القاهرة 24 اكتوبر 2023 الساعة 11:38 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
تبدو العلاقة بين النقد والإبداع علاقة تكاملية ظاهريًا – فيما أحسب – لكنها تحمل بين طياتها الكثير من التشاكلات والمفارقات التي تصنع العلاقة الوثيقة بين علمين وفنين؛ ينبعان من بئر واحدة؛ ولا مناص لاستغناء أحدهما عن فيوضات الآخر. فالنقد رديف الإبداع في أغلب الأوقات، لكنه يسبق الإبداع كذلك، إذ إن المبدع حين يريد أن يكتب قصيدة فهو ينتقد واقعًا يرفضه داخل عقله وذاته؛ ويطرح البديل الظاهر لما يتغياه؛ أو يأمل وجوده؛ لذا فما قيل بأن النص يكتب الناقد؛ أو أن القصيدة تكتب الشاعر هو قول يتناقض مع كثير من المعطى الإنساني؛ وبالتالي ليس الشاعر نبيًا يوحى إليه؛ وإنما يستمد الشاعر مكونات قصيدته من المعطى الحياتي وتراكمات الحياة التي مرت بخلده، فيصوغها عندما تتهيأ المشيئة التخليقية؛ والظروف التي تُخرجها إلى كينونتها النهائية قبل أن تتشكل في مخيلته وفؤاده وبواطنه المتناثرة.
والقصيدة بهذا المعنى يمكن تعريفها بأنها: "البوتقة التي تتجمع فيها شظايا الذات والأحداث والتعالقات الحياتية؛ ويتم فلترتها عن طريق العقل؛ وتضفي عليها الروح من عسلها فتعجن حروف ومسام تكوينها؛ ليأتي المعني ليكسوها بغلالة رقيقة؛ بما تم تشكيله في المعمل الداخلي للروح والعقل لتخرج في نشأتها الأخيرة محملة ومستشرفة لحياة فاضلة يريد الشاعر أن يحققها؛ أو يأمل في وجودها بديلُا لقبح العالم وسوداويته؛ حيث الجمال المأمول لمجتمع الفضيلة يتكون وينشأ في الداخل
أولًا،عبر معامل الأخلاق والبيلوجيا الإنسانية الداخلية" .
ويبدو "التوتر" في العلاقة بين النقد والإبداع في تكوينية الْعِلْمَيْنِ المتناقضين جوهريًا؛ والمتسقان ظاهريًا أيضًا . فالنقد يقصد العقل الذي يبرز الوجدان والروح والمعاني ؛ ويوضح ويشرح مقصوديات المبدع؛ فيما يتوجه الإبداع وينزع نحو الروح والشفافية وعالم الخيال وما بعدياته، لذا فإن المبدع عندما يكتب إبداعه ينفصل قليلًا عن عالمه الحقيقي؛ أو يهرب منه قسرًا في محاولة لتأمل مستقبل تغايري عن الواقع القبيح؛ لكنه يبدأ من ذلك القبح ليُنشئ جماليات المعنى عبر اللغة البكر العفية الطازجة التي يتخيرها داخل الجسد الذي يتكور على ذاته لإنتاج المعاني داخل معامل القلب؛ أو داخل تكوينية العواطف التي تصنع عجينة الشعر لتمر على العقل فيكسوها تشكلاتها الأخيرة؛ لتنشأ من هنا العلاقة الوشائجية بين النقد والإبداع رغم تناقض بنائية تكوينهما؛ وإن تكاملا فإنما لإحداث الفروقات والعلاقات الوشائجية التي يطرحها الناقد بعد أن أخفاها الشاعر أو المبدع خلف ترميزات ورموز لغوية وتداورات عبر المعنى والمبنى والصورة والظلال؛ والخيال؛ فيأتي النقد ليصنف ويحلل ويخرج جماليات المعنى الدفينة؛ كما يخرج تناقضات اللغة وتشاكلات الجوهر الذي يصنع المعني الكبير لمقصديات المبدع الدفينة.
إن تشاكلاتٍ أراها تجعل العلاقة طردية بين النقد والإبداع؛ لكنها تتصل فيما بينها بطرف لا انفصام عنه؛ إذ منشؤية النقد تنبني على مخرجات الإبداع التي أنتجها المبدع؛ أو الإنسان فالنقد ليس مقصورًا على الإبداع إذ ينسحب على كل مناحي الحياة؛ حيث تتبدي مقصديات النقد وغائيته لتشمل المنتوج الإنساني؛ بل تمتد عبر التأمل والتفكير لخلق علاقات كونية ومعانٍ تحاول فهم العالم لتصل إلى الخالق العظيم؛ ومن هنا تتواصل عملية الإبداع مع النقد في البحث عن جماليات العالم وغائيات المعنى؛ حيث النقد يبدأ في تأملها من خلال الإبداع؛ أو النص؛ أو الكون والخلق؛ إي يبحث النقد في المعني داخل الإبداع ؛ بينما يخترق الإبداع المعاني والعالم ليصل إلى الجوهر؛ أو الحقيقة والبرهان العميقين.
