القاهرة 10 اكتوبر 2023 الساعة 12:57 م
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
الشاعر السبعيني محمد الشحات صاحب تجربة شعرية زاخرة، فالديوان الذي بين أيدينا هو الديوان الثاني والعشرون في مسيرته الشعرية التي بدأت عام 1974 بصدور ديوانه الأول "الدوران حول الرأس الفارغ"، الذي بشر ببداية شاعر متميز، ثم انشغل لسنوات طويلة بعمله الصحفي حتى أصبح نائب رئيس تحرير بدار أخبار اليوم، وفي السنوات القليلة الماضية أصدر هذا الكم الوافر من الدواوين، بالإضافة إلى صدور ثلاثة مجلدات نقدية عن تجربته الشعرية، وبغض النظر عن إيجابيات ذلك أو سلبياته فإنني سوف أفرغ لقراءة هذا الديوان الجديد "ملامح ظلي".
ونلحظ أن عنوان الديوان لافت، ويعد عتبة أولى لتأويل الديوان فمن البداهة أن ملامح الظل هي نفسها ملامح الأصل، لكن الشاعر يفصل بينه وبين ظله ويمنحه حياة أخرى ورغبات مغايرة، ويقيم معه حوارا وصراعا مما أضفى على الديوان حيويته ودراميته ويستدعي الظل تيمة القرين التي شاعت في التراث الشعبي، من هنا جاز للشاعر أن يجعل لهذا الظل ملامحه الخاصة.
والشعر فن لغوي ولا يمكن الدخول إليه إلا عبر اللغة الخاصة التي تميزه عن النثر التداولي وهذا ما يؤكده الشاعر حين يهدي ديوانه إلى حروف الأبجدية التي تمر بالقلوب فتخرج في صورة كلمات متدفقة رقراقة، واللغة الشاعرة ليست مقصودة لذاتها بل لكي تصل إلى عقول الآخرين وقلوبهم فالشعر – عنده – وظيفي بجانب كونه فنًا جماليًا.
يبدأ الديوان بقصيدة "محاوراتي مع ظلي" وصيغة الجمع في "محاوراتي" تدل على تكرار هذا الفعل فالشاعر في حوار دائم مع ظله إلى الدرجة التي تجعله راغبًا بأن يخبره عما يحدث من خلفه حين يقول:
"كنت أحاول أن أترك ظلى / يجلس خلفى / كيما يرقب مايجرى / حتى حين أعود إليه / فيخبرني" لم يعد الظل – هنا – تابعًا أو قرينًا بل حارسًا لصاحبه يخبره بما يجهله، وللظل – كما ذكرت – رغباته الخاصة التي تتمايز عن رغبات الشاعر، إنه يود الانطلاق والتحرر بينما يتقيد الشاعر بقوانين واقعه، الظل مغامر حتى لو أفضى به ذلك إلى الضياع ، يقول "حين جلست على شاطئ نهري / لمح الظل ملامحه فوق الماء / فقاومني كيما يهبط / وارتسمت في عينيه طيور الفرح / فغافلني كيما يسبح فوق الماء / فأشفقت عليه / وحين اهتز الموج / وضاع الظل / فعدت" ومن الواضح أن نهايات هذا الظل تنحصر في الضياع أو الاستسلام أو التعرض للقمع، يقول مثلا – بعد أن خرج الظل عن المألوف – "افتعل الظل مشاكسة / أوقعه ضوء المصباح / وحاول أن يخنقه / لاحت في الأفق هزيمته / فأعلن ظلي / رغبته كي يستسلم / ويعود / من حيث أتى" وبسبب هذا التمرد والإصرار على الخروج منفردا يتعرض للقمع حين "أوقفه الشرطي وأجلسه كي يتفحص أوراق هويته / من أين أتيت / وكيف خرجت / لا يمكنك التجوال بمفردك / وكبله / أدخله فى قلب الظلمة كى يحبسه".
وتظل تيمة الزمن رئيسية في هذا الديوان، والملاحظ أنه زمن مرتبط بحركة الطبيعة يقول عن ضياع الظل المتزامن مع غياب الشمس:
"ما إن غاب شعاع الشمس / حتى ضاعت كل ملامحه" ويعبر عن المعنى نفسه بقوله "كنت أحاول أن أسبقه – يقصد الظل – فلم يلحقنى / وتعثر حين وقفت / فلم ألمحه / حين اختفت الشمس".
