القاهرة 03 اكتوبر 2023 الساعة 12:59 م
بقلم: سماح ممدوح حسن
يتابع العالم أجمع ويشارك البعض في محاولات إنقاذ الناجين من النكبتين اللتين نزلتا بدولتى"المغرب بزلزالها المدمر، وإعصار ليبيا الطوفاني المسمى بإعصار "دانيال"، وفى كلا البلدين تحكى الصورة قبل الكلمات كيف غيّرت تلك الكوارث الطبيعية معالم الخريطة فى البلدين، وأيًا كانت الأسباب التى زادت من تأثيرات الكوارث إلا أنها اشتركت في تغييرها الجذري للخريطة السياسية والجغرافية والديموجرافية في التاريخ العربي قديمًا وحديثًا.
لم يكن نصيب جغرافيا العرب من كوارث الزلازل في تاريخها القديم إلا القليل بالنسبة لجغرافيات أخرى شهدت الفيضانات فنحن بالأساس ركن الجفاف بالعالم. لكن المؤرخ "ابن تغري بردي" ذكر مأساة ثلاثة زلازل كبرى ضربت حلب في سوريا فى العام 1248، وقتل فيها أكثر من 200 ألف إنسان. وقبله ب100 عام زلزال الأردن الكبير، وزلزال بلاد الحجاز في الفترة نفسها تقريبًا. لكن بلاد العرب ابتليت أكثر بالأوبئة وعلى رأسها وباء الطاعون، الذى أتى من أوروبا عبر الموانئ التجارية. وهو الوباء الذى كان له تأثيرًا سياسيًا وديموجرافيا ربما أكثر من الزلازل والفيضانات.
• الطاعون.. مصائب قوم عند قوم فوائد سياسيًا
اشتهر العالم العربي قديمًا بانتشار وباء الطاعون من بلاد اليمن والحجاز ًا بمصر وحتى بلاد الأندلس عندما كان العرب يستعمرونها. يذكر بن خلدون فى "مقدمته" الطاعون الأسود، كيف أن هذا الوباء قضى على دول وأقام دول، ويقول" نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف المئة الثامنة، أي منتصف القرن الثامن الهجري، الطاعونُ الجارفُ الذي تَحَيَّفَ، أي أصاب، الأمم وذهب بأهل الجبل وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار، ودَرَسَت السُّبُل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل وكأنما نادى لسانُ الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة وكأنه خَلْقٌ جديد ونَشْأةٌ مُسْتَأنَفَة وعالَمٌ مُحْدَثٌ".
فمثلًا في تلك الفترة التى يتحدّث عنها بن خلدون، قامت في بلاد فارس ما يعرف "بثورة الزيديين" وحينها كانت الدولة الأموية هي من تسيطر على العرب، وعندما استعدت جيوش عبد الملك بن مروان للخروج للقضاء على الثورة، انتشر في بلادهم وباء الطاعون وقضى على قدرٍ لا يستهان به من البشر، حتى إن بن خلدون وصف البلاد حينها بأنها خلت، فقضت على الزرع والعمران وتدهورت أحوال دولة الأمويين خاصة وأن الوباء استمر أكثر من عشرين عاما فى عهدهم، مما أضعف دولتهم أكثر بجانب أسباب أخرى. وبما أن العباسين كانوا يتحينون الفرصة لإزاحة دولة الأمويين وإقامة دولتهم، بدؤوا يثورون على الدولة هم أيضًا، ويروّجون لفكرة أن الله أرسل الطواعين المتعاقبة على دولة الأمويين تأييدًا للعباسيين ونصرة لهم، حتى لا يتكالب طاعون الوباء وطاعون السياسية الأموية على الناس.
• انتفاضة الزنج.. التأثير الديموجرافي للطاعون
لكن لم تنته الطواعين بمجيء الدولة العباسية، وفي فترة ما كان الطاعون أحد الأسباب غير المباشرة للقضاء على دولتهم هم أيضًا، وكانت ثورة أو انتفاضة الزنج من أهم التأثيرات الديموجرافية الناجمة عن انتشار وباء الطاعون حتى لو بشكل غير مباشر، وحدث ذلك عندما تعاقبت أيضًا على دولة العباسيين فترات طويلة لوباء الطاعون، الوباء الذي قضى على أغلب الفلاحين في القرى العراقية، وكان الوباء عادة ما يقضي على أهل الريف بأعداد أكبر من المدن لتدني الوضع الاقتصادي أكثر، بلإضافة إلى الفقراء من أهل المدن المكدّسين فى أماكن ضيقة، والمدن الساحلية.
وعندما فطن الخلفاء العباسيين إلى النقص الحاد في الأيد العاملة الزراعية تحديدًا، حيث كان الوباء يحصد الأرواح بالآلاف، اتجهوا إلى ما يعرف بتجارة "الزنج" التى نشطت بتوسع المستعمرات الإسلامية على ساحل أفريقيا، فكثر عدد الزنوج المُستجلبين لشدة احتياج الدولة لهم كأيدٍ عاملة في الزراعة، فتغيّر التكوين السكاني للعراق، وامتزجت العادات العربية والأفريقية ببعضها، وتغير شكل التكتلات السكانية في الريف حتى صار الزنج في بعض الفترات أكثر من العرب فب قرى الإقطاعيين، الذين كانوا يحرصون على زراعة أكبر مساحة من الأرض حتى يتسنى لهم امتلاكها عملاً بأحاديث "من أحيا أرضًا ميتة فهي له"، وأيضًا "من عمّر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها"، وبعد الأوبئة تزيد الأراضي التي لم تعد ملكًا لأحد بعد فناء أصحابها، ومن هنا استجلب الإقطاعيين، الزنوج بأعداد وافرة للعمل فى أراضيهم.
