القاهرة 08 اغسطس 2023 الساعة 12:59 م
![No description available.](https://scontent.fcai19-3.fna.fbcdn.net/v/t1.15752-9/363903120_617406617220604_3669831865017479713_n.jpg?_nc_cat=108&ccb=1-7&_nc_sid=ae9488&_nc_ohc=ionm_evTjzUAX-NL3QY&_nc_ht=scontent.fcai19-3.fna&oh=03_AdRUbbfjd3-Gc1W9U9YySnJK-SK9uLJLYLtXfdVPRXOJWA&oe=64F9960F)
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
تتأسس الروايات العربية الجديدة، المعاصرة على ضدّيات متغايرة، غيريّة متراتبة، ملتبسة ومحايثة أيضًا، تبدو كسراب يحسبه الظمآن قطرا، فإذ به الهطول المفارق لضدّيات ذهنية، مجردة تارة، ومُحَسّة تارة، وغائمة وغامضة، بل وملغزة كذلك، وجميلة أيضًا.
إنها هندسة جديدة للشكل تجاه المضمون، والمضمون تجاه الشكل، عبر مراوحة السّياقات الكلّية، والشذرات والتّكايا الجزئية، التى تندغم فيها شهقة الذات، وحليب الطين، والنور الذى يهطل من سرّة النور الميتافيزيقية لأسرار البهاء الباذخة.
هل نحن إذن أمام مخيال جديد، يؤسس لمعادلات الذات لتندمغ مع المُعطى المجتمعى، أو المعطى السيموطيقى بدواله ومدلولاته وعلاماته التى تصهل فى الفراغ الكونى، لتؤسس وجودًا للاميتافيزيقا ملتاثة، تعصف بالذهن وتصهل فى الروح، وتفجّر الأنوثة الطاغية لجماليات اللغة الصاهلة، والفاختة بقرقل البياض، وبعسجد الأبدية؟!
ترى هل نبتكر تربة نقدية مغايرة نبذرها مع ربيع الرواية الجديدة، أم ترانا نؤسس لصوفية سيموطيقية جديدة تسير مع الصور الممسوسة بكهرباء الروح المتوضأة بالعشق الباذخ، والموضوعاتية السامقة، التى يتبدّاها الكاتب، ويتغيّاها، ليؤسس لنا براحًا ذاتيًا متسعًا، لمُهر الاختلاف الجديد، لإبداعات ضدّية، تصنع فرادتها عبر صهيل الذات الحالمة المتصوفة بنبيذ سيروري سامق يعيد للحياة بهجتها التّغايرية اللطيفة ؟!
وهل يخاتلنا المبدع الروائى " محمد الغرباوي " ليأخذنا في كتاباته المثيرة الممتعة، ويعبر بنا عبر جسر اللغة، ليماهينا بين الحسّى والذهنى، والمجرد وااللامادى، والفيزيقى الواقعي ، والتغايرى والتخالفى، والعبثى واليقينى اللا مطمئن ، واللا قانع ، بل هو يعبر بنا عبر الذات إلى الواقع ؛ ولكنه واقع رافض؛ واقع سلبي لعالم فيه الناس وأبطال الرواية ضد القيم والأخلاق؛ بل هو عالم يدمر الأخلاق والشباب عبر تجارة المخدرات والحشيش والبودرة والحبوب المخدرة وغيرها؛ ويحاول الغرباوي أن يعالج ذلك الواقع بتغليب القيم ورفض التهريب ومكافحة الجريمة من خلال أبطال الرواية؛ وهي رواية تجنح إلى البوليسية؛ أو هي رواية الشباب المغامرين الذين يستمتعون بمثل تلك الروايات التي تستنهض فيهم مغامرات الدفاع عن القيم، ورفض التهريب والمهربين، وتثمين دور الشرطة والدولة لمتابعة المجرمين والقبض عليهم... وهي رواية واقعية اجتماعية رومانسية كذلك، حيث تجسد حب "وعد" البطلة التي كانت تعمل في التهريب وتابت عندما عرفت خالد؛ وسيكا من قبل؛ ولم تكن تعرف -حتى النهاية- أن خالد حبيبها هو ضابط الشرطة أحمد الذي سيقبض على العصابة الدولية التي يتزعمها الريس كارم ومساعده جابر الشاب ضخم المخيف وعيره من رجال العصابة .
كما تكشف الرواية عن فساد بعض الكبار في الدولة مثل شخصية "الرجل الكبير" الذي يشعل منصبًا كبيرًا في الدولة، فإذ به هو زعيم العصابة الذي جند بعض ضعاف النفوس من صغار الضباط ليعملوا على تسهيل أمر البضاعة من الحشيش والمخدرات وادخالها إلى البلاد عن طريق الشبكة الدولية في بيروت بلبنان وبعض الدول، إلا أن يقظة الحكومة والمخابرات المصرية وتعاونها مع رجال المخابرات في بعض الدول العربية الأخري قد جعل المهابرات المصرية تقبض علي التنظيم الدولي الذي يجلب المخدرات إلى البلاد ويدمر المجتمع والشباب وكل شيء .
