والباحثين ـوأنا في صفهمـ قالوا بأن فيثاغورس قد نقل الكثير من علوم الرياضيات من مصر وبابل، وهي الحضارات التي اشتهرت بقوتها في مجالات الرياضيات والهندسة والفلك وكذلك الحسابات، الا أن مؤرخو الغرب يعتبرون أن فيثاغورس هو الأول وهو المنشئ، ولكن لابد وأن نقول أن الحضارة المصرية القديمة كانت قد وصلت إلى أوج المجد في مجال الهندسة والفلك ومن ثم الرياضيات، وإذا سلمنا من قبل بأن فيثاغورس قد أقام في مصر وأيضا في بابل، فمن البديهي جدًا وبدون أي محاولات استنباط أن يكون الرجل قد استنبط الكثير من علومه "السرية" من تلك الحضارات ونسبها إلى نفسه بعد أن بدأت تندثر بفعل العوامل التاريخية.
كانت الرياضيات غير منفصلة عن الهندسة، بل كان كلاهما واحد، طالما أن الاثنان يعملان في نفس المجال، لذلك كان دائما ما يصور الشكل الهندسي بشكل عددي ويستخدمون في ذلك لوح من الرمال اسمه "لوح المعداد"، كانت الحصي توضع علي الرمال لتحدد الشكل ومنها خرجت أسماء الأشكال الهندسية، فثلاث حصوات تعني المثلث، واربع تعني مربع وهكذا..، أما رقم واحد فهي حصوة واحدة، واثنان.. إلخ
ويقول أحمد فؤاد الأهواني في كتابه "المدارس الفلسفية" أن العلماء وجدوا في الأعداد خصائص عجيبةً عند جمعها وطرحها وضربها، وغير ذلك من العمليات. مثال ذلك أن مجموع مربعَي العددَين المتواليَين 3، 4 يُساوي مربَّع العدد التالي لهما وهو 5؛ أي 9 + 16 = 25، وهذه الخاصية العددية هي التي طُبِّقت في الهندسة في نظرية فيثاغورس المشهورة، القائلة بأن مجموع مربعَي ضلعَي المثلَّث قائم الزاوية يُساوي مربَّع الوتر، فإذا فرضنا أن طول أحد الضلعَين ثلاثة والآخر أربعة، كان طول الوتر خمسة. وليس المهم الكشف عن صحة هذه النظرية، أو المسألة الهندسية بطريقة عملية، وإنما المهم «إثبات» صحتها ب«البرهان» الرياضي، أي نظريًّا لا عمليًّا.
ونعود إلى فلسفة المدرسة بعد أن بحثنا في الرؤية الرياضية، فقد كان فيثاغورس يعلي من فكرة "النظر" أي التنظير والبحث والتأمل، عن العمل، وهو الذي قسم الناس إلى فئة "النظار" أي واضعو السياسات والفلسفات، ثم "الجمهور" وكان يقصد بالجمهور المشتغلون بأمور الدنيا والمعاش، من زراعة وتجارة ومهن أخرى، وقد أخذ بفلسفته تلك كل من أفلاطون ثم أرسطو، وانتقل هذا التراث إلى العرب عند نقل الفلسفة اليونانية، وأخذت به أوروبا بعد عصر النهضة والعصر الحديث، ولم يبدأ يتغيَّر هذا المبدأ الفيثاغوري إلَّا في القرن العشرين.
واشتُهرت المرأة الفيثاغورية بالعفة والفضيلة، وأنها أفضل نساء الإغريق، والعلة في ذلك أنها تُعلِّم الأدب وبعض مبادئ الفلسفة، كما كانت تُعلِّم تدبير المنزل والأمومة، وقد جعل اشتراك المرأة مع الرجل على هذا النطاق الواسع من المدرسة الفيثاغورية شيئًا أشبه بمجتمع مثاليٍّ أو مدينة فاضلة، وكانت المدن الفاضلة الشغل الشاغل آنذاك لفلاسفة اليونان، حتى ليمكن القول أن هدف الفلسفة صياغة المجتمعات المثالية أو المدن الفاضلة، كما هي الحال في جمهورية أفلاطون، ولكن معظم المدن الفاضلة كانت من قبيل «الطوبيات» تصوَّرها أصحابها في الخيال، ولم تُطبَّق عمليًّا بالفعل، فيما عدا بعض المدن الفاضلة القليلة، ومنها مدرسة فيثاغورس.
