القاهرة 31 اكتوبر 2023 الساعة 01:20 م
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
تنقسم القصيدة الحديثة - منذ بدء حركة الشعر الحر- إلى اتجاهين يؤكد الأول "وظيفية" الشعر ودوره السياسي والاجتماعي والثقافي، بينما يرى الثاني أنه "لا غاية للإبداع إلا الإبداع"، وكأن لسان حال أصحاب هذا الاتجاه يردد قول فلوبير إنه لا يريد سوى " تأليف كتاب جميل لا علاقة له بشيء خارجه". والحقيقة أن جيل السبعينيات قد شاعت عنه مقولة "الغموض" و"زجر القارئ" وما أراه أن هذه المقولة لا تصدق على كل شعرائه، وأن هناك كثيرا من الشعراء استهدفوا القارئ وكتبوا قصيدة تتواصل معه وتعبر عن همومه العامة، ويأتي في مقدمة هؤلاء الشاعر حسن طلب.
على الرغم مما عرف عن حسن طلب من التلاعب الفني الحر باللغة وأصواتها ومترادفاتها والإفادة من "الفلسفة"، فلم يكن "البنفسج" و"الزبرجد" و"الخازباز" وتنتهو حشرة الفاكهة، وصوت "الجيم" إلا معادلات موضوعية يعبر الشاعر – من خلالها – عن همومه العامة.
لكن ثورة الخامس والعشرين من يناير تصنع ما يشبه الثورة في طرائقه الكتابية حين نجد القصيدة قريبة الدلالة إلى حدود المباشرة، وهذا مايظهر فى ثلاثية "إنجيل الثورة وقرآنها"، الذي يقسمه الشاعر ثلاثة أجزاء، يحمل الأول عنوانا فرعيا هو "آية الميدان"، والثانى "إصحاح الثورة"، والثالث "سفر الشهداء"، ولا شك أننا نلاحظ من خلال العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية تداخل البشري والديني، والمزج بين المسيحي والإسلامي باعتبار الثورة فعلا عابرا للأديان والطبقات، امتزجت فيها دماء المسلم والمسيحي والفقير طالب الكرامة والعدالة والغني طالب الحرية والنهضة.
كما لا يقصر الشاعر الشهادة – في الجزء الثالث الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب – على شباب الثورة فحسب، بل ينعي – أيضًا – شهداء الجيش والشرطة كما يظهر من الإهداء الذى أثبته في مقدمة الديوان ما يعنى أن الصراع كان بين الثوار والطواغيت، وبين العدل والبغي، يقول الشاعر على لسان هؤلاء الشهداء:
"اسألوا التاريخ.. يذكر في سجلات المواقيت / بأنا من هنا / من ذلك الميدان / أسقطنا الطواغيت / قطعنا دابر الطغيان منذ اليوم / حتى يرث المولى القدير الدار والديور/ في يوم القيامة / أيها الأحياء: إن زرتم بيوم قبرنا / بشرونا أنه من بعدنا / لم تقم للبغي قامة".
توحي هذه السطور بأن الثورة ليست فعلًا محدثًا بل فعلا تاريخيًا قديمًا متكررًا مذكورًا في "سجلات المواقيت"، وبهذا المعنى أصبح "الميدان" أقرب إلى ميدان معركة دائمة مستمرة أو ميدان تحرر من الطغيان والاستبداد، يقول حسن طلب فى هذا:
"لم يعد الميدان ميدانًا كما من قبل كان /لم يعد محض مكان / أصبح حضنًا آهلا / بل صار رمزًا ماثلا / أرواحنا مرموزه / وما نزفناه على ترابه كنوزه / .../ وصار للميدان معنى محدثا / ويا لَه معنى فريدا أحرزته لفظة الميدان / فانضاف إلى معجمنا ".
يتجاوز الميدان إذن كينونته المكانية ليصبح حضنا آهلا بثواره، ورمزًا يشير إلى أرواح شهدائه الذين أصبحت دماؤهم كنوزه المعلنة لا الخفية.
وإذا كنا نلاحظ تحول الميدان إلى رمز عام ومعنى محدث فإننا نلاحظ – أيضًا – ما يسمى بتحولات الأغراض حيث يقترب غرض الوصف من غرض الغزل فيصبح المكان هو "المنى والتمني" كما يظهر فى "دعاء الشهيد قبيل الشهادة" حين يقول:"يا زعيم الميادين / أنت المنى والتمني / فوق أرضك غنى الفؤاد / وباسمك طاب التغني".
بل إن الميدان والشهيد يتحدان ويصبحان كيانًا واحدًا كما يبدو في قوله: "يا فريد العناوين / لا أنا منك إذا لم أكنك / ولا أنت منى إذا لم تكني".
