القاهرة 26 سبتمبر 2023 الساعة 01
بقلم: د. حسين عبد البصير
تعد الأساطير المصرية قصصًا تهدف إلى توضيح وشرح تصرفات الآلهة وأدوارها في الطبيعة، وتصف أفعال الآلهة المصرية كوسيلة لفهم العالم من حولها، ويمكن أن تتغير تفاصيل الأحداث التي تمت روايتها لنقل وجهات نظر رمزية مختلفة حول الأحداث الإلهية الغامضة التي تم وصفها، لذلك يوجد العديد من الأساطير في نسخ مختلفة ومتضاربة، ونادرًا ما كانت تُكتب الروايات الأساطير بشكل كامل، وغالبًا ما تصف أجزاءً مختصرة فقط. وفي أغلب الأحيان، احتوت النصوص فقط على حلقات من أو تلميحات إلى أسطورة أكبر.
إن معرفة الأساطير المصرية مشتق في الغالب من الترانيم التي توضح بالتفصيل أدوار آلهة معينة، ومن نصوص طقسية وسحرية تصف الإجراءات المتعلقة بالأحداث الأسطورية، ومن النصوص الجنائزية التي تذكر أدوار العديد من الآلهة في الحياة الآخرة. وسجل الإغريق والرومان، مثل بلوتارخ، بعض الأساطير الموجودة في التاريخ المصري.
لقد كانت الأساطير المصرية مرنة جدًا لدرجة أنها كان يمكن أن تتعارض مع بعضها البعض على ما يبدو. وتحدث العديد من الأوصاف عن خلق العالم وحركات الشمس في النصوص المصرية، واختلف بعضها كثيرًا عن بعضها البعض، وكانت العلاقات بين الآلهة متغيرة، بحيث يمكن، على سبيل المثال، تسمية الإلهة حتحور بأم أو زوجة أو ابنة إله الشمس رع. ويمكن حتى دمج الآلهة المنفصلة، أو ربطها، في شكل إله واحد أو إلهة واحدة. وهكذا تم دمج الإله الخالق آتوم مع رع ليشكلا رع آتوم. كان أحد الأسباب الشائعة للتناقضات في الأسطورة في مصر القديمة هو أن الأفكار الدينية اختلفت بمرور الزمن وباختلاف المناطق التي خرجت منها. وكذلك تم تطوير العديد من العبادات المحلية لمختلف الآلهة حتى صارت عبادات تركزت على الآلهة الراعية الخاصة بها.
ومع تحول تأثير المعبودات المختلفة، حقق بعض العبادات الأسطورية هيمنة وانتشارًا كبيرين في البلاد. فعلى سبيل المثال، في عصر الدولة القديمة، كانت عبادة آتوم ورع، المتمركزة في مدينة الشمس، أو هليوبوليس، (أو عين شمس والمطرية في شرق محافظة القاهرة)، من أهم تلك العبادات الأسطورية. لقد كونا عائلة أسطورية، هي عائلة التاسوع، أي الأرباب الذين كان عددهم تسعة، وقيل إن ذلك التاسوع الخاص بهليوبوليس قد كان هو المسؤول عن خلق الكون وخروج العالم إلى الوجود من المحيط الأزلي المعروف بمسمى "نون". وتضمن ذلك التاسوع أهم الآلهة في ذلك الوقت، غير أن الأسبقية كانت للربين الخالقين آتوم ورع.
غلف المصريون الأفكار الدينية القديمة بأفكار جديدة، فعلى سبيل المثال، قيل أيضًا إن الإله بتاح، الذي تركزت عبادته في منف (ميت رهينة، مركز البدرشين في محافظة الجيزة)، كان هو أيضًا خالقًا للكون ومخرجًا للعالم من العدم. وتضمنت أسطورة الخلق الخاصة بالرب بتاح بعض الأساطير التي هي أقدم بقولها إن تاسوع هليوبوليس هو الذي كان ينفذ أوامر الرب بتاح الإبداعية الخاصة بنشأة الكون. وهكذا، فإن الأسطورة جعلت من الرب بتاح أقدم وأعظم من التاسوع الخاص بهليوبوليس. ونظر العديد من العلماء إلى تلك الأسطورة على أنها محاولة سياسية؛ لتأكيد تفوق إله منف، بتاح، على إله هليوبوليس، آتوم ورع. من خلال الجمع بين المفاهيم بتلك الطريقة، أبدعت مخيلة المصريين الجمعية مجموعة معقدة للغاية من الآلهة والأساطير، وقد اعتقد علماء المصريات في أوائل القرن العشرين الميلادي أن مثل تلك التغييرات ذات الدوافع السياسية كانت السبب الأساسي للصور المتناقضة في الأسطورة المصرية.
في الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي، أدرك البعض الطبيعة الرمزية للأساطير المصرية، وقيل إن الأفكار المتناقضة على ما يبدو كانت جزءًا من "تعدد الأساليب" التي استخدمها المصريون لفهم طبيعة عالم الآلهة. وأثرت التغييرات السياسية على المعتقدات المصرية. وكان للأفكار التي ظهرت من خلال تلك التغييرات معنى أعمق أيضًا.
عبرت نسخ متعددة من نفس الأسطورة عن جوانب مختلفة من نفس الظاهرة، وعكست الآلهة المختلفة، التي كانت تتصرف بطريقة مماثلة، الروابط الوثيقة بين القوى الطبيعية. وعبرت الرموز المختلفة للأساطير المصرية عن أفكار معقدة للغاية؛ إذ لا يمكننا رؤيتها بعدسة واحدة. تنوعت المصادر المتاحة من التراتيل الرسمية إلى القصص المسلية، ودون نسخة واحدة أساسية من أية أسطورة، قام المصريون بتكييف التقاليد العريضة للأسطورة لتناسب الأغراض المتنوعة لكتاباتهم. وكان للمصريين تقليد شفاهي متطور عبر العصور ينقل الأساطير من خلال سرد القصص المنطوقة، وساعد ذلك التقليد في تفسير سبب تقديم العديد من النصوص المتعلقة بالأسطورة دون الكثير من التفاصيل، فقد كانت الأساطير معروفة بالفعل لكل مصري، ولم يتبقَ سوى القليل من الأدلة على ذلك التقليد الشفاهي.
وتعد معرفتنا الحديثة للأساطير المصرية مستمدة من مصادر مكتوبة ومصورة، ولم يتبق سوى جزء صغير من تلك المصادر إلى الوقت الحاضر، وفُقد الكثير من المعلومات الأسطورية التي تم تدوينها من قبل. وليست هذه المعلومات وفيرة بشكل متساوٍ في جميع الفترات؛ لذا فإن المعتقدات التي اعتنقها المصريون في بعض العصور من تاريخهم غير معروفة لنا بشكل كبير مثل المعتقدات الموثقة بشكل أفضل، يظهر العديد من الآلهة في الأعمال الفنية من فترة الأسرات المبكرة لتاريخ مصر، ولكن يمكن استخلاص القليل عن أفعال تلك الآلهة من تلك المصادر؛ لأنها لم تكن مدونة بشكل مطول أو كبير.
تعد المعتقدات التي تعبر عنها تلك الأساطير جزءًا مهمًا من الديانة المصرية القديمة، وتظهر الأساطير بشكل متكرر في الكتابات والفنون المصرية، لا سيما في القصص والنصوص الدينية مثل الترانيم ونصوص الطقوس والنصوص الجنائزية ومناظر المعابد، ومن بين الأساطير المصرية المهمة كانت أساطير الخلق، ووفقًا لتلك القصص ظهر العالم كمساحة جافة في محيط الفوضى البدائي، ولأن الشمس ضرورية للحياة على الأرض، فإن أول شروق لرع كان بمثابة لحظة الظهور لنشأة الكون، وتصف أشكال مختلفة من الأسطورة عملية الخلق بطرق متنوعة مثل تحول الإله الأزلي آتوم إلى العناصر التي تشكل العالم، كقول يعبر عن عملية الخلق للرب الفكر الإله بتاح، وكعمل من أعمال القوة الخفية للإله آمون، وبغض النظر عن تلك الاختلافات، يمثل فعل الخلق التأسيس الأولي للماعت والنظام الكوني ونمط الدورات الزمنية اللاحقة.
|