لكن بما أن هؤلاء"عبيد" فلم يكونوا يُعاملوا بأكثر من معاملة العبيد، رغم أنهم مَن أعاد النشاط الزراعي للبلاد مرة أخرى وأنقذ العرب من كارثة المجاعة، ومع الوقت بدأ الزنوج يشتكون ويثورون على ولاة العباسيين اعتراضًا على أوضاعهم المزرية كالتعذيب والجوع، ورغم حث الدين على معاملة الأجير خير المعاملة إلا أن كل المصادر التاريخية تسرد صور العذاب الذي كان يُذيقه الإقطاعيين للزنوج. لتقوم ثورة "الزنج" بعد أن وصل الزنوج لأوج قوتهم بعد احتشادهم واتحادهم من كل القرى والمدن الكبرى، وشن معارك على القوات العسكرية فيها، بينما كانت الخلافة العباسية حينها منهكة القوى، فاستطاع هؤلاء الزنج السيطرة على مدن عديدة واستمرت ثورتهم حوالي أربعة عشر عامًا، حتى قضى عليهم الأمير"الموفّق طلحة".
وفى زمن سابق أيام الخليفة "عمر بن الخطاب" أقعده الوباء عن الخروج إلى الشام لمحاربة الروم بعدما مات عدد كبير من قادته في هذه الحرب، يقول الدكتور"محمد السيد الوكيل" إن الوباء حينئذ سمي بطاعون عمواس، وهو اسم أول بلدة فى الشام ظهر فيها، وبدأ الوباء ينتشر بعد كثرة عدد القتلى من الروم والمسلمين الذين قتل أكبر وأهم قادتهم في تلك المعارك، كأبي عبيدة الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن عمرو. وحينها قرر عمر بن الخطاب بعد موت كل أولئك القادة أن يخرج بنفسه إلى الشام، لكن انقسم الرأي حينها بين مؤيد لهذا الخروج أو العودة للمدينة، وهو الرأي الذى نُفذ في النهاية.
كما ساهم الطاعون أيضًا في القضاء على عدد كبير من جند الحملات الصليبية في بلاد الشام، فكان بمثابة محارب خفي لكنه كان يقتل طرفي الصراع.
ولم يكن للطاعون تأثير سياسي فحسب، لكن كان له أكبر الأثر ثقافيا، فطوال الفترات التى اجتاح فيها الطاعون بلاد العرب كان من بين ضحاياه عدد كبير من الشعراء والأدباء، كالشاعر والفقيه الشافعي "ابن الوردي"، الذي ألف قصائد كانت بمثابة التأريخ لما عاصره من فظائع هذا الوباء، كعدد الوفيات وأعراض المرض والقرى التى أبيدت عن آخرها من الوباء، والإجراءات التى اتخذتها البلدان حينها للحد من المأساة، آخر قصائده عن الوباء كتبها قبل موته بيومين "ولست أخاف من الطاعون كغيري/ فما هو غير إحدى الحسنيين". كذلك مات بالطاعون فى البصرة النحوي العربي "أبو الأسود الدؤلي"، أما "ابن حجر العسقلانى" الذى تسبب الوباء في موت بناته الثلاث، قد وضع كتابا خاصا بالوباء بعنوان "بذل الماعون فى فضل الطاعون"، وفيه أيضًا سرد أحوال الوباء.
• من الطاعون للمجاعة
إذا كانت الفيضانات تصنف ككارثة طبيعية، فأيضًا الجفاف كارثة لا تقل أثرها عنه حيث ينتج الجوع عن الجفاف، وهذا ما حدث في أكبر فترة جفاف مرت على مصر في التاريخ المكتوب، والتي عرفت باسم "الشدة المستنصرية" في عهد الدولة الفاطمية وعاشت فيها مصر سبع سنوات عجاف، نقص فيها الزرع وجف الضرع ومات خلق كثير. الشدة التي حكى عنها بن إياس والمقريزي الفظائع، من أكل الناس للقطط والكلاب وأكل البشر أيضا.
هذه الكارثة أدت إلى تنازل المستنصر بالله الحاكم الفاطمي، لبدر الجمالي أمير الجيوش"حاكم عكا" عن سلطات مطلقة وحرية كاملة لإدارة البلاد، فكأنما أشركه الحكم معه فى سبيل إنقاذ البلاد من الكارثة، وكانت تلك سابقة أن يتنازل حاكم عربي عن هذا القدر من حكمه بكامل إرادته لأحد ولاته، حتى انفرد بدر الجمالي بالحكم خالصا له، وبعد ستة أشهر فقط توفي المستنصر. وكأن التاريخ دائما يعيد نفسه، كانت نفس المجاعة هى التي سلّمت دولة الإخشيد للفاطميين، حيث استمر جفاف النيل تسعة سنوات أغرقت دولة الإخشيديين.
رأينا فيما سبق كيف سلمت الكوارث الطبيعية الدول بعضها إلى بعض، فكما كانت طامة كبرى على البعض كانت بداية الخير للآخرين.
|