كما يستخدم الكاتب الروائي محمد الغرباوي اللغة العربية السلسة؛ إلى جانب اللهجة العامية ليمزج بين الواقع والخيال؛ ويحاول اشراك الجمهور في اللعبة السردية للرواية الشائقة البديعة؛ ولموضوعها الإجتماعي الهادف .
ثم هل يصنع "الغرباوي" معادلاً جديداً ضمنياً عبر كتاباته المفتوحة الآفاق على براحات الكون والعالم والوطن، عبر ذاته/ حبيبته / الكون ، لينسرب من كل ذلك، ليسبح عبر ذاتية الأبطال ليصنع عالمه الصغير الجميل؛ إذ تعد رواية "الورطة" هذه أولى رواياته المثيرة التي تمزح بين "روايات الشباب"و "أدب المغامرات" كالتي كتبها الكاتب الراحل نبيل فاروق؛ وكامل الكيلاني وكثير من كتاب الشباب المعاصرين.
ثم هل ترانا نشاهد الكاتب وهو يسير على منوال الأدب العالمي ليصنع عالمًا واقعيًا يمتزج فيه الحب مع المغامرة مع الرعب ويجسد الانسانية الكامنة في نفوس البشر؛ كالتي صنعتها من قبل الكاتبة "أجاثا كريستي" أو كالتي كانت تثيرنا بموضوعاتها مثل "روايات عبير" وقصص "المغامرون الخمسة" أو غيرها من القصص التي تخاطب شريحة الشباب والفتيان والفتيات؛ والتي تستلب عواطفهم؛ وتسمو بخيالاتهم؛ وتحقق غاياتها المنشودة لمثل هذه الشريحة الشبابية الناهضة؛ والتي تمثل مرحلة فارقة في عمر الأمة؛ إذ الشباب هم عماد الأمم وتربيتهم وتدريبهم على اتباع الفضيلة ونبذ الرذيلة والتحلى بالأخلاق الفاضلة هو واجب الأسرة والمدرسة والدولة والمجتمع بكل مؤسساته المختلفة؟!
ثم هل يجترج الروائيون الجدد -الشباب- غلاف اللغة الشفيف ليعبروا بها، وبنا كجمهور أدبى إلى أعماق الجوهر عبر سياقات التأوي ، أو حتى المباشرة ؛ لنعبر الى نصوص أكثر جموحاً ، وأعمق طرحاً ،وأسمى مذاقاً، ونكهة، تستمد شرعيتها من مذاق سيرورتها الباذخة، عبر المقولات اللغوية، أو المحايثات الملتبسة ، فكأننا أمام صور جديدة لملاك ، أو لشيطان يتلبّس قارءه ، فيمسّه ليجده -من بعيد- يقترب ممسكاً بغيمة ليهطل على العالم والكرة الأرضية ، أو ليهطل على الأنهار والسماء الهاطلة ؟!
إنها الرواية : هطول فيزيائى ، هطول ذهنى ، يستحثّ العقل ، ويحفّز الذاكرة لاستكناه عالم مغاير ، سامق وزاعق ، متخفّ وعار ، هامشى وملغز فى آن ، له نكهة ومذاق سرمدى عبر الكون والعالم والحياة.
إن الحديث عن رواية عربية معاصرة والتنظير لها، لا يمكن أن تؤتى ثماره نظرياً -كما أحسب- بل وجدنا التطبيق العملى أنجع السبل للوصول إلى تمظهرات التجديد في الرواية العربية، وعلى المُنَظِّرِين أن يستقوا من خلال مفاتح التطبيق- فيما أحسب - الأطر والسمات ،والثيمات التجديدية لتى تحدد مسارات الرواية العربية المعاصرة.
لقد خطت الرواية العربية خطوات تجديدية واسعة في العقد الأول من القرن الحالى، وأراها تعبر نهر الحداثة وما بعدياتها لتقدم الجديد والمغاير، عبر كتابات الروائيين الشباب ، وبعض الكبار الذين طوروا من منهاجية الكتابة، مستفيدين من العجلة الكونية التحديثية التى طالت كل العلوم والفنون والآداب ؛وطالت كل جوانب الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، لذا لا غرو أن تنطلق مقولات مثل : "الرواية هى ذاكرة العصر" ، أو أنها ديوان العرب، وإن كنا لا نميل إلى مثل هذه المقولات التى لا تنتصر للفنون، وتعقد تقارنية بين إجناسيات متغايرة، ومحايثات ملتبسة لضدّيات متغايرة، بل أقول : إن لكل جنس أدبى مذاقه الخاصة، فالشعر هو الشعر ذاكرة الأمة وديوانها الخالد، والقصة القصيرة هى التى تقرأ الواقع وقضاياه عبر كبسولات ترميزية تكثيفية، متراكمة . أما الرواية فقد تكون ديوان العرب - الآن – ولكن في سياقها البنائى، دون أن تطال من إجناسيات أخرى كالشعر والفنون والعلوم كذلك.