وتصبح دماء الشهداء اليقين الوحيد الذي لا تخطئه العين وسط منظومة الشك الذي يطال كل شيء فيقول:" لكل من يشك حق الشك كيف شاء / فليشك كل الشك إلا في دماء الشهداء".
وفي مقابل هذه الدماء الذكية يقف المتسببون فيها سواء من الجنرالات أو الأئمة حين يقول: "أكثر من ستين عاما بالكمال والتمام / ومصر فيها سقطت في فخ : إما ...أو / هل كان إلا الجنرال وحده يحكمها أو الإمام".
وعلى العكس من هذه الثنائية التي وقعت مصر فيها يرفع الشاعر شعاره المدني الذي رسخته ثورة 1919في وجدان المصريين حين يقول: "وليطمئن الشعب / لن يلتحي الميدان لن تتنقب الثورة / لا اليوم ولا غدًا / فالدين لله وللشعب الوطن ".
ومن المهم أن نلاحظ أن "المكان /الميدان" مجاز مرسل علاقته المحلية فى الإشارة إلى السلفيين الذين غزوا الميدان مطالبين بالخلافة وإقامة دولة دينية، ومن المؤكد أن الشاعر يمتلك القدرة على التمييز بين عالم الدين الذي يحرم الخروج على الحاكم مهما بغى وطغى، وعالم الدين الثائر ضد الظلم والطغيان فها هو يكتب إلى "روح الشيخ عماد عفت.. شهيد أحداث مجلس الوزراء" الذي " طمازج اسمه / ليكون بين كتائب السلطان جنديًا كما زجوا " بل نظر إلى الميدان التحرير داعيًا الجميع إلى أن يحجوا إليه.
وكما نعى الشيخ المسلم نعى الشاب المسيحى" مينا دانيال "متسائلا في حسرة" من قاتلو دانيال والباقين من كل المسيحيين؟ من؟ يا أيها اللئام".
وفي تصوري أن الديوان يتبع بنية تقوم على التعميم ثم التخصيص، فهو يبدأ بالحديث عن الشهداء عموما ثم يتوقف أمام نماذج دالة منهم، ولهذا يغلب عليه طابع التأريخ حيث يذكر مكان الشهادة وزمانها وما حدث فيها، ومن هؤلاء – بالإضافة لمن سبق – شيماء الصباغ "شهيدة الورد"، والصحفي الحسيني أبو ضيف وغيرهما.
ولا يفوته أن يصور نماذج من مدعي الثورة حيث لا يستقيم أن تقوم الثورة في الميدان وهي – بعد – لم تقم بداخل النفوس، ولهذا تتكاثر النماذج المدعية من قبيل "الثائر الطاووس" الذى يلتقط لنفسه "الصورة بعد الصورة"، والثائر العبوس الذي "يفتى بما ليس له علم به"، وهكذا يتخلص الشاعر من النزعة التمجيدية لكل من وقف في ميدان الثورة.
وكما يعتمد الديوان على بنية التعميم ثم التخصيص، فإنه يعتمد أيضًا على السرد ففي قصيدة "بمحض الفراسة" يبدأ بوصف الشخصية وتحديد صفاتها وأحلامها، ثم يذكر مكان استشهادها وزمن الأحداث حتى لحظة صعود الروح إلى بارئها، وكما عدد الشاعر نماذج مدعي الثورة نراه يعدد نماذج الثوار الذين لم نعرف أسماءهم، فيقدمهم بمثل هذه الأوصاف : الشهيد المجهول – الشهيد المبتسم – الشهيد الفنان.
ويتوازى مع ثنائية الصادق والمدعي ثنائية الثورة والثورة المضادة، فيتوقف الشاعر عند حزب "آسفين" قائلا: "ليس من الأضداد بد / فلكل ثورة بيضاء في ميدانها العريض / تكون شبه ثورة مضادة سوداء تلتم / بميدان نقيض" .
إن كل ما سبق يؤكد أن حسن طلب لا يمدح ولا يهجو، بل يسعى وراء الحقيقة ويحدد ناصريها وأعداءها، وهذا ما يراه في مفهوم الشاعر عامة ف "الشاعر الخنذيذ لا يمدح ..لا يهجو".
ولأن الشاعر – في القصيدة السياسية – يستهدف القارىء العام، فلا بد من اعتماده على تقنيات تحقق هذا الهدف منها – كما لاحظنا – وضوح الرسالة، والحرص على القافية، وقصر السطر الشعري غالبًا، وكما يظهر في قصيدته "جمعة الغضب" : "ارفع رأسك / ياسيد ثوار العصر ارفع رأسك /.../ واترك ليلاك تعانق قيسك ".
وهكذا يصبح التشكيل موحيًا بالحالة الشعورية وهذا ما نراه على مدار الديوان.
|