كما أنه يجعل من الماء- وهو عنصر طبيعي كذلك – الدواء والداء في الوقت نفسه حين يقول:
"اندفع الماء كجلمود / أخذت دفقته بغصته / فاستحسن طعم الماء / تمنى لو أمكنه أن ينتشر بداخله / كيما يحيى ما أفسده الدهر / وحين امتلأ/ أحس بأن الماء سيغرقه".
وتتحول الحياة اليومية إلى صور متعددة من القمع، هذا ما نجده فى قصيدة "ملامح من الحياة اليومية "، حين يوقف الشرطي الشاعر ويجرده من أوراقه حتى أصبح بلا اسم وبلا محل ميلاد، ثم يطلب منه هذا الطلب المستحيل:
"نزع محل الميلاد/ وأوكل لي / أن أحصي حبات الماء / بكوب الشاي / ولو أمكنني أن أفصل ما ذاب به / ليفك الحظر ويمضي".
وإزاء هذا الواقع المرير الذى يطارد الشاعر يلجأ إلى ماضيه وتجاربه العاطفية لكنها أيضًا لا تسعفه في الخروج من حالته / يقول:
"اشتم روائحها / فانفتح القلب وخرجت / فتبسم واستشعر دفء مشاعرها / لم تسأله كيف تحمل أيام الهجر / تحسس ما أمكن من ماضيه / فاختمر بداخله بركان مشاعره / وأوشك أن يخمده" وفي هذه الحالة الحالمة العابرة يرتد إلى الواقع حيث "جاء صرير الباب حثيثا / ونداء صغيرته يتبعه / كي تخرجه ".
ومع ذلك يظل العشق هو الملاذ الأخير في مواجهة هذا الزمن يقول فى "مشاكسات لا تنتهي":
"أوصاه النادل / أن يكثر من شرب الماء / وأن يتمهل في مشيته / كي يستمع لأصوات النسوة /..../ وأخبره بأن تجاعيد الزمن / قد امتلكت كل ملامحه / وأن مداومة العشق ستنجيه".
ومن المعروف أن القصيدة الحديثة قد سعت إلى الاستفادة من تقنيات الفنون الأخرى مثل المسرح والسينما والفنون السردية، وهذا ما نلحظه فى قصيدة "مشاهد من رحلة لم تنته"، حيث يقسمها الشاعر إلى مقاطع يعنونها على التوالي بنهار خارجي ونهار داخلي، مستفيدًا بذلك من فن كتابة السيناريو، كما يبدو التأثر بالسيرة الذاتية في قصيدة "هل مررت من هنا؟" فالضمير – هنا – هو ضمير المتكلم، وصيغة السؤال تبدو كما لو كانت منولوجا داخليًا، وترصد القصيدة تغير الزمن وضياع ما يدل على حركة الشاعر داخل المكان ، يقول:
"بحثت جاهدًا في سيرتي / عما يشير أنني مررت من هنا / وأنني مكثت فوق الأرض ما مكثت / وسوف أبقى تحتها / فلم أجد إشارة أو بصمة / تدل أنني كنت هنا".
وتحتل البنية السردية مساحة واضحة في هذا الديوان، ويمكن أن نمثل لها بقصيدة "الهروب من الحلم"، ولهذا تكثر الأفعال الدالة على "الحدث" في هذه القصيدة: "حاول – سقط – خاف – أخفاها – دخل – بدأ – تلاطم ..."، والديوان يحوى نزعة روحية واضحة حيث يستدعي الشاعر قصة يونس مع الحوت، وفي قصيدة "ملجأ يحتوينا" نكتشف أن هذا الملجأ هو "المسجد" بوصفه مكانا يقربنا إلى الله ويدخلنا فى الأجواء الروحية، يقول:
"على باب بيتك حين وقفت / بكيت / فقد أغلقوه / منعت فيا غصة في الفؤاد / المآذن خاوية / وها هو صوت المؤذن / حين يعانق جوف الفضاء ويعود ليرتج".
وهكذا تتعدد رؤى هذا الديوان وتقنياته الفنية التي تدل على خبرة الشاعر وامتلاكه لأدواته الفنية.
|