القاهرة 08 اغسطس 2023 الساعة 12:54 م
بقلم: محمود الغيطاني
لا يمكن إنكار أن فترة السبعينيات من القرن الماضي كانت هي الأسوأ من بين الفترات التي مرت بها السينما المصرية، حتى إنها فاقت في هبوطها- رغم غزارة الإنتاج- فترة صناعة أفلام المقاولات التي بدأت في منتصف ثمانينيات القرن، واستمرت حتى منتصف التسعينيات حيث كادت السينما المصرية فيها أن تتوقف تماما عن العمل، وأُغلقت فيها الكثير من دور العرض، ووصل عدد الأفلام المُنتجة سنويا إلى ما يُقارب الستة عشر فيلما في عام 1997م، وهو أدنى رقم في الإنتاج وصلت إليه السينما المصرية.
صحيح أننا رأينا بعض الأفلام الجيدة في السبعينيات مثل فيلم "العصفور" للمخرج يوسف شاهين 1974م، و"أبناء الصمت" للمخرج محمد راضي في العام نفسه، و"زائر الفجر" للمخرج ممدوح شكري 1972م، لكن الفيلم لم يُسمح له بالعرض سوى عام 1975م بعد وفاة مخرجه، و"أغنية على الممر" للمخرج علي عبد الخالق 1972م، و"الكرنك" للمخرج علي بدرخان 1975م، و"السقا مات" للمخرج صلاح أبو سيف 1977م، وغيرها من الأفلام المهمة التي لم تحاول الهروب من أثر نكسة 1967م، وقامت بدورها الفني والاجتماعي والسياسي والأيديولوجي تجاه فترة الهزيمة والبحث في أسبابها، لكننا في المقابل رأينا عددا ضخما بشكل غير طبيعي من الأفلام التغييبية، أو الإلهائية التي لا تحمل أي مضمون في سياق أحداثها، ولا يعنيها الحديث عما يدور في المجتمع بقدر ما يعنيها تقديم أفلام تتحدث عن الراقصات، والكباريهات، والشباب المراهق ومغامراتهم، وتجارة السلاح أو المخدرات، وغيرها من الأمور التي تعمل على تغييب الجمهور وإلهائه عما حدث، أو عن الظروف التي يعيش فيها، وهو ما أدى إلى السقوط السريع للسينما المصرية في هذه الحقبة؛ ومن ثم كانت من أسوأ عقود السينما المصرية.
في عام 1975م قدم المخرج الإيراني منوجهر نوذري[1] فيلمه "ألو أنا القطة" وهو الفيلم الذي لا يمكن إطلاق توصيف الفيلم عليه بقدر ما يصلح أن نوصفه باعتباره تهريجا، أو مجموعة من الاستعراضات الراقصة التي فكر فيها المخرج وكاتب السيناريو، ثم قاما بتركيب قصة ساذجة عليها ليكون هناك ما يمكن وصفه بالفيلم في نهاية الأمر- رغم سذاجة القصة وعدم قابليتها للإقناع!
يتحدث الفيلم عن "مشمش" نور الشريف الذي رفض العمل مع أبيه المُشارك لعمه "الروبي" محمود المليجي في كباريه الليالي المضيئة في شارع الهرم؛ حيث يرى مشمش أن العمل والكد هو الأفضل بالنسبة إليه بدلا من الملاهي الليلية؛ وبالتالي يقوم مشمش بفتح ورشة ميكانيكا لإصلاح السيارات، وحينما يحاول والده مساعدته ودعمه ماليا، يرفض العم- الروبي- أن يعطي لأخيه أمواله؛ فيصاب بأزمة صحية ويموت. هنا يستولي الروبي على ميراث مشمش من أبيه، ويرفض إعطاءه له، بل ويعمل على تدمير مستقبله الأمر الذي يؤدي إلى إفلاس مشمش، ويثقل كاهله بالديون للجميع، وبالتالي يبيع أثاث بيته من أجل محاولة تسديد ديونه، ولكن تاجر الموبيليا الذي اشتراه منه يعطيه شيكا قابلا للدفع بعد عام بالكامل مما يجعل مشمش يتورط في الديون أكثر.