لن نوغل أكثر في فتح رؤى قرائية، أو تقديم درس نقدى للنقاد الجدد، أو درس تثاقفى استعلائى ، فلم نركن، ولن نجنح، ولم نقصد ذلك مطلقاً ، بل نقدم طرحاً جديداً – كما أرى – وهو محاولة منا لتقديم أنموذج نقدى نحتذى به، لقراءة النص الأدبي الروائى،كى لا نتوه في خضم وضبابية النظريات الكثيرة جداً، والتى قد تشوش الآفاق لدى الناقد والقارىء ، بل والروائى كذلك ، ومبدع القصة القصيرة : السرد عموماً ، كذلك
إننا ننطلق من نظرية نقدية مفادها: "إن النص السردى يطرح منهاجيات قرائته، ولا يجب على الناقد أن يفرض نظرية تجاه النص ، كى لا يلوى عنق النص، بل عليه أن يقرأ النص متأولاً سياقاته، وهارمونى مضمونياته، وهنا على الناقد أن يطوّع النظرية، وقد يستخدم أكثر من نظرية نقدية لتطويع النقد لخدمة النص، ومن هنا كان اتجاهى، ومنحاى، لتقديم قراءات – أراها حسبما أطيق – تغايرية ، بعض الشىء، أو تنحو إلى تجديد، وعلينا أن نطرح الرؤى، وأن نعمل محاولاتنا النقدية التجديدية للوصول بالرواية العربية المعاصرة إلى آفاق نطمئن إلى هويتها، كى نرسخ للهوية العربية لها، ولنقرأها، ومعنا القارىء بمذاق عربى أصيل، ونكهة شرقية تتسق مع الجميل والمقدس، وتعبر بهما إلى آفاق أكثر رحابة عبر المخيال الذى يتماشى مع مزاجية العصر، ومزاجية التوجّه الشرقى الجميل ، لنشاهد روايات عربية تأخذ بالقديم وتتوسل الجديد ، لتقدم للقارىء عبر ربوع العالم ، رواية جديدة بنكهة عربية ،شرق أوسطية مغايرة، وجديدة، شاهقة، وجميلة أيضاً .
لقد نجح الكاتب محمد الغرباوي في استخدام دراما السرد في وصف الأحداث ، عن طريق لغة الحوار، والتصوير الشيق المتنامى للأحداث ،وكسر الايهام بالجمل الحوارية للشخوص ، ثم الانتقال البديع عبر اللغة السردية البسيطة والعميقة في آن ، في وصف الحالة الدرامية والفنية للرواية ، كما استطاع أن يصور لنا بعض عادات المجتمع المصري وتقاليده التي ترفض التهريب وتحاربه من خلال المخلصين ، من خلال استدعاء لغة السرد المحليّة ، لتضمينه السياقات النصية جملاً ومعانٍ ومفردات صرفة ، الى جانب تضفيره لغة السرد الفصيحىة بلهجة عامية أكثر بساطة واجادة وعمقًا؛ وقد استطاع توظيف أحداث الرواية وتوجيه السرد نحو غائيات مقصدياته؛ عبر شخوص الرواية ولهجتهم المحلية ، المعبرة عن جوهر الموضوع والوسط الشعبي الذي تقع فيه تلك الأحداث الجميلة للرواية . ولقد نجح الكاتب – بحسب ما يطيق – في تقديم رواية تمس الذات والمجتمع وتقدم موضوعًا يمس الشباب وكل شرائح المجتمع؛ وقد استطاع أن يعبر حواجو الرواية الشاهقة؛ ويجتاز كثير من المفازات؛ وعبور بعض المنزلقات الخطرة؛ ليقدم لنا بكل ما يستطيع رواية جميلة تخاطب الشباب ؛ وتحاول أن تجد لها مكانًا في عالم الرواية الجديدة !
إن النقد علم مخصوص، شائك، ممتع ؛جميل، وهو علم يحتاج إلى دربة بعد أن اختلط – الآن – الحابل بالنابل، ودخل إلى المجال من كل صوب وحدب الكثير، فغامت الرؤى، وضاعت القيمة، وغدا النقّادة أشبه بمن يقرعون خطوب الحرب، شاهرين سيوفهم على المبدع والإبداع، غير عابئين بأطر ومنهاجيات وضوابط معيارية، توازن بين المنهج والنظرية، وبين التطبيق الجاد ، وعدم الخلط بين مبدع جديد مبتدئ نحاول أن ننهض به وبما يكتب؛ ولا نقف أمام طموحاته؛ بل نشجعه ونقف إلى جانبه؛ وهكذا يكسب الأدب مبدعًا على أول الطريق .
في النهاية : تظل الرواية العربية هى القالب الإبداعى الأشهى الذى يعكس الواقع، ويقدم واقعاً سوريالياً ، فيزيائياً، سيمولوجيا، وأبستمولوجيا جديداً ، يعبر بالخاص إلى العام، وبالماضى إلى الحاضر، ويستشرف أفقاً مغايراً للأدب الإنسانى المائز، الشاهق، الباذخ الجميل، عبر الكون والعالم والحياة.
|