إن بلوغ السعادة القصوى لا يتم إلَّا بتطهير النفس، ويقوم هذا التطهير على عدة مبادئ ومعتقدات، على رأسها الاعتقاد في انفصال النفس عن الجسد، وسمو النفس وتعاليها على البدن، وبقائها بعد فنائه، ثم الاعتقاد بتناسخ الأنفس، ثم اتباع طريق الزهد والرياضة لتصفية النفس وتطهيرها.
وقد سادت فكرة التناسخ عند الفيثاغوريين بعد انتقالها إليهم من فلسفات الهند ومن الأورفية، وكان فيثاغورس -فيمَ يُروى- مؤمنًا أشد الإيمان بهذه العقيدة، ويُقال أنه رأى شخصًا يضرب كلبًا يعوي، فأوقفه عن ضربه لأنه عرف من صوت الكلب أنه أحد أصدقائه الذين ماتوا وانتقلت روحه إلى هذا الكلب. وتبعًا لهذه العقيدة فإن صاحب الأعمال الصالحة في حياته الدنيا تحلُّ نفسه عند الموت في جسد شخص صالح، وأن صاحب الأعمال الطالحة تحل نفسه في جسد حيوان؛ وهذه هي السعادة والشقاء في نظرهم.
إن فكرة «التطهير» التي بدأت منذ فيثاغورس ومدرسته في القرن السادس قبل الميلاد تقلَّبت في أدوار مختلفة، واتخذت أشكالًا متباينةً عند سقراط وأفلاطون وأرسطو في الزمن القديم، حتى إذا بلغنا العصر الحاضر رأينا مدرسة التحليل النفسي -ونعني بها مدرسة فرويد- تعتمد في العلاج على فكرة «التطهير» Catharsis.
والهدف من «التطهير» الفيثاغوري هو التخلُّص من «عجلة الميلاد»، أي التخلُّص من التناسخ في بدن حيوان، وبذلك يظل المرء يشقى طول مدة التناسخ، ويخرج من شقاء إلى شقاء، ولم يكتفِ فيثاغورس لتحقيق التطهير باتباع قواعد معيَّنة في الطعام، والقيام بعبادات منظَّمة معيَّنة على أيدي الكهنة، ولكنه أضاف إلى الزهد والعبادة شيئًا جديدًا هو ممارسة العلم الرياضي والموسيقى لتصفية النفس، كما يستخدم الدواء لتصفية الجسم. ومن المعروف أن فيثاغورس رفع الموسيقى من المرتبة العملية، فأصبحت علمًا نظريًّا هو علم التناسب، وأقامها على سُلَّم يتميَّز بطول النغمات عدديًّا، وبذلك ارتفع فيثاغورس ب«التطهير» من مجرَّد نزعة عملية إلى مرتبة نظرية.
وقد اتبع سقراط وأفلاطون هذه الطريقة في «التطهير»، فكانا يجمعان بين الزهد والسيرة الفاضلة، وبين اكتساب العلوم الرياضية وبخاصة الهندسة، وكان أفلاطون يكتب على باب مدرسته: «من لم يكن مهندسًا فلا يدخل علينا» واستفاد أرسطو من طريقة التطهير في الفن، فالتراجيديا بما فيها من مواقف تبعث على الخوف والرعب والشفقة وغير ذلك، تجعل المتفرِّج يتقمَّص هذه المواقف وينفعل بهذه الانفعالات، فتخرج من باطن نفسه ويتطَّهر منها، ورُوي أن بعض المرضى العصبيين كانوا يعالَجون في القرن الرابع قبل الميلاد بالطريقة الفيثاغورية، وخاصة بواسطة الموسيقى.
|