مع الظروف المادية والنفسية السيئة التي يمر بها مشمش تقترب منه قطته "بوسي" الممثلة بوسي؛ فيطوح بها في تجاه الحائط؛ الأمر الذي يجعل القطة تلومه محادثة إياه لما فعله معها، ومن ثم تقرر أن تترك عالم القطط وتتجسد له في عالم الآدميين في شكل أنثى، ولكن لأنها ظهرت في عالم الآدميين من دون إذن لها من عالم القطط كان لا بد من محاكمتها في عالم القطط، ويترافع عنها أخوها القط "محبوب" عادل إمام؛ وبالتالي ينجحان في أخذ الإذن من عالميهما كي يتجسدا في عالم البشر ويعملا على مساعدة مشمش في استرداد ماله من عمه، بل وإنشاء كباريه مقابل لكباريه عمه؛ لمنافسته والعمل على إفلاسه!
بالفعل ينجح الملهى الذي ينشئه مشمش بالتعاون معهما- ملهى القط الأبيض- وتعمل بوسي ومحبوب على تجنيد العديد من القطط كي يتحولوا إلى بشر ويتدربون على الكثير من الاستعراضات، ويعملون على إحياء الملهى الذي ينجح نجاحا مدويا؛ الأمر الذي يؤدي إلى انصراف الجمهور عن كباريه عمه، ويتجهون كل ليلة إلى ملهى القط الأبيض رغم أن ملهى القط الأبيض لا يقدم الخمور، بل يقدم استعراضات راقصة فقط مع العشاء!
هنا يسعى الروبي إلى إغلاق ملهى ابن أخيه سواء من خلال إرسال مجموعة من الفتوات لتكسير المحل، لكن محبوب- القط- ينقذ الأمر، أو من خلال إرسال الراقصة سهير زكي كجاسوسة للعمل في ملهى القط الأبيض من أجل التوصل إلى المكان الذي تتم فيه التدريبات على استعراضات الرقص؛ من أجل معرفة استعراضاتهم، والاستيلاء على بوسي ومحبوب، أو بمحاولته الأخيرة الراغب فيها في إحراق المحل، لكن محبوب وبوسي يكتشفانه ويرغب محبوب في تسليمه للشرطة إلا أن مشمش يسامحه؛ لأنه لا يمكن له أن يسجن عمه.
يطلب مشمش من عمه أن يحضر إليه في ملهى القط الأبيض كي يشاهد استعراضاته، وهنا يقدم له عقدا طالبا منه التوقيع عليه؛ كي يغلق كباريه الليالي المضيئة الذي لم يعد يدخله أحد في مقابل التنازل له من دون مقابل عن ملهى القط الأبيض الأكثر احتراما ونظافة- أخلاقية- من ملهاه، فيحتضنه العم ويؤكد له أنه منذ هذه اللحظة أبوه وعمه وكل من له في الحياة، وينتهي الفيلم!
من خلال هذه القصة الساذجة التي اعتمد عليها المخرج منوجهر نوذري، وكاتب السيناريو محمد كامل عبد السلام يتضح لنا أنه لم تكن ثمة قصة أو سيناريو في حقيقة الأمر، بل كانت هناك مجموعة من الاستعراضات الساذجة التي تم تركيب قصة غير مقنعة عليها؛ ليكون هناك ثمة ما يشبه الفيلم.
فالفيلم يريد التأكيد والقول: إن ثمة عالما موازيا ومختلفا عن عالمنا لا نعرف عنه شيئا وهو عالم القطط، وهذا العالم الذي لا ندرى عنه شيئا يمتلك من الإمكانيات والماورائيات ما لا يمتلكه البشر- كالعلم بالغيب، والتحكم في البشر، والظهور في العديد من الهيئات، والقيام بالأفعال المستحيلة، بل ومساعدة البشر المظلومين أيضا من أجل استرداد حقوقهم المهضومة- وهو ما يمكن أن يذكرنا بالعديد من الأفلام المُماثلة في تاريخ السينما المصرية مثل "سر طاقية الإخفاء" للمخرج نيازي مصطفى 1959م، وفيلم "عفريتة هانم" للمخرج يوسف معلوف 1949م، وفيلم "الفانوس السحري" للمخرج فطين عبد الوهاب 1960م، وغيرها من الأفلام التي كانت تعتمد على حكايات الجن والعفاريت التي لا بد لها أن تساعد البشر وتعمل على إعادة موازين الحياة إلى طبيعتها النقية مرة أخرى بعد القضاء على الشر!