ومن هنا نشأ التصوف والغوص في الذات وذات الذات وذات المعني ومعنى الذات وغير ذلك، للوصول إلى اليقين والبرهان، بينما النقد يأتي ليحلل ويشرح بعض مقصوديات وغائيات الإبداع؛ أو هو يحاول تفسير المعنى وعلاقات المعاني المتأرجحة ليصل إلي مقصوديات المبدع؛ وقد يستخدم العقل عبر الفلسفة؛ أو الرياضيات؛ أوعلوم اللغة والفيزياء والبيولوجيا للوصول إلى المعنى العميق الذي يأتي خلف ظاهر النص – كما يتخيله هو- أو كما فهمه؛ عبر مثاقفاته، وظنياته؛ فلا ثبوتية للنقد تجاه النص؛ ولا نظرية تنتج اليقين الذي قصده المبدع.
من هنا تتعدد النظريات والتأويلات للوصول إلى غائيات المعاني خلف ظاهر النص؛ أو ما خلف؛ وما بعد المعنى الظاهري المُتبدي؛ أو البحث عن بعض التعالقات والتواشجات التي قد تفسر الجزء لا الكل؛ ومن هنا يمكن للشاعر أو المبدع أن يتخلى عن النقد بالكلية؛ ولا يمكن أن يتخلى النقد عن العمليات المنتجة للإبداع؛ فهو يشرح ويحلل ويفسر ويظهر الجوهر والتخليقات متوسلا الفسفة وعلوم المنطق، لكنه ينحو بها نحو التأمل الروحي للنصوص؛ لا التأمل العقلي المحض، لأنه معنيٌّ طوال الوقت برصد العلاقة بين الروح والقلب والعقل واندغام المعني من بين ثناياهما عبر اللفة التي تنقل اللفظ المنطوق غير شارحة لجوهر المقصود لدى عملية الإبداع؛ ومن هنا يجيء الناقد ليتأول المعنى؛ ويحاول وصفه والقبض على جوهره؛ لكنه لن يحدثنا عن شرق المشار إليه في النص – بحسب رولان بارت – بل ينقل المعنى بحروفه المتواترة ليظل تفسير النص مرتبطًا بتفسير الكون والظواهر التي تتبدي خلف الظلال؛ وما بعديات المعنى وهيولياته الممتدة كذلك.
إن الناقد يتأول المعنى بحسب رؤيته وثقافته وافتراضاته، لكن روح النص لن يصل إليها كما قصدها الشاعر – وقت الكتابة – لأن الشاعر حين يكتب لا يكتب خلف ظاهر النص؛ بل يكتب ذاته الكامنة خلف الحروف؛ ولا يلتفت إلى الظلال والألوان.. ومن هنا يأتي سر القصيدة؛ فهي قبضٌ من ضوء وقبس الجمال الإلهي في الأرض؛ ودليل قدرة صانع مجتهد؛ هو الإنسان الذي انشأ القصيدة ولم يخلقها؛ فهو الذي كتب المعاني، لكنه لم يصنع ظلالها، لذا يمكننا أن نقول بأن القصيدة هي ظل القدرة الأولى للإله الجميل الخالق؛ وهب شاعرها قدرة تأملية لتطهير روحه والتسرية عما يجيش بمكنون الذات؛ ليرتاح من عناء الحياة لوقت ما.
وفي النهاية يمكن القول إن الشعر دفقة ممتدة يخطفها الشاعر من الوجود في لحظة تخاتلية؛ يصطاد فيها المعنى الكامن خلف غلالة الذات؛ ويحولها إلى قصيدة؛ تتموسق فيها الحروف مع تناغمات الكون؛ وهي لحظة قداسة فريدة؛ يُعمل الشاعر عبرها روحه وعقله؛ ويشحذ قلمه؛ ليسجل ذاته المهراقة المُتغياة؛ والمُبتغاة، على عتبات الكون والعالم والحياة؛ ليصنع من الحروف عجينة للذات، تموسق، وتسحر العقول؛ وتخلب العقول، وتلتذ بها القلوب، فلا يملك الإنسان إلا أن يعود إلى حقيقته الأولى؛ حقيقة وجود الخالق؛ فيصيح مع المبدع ليقول: الله.. الله! فالمتلقي يسكر عبر اللغة؛ ويأسره سحر وجمال الشعر، وعظمة الإبداع الجميل!
|