صحيح أن الفيلم هنا لم يعتمد على العفاريت والجن بشكل مباشر كما اعتمدت عليها الأفلام السابقة، لكنه استوحى قصة لا يمكن لها الاختلاف عن قصص الأفلام السابقة، بل هي الفكرة نفسها تقريبًا مع الاختلاف البسيط حينما ذهب إلى أن بوسي ومحبوب مجرد قطط قد تجسدت لمشمش من عالم القطط وليس من عالم الجن والعفاريت، ولكن مع تأمل الفيلم لا بد لنا من التساؤل: هل من الممكن للقطط التجسد في أجسام بشرية؟! وإذا كان ذلك ممكنا فكيف يتأتى للقطط القيام بالعديد من الأعمال الخارقة التي لا يمكن أن يقوم بها سوى العفاريت- تبعا للمفهوم الأسطوري والميتافيزيقي لدى البشر- ومن ثم يعلمون الغيب، بل ويسيطرون على البشر في كل ما يفعلونه؟!
إن ظهور "محبوب" عادل إمام للروبي في بيته من أجل استعادة أموال مشمش كان ظهورا مُفاجئا، أي أنه تجسد أمامه فجأة من دون الدخول من باب كالبشر، بل كان يظهر له في زاوية ليختفي فجأة، ثم يظهر له في زاوية أخرى- كأفعال العفاريت الراسخة في العقل الجمعي- أي أن هذا الظهور لا يمكن له إلا أن يوحي للمشاهد بأن محبوب مجرد عفريت أو جن، أي أنه كائن من الكائنات الماورائية، وليس مجرد قط على هيئة إنسان، كما أنه كان قادرا على التحكم في الروبي؛ الأمر الذي جعله يفتح خزانة النقود بإصبعه من دون مفتاح، وهو ما لا يمكن أن يتقبله العقل!
في مشهد آخر نرى محبوب على خشبة المسرح في الملهى الليلي ليقدم عرضا استعراضيا لمجموعة من الآلات الموسيقية التي تعزف من دون عازفين، وهو الأمر الذي من شأنه أن يخيف الجمهور وليس استمتاعه. وفي مشهد ثالث يكتشف محبوب وجود الفتوات الذين أرسلهم الروبي من أجل تكسير المحل؛ فيشير إليهم بعينيه، ويومئ لهم برأسه مُحركا إياها في إشارة منه إلى خروجهم من المحل، ومن ثم يطيعه أفراد العصابة ويقومون للخروج بالفعل كالمخدرين تماما وكأنهم مغيبون، أو تحت تأثير التنويم المغناطيسي، بل ويطلب منهم أن يضرب كل واحد منهم زميله؛ فيفعلون وكأنهم مجرد روبوتات تمت السيطرة عليها، ويحركها كيفما شاء!
إن هذه الأفعال الساذجة، وغيرها الكثير، التي تخللت العديد من مشاهد الفيلم لا يمكن لها أن توحي لنا إلا بأننا نشاهد فيلما عن الماورائيات، أو أفلام العفاريت الخارقة، وليس فيلما عن مجموعة من القطط التي تحولت إلى بشر من أجل مساعدة شخص مظلوم، أو مهضوم حقه.
كما أن التأمل الفاحص للفيلم سيؤكد لنا أنه لم يكن هناك ثمة فيلم في حقيقة الأمر- مع سذاجة القصة- فلقد كانت هناك الكثير من الاستعراضات الراقصة- التي مثلت متن الفيلم بالكامل تقريبا- وتخللتها مجموعة من المشاهد الفيلمية كي يكون هناك قواما من الممكن أن نُطلق عليه ما يشبه الفيلم السينمائي. أي أن الفيلم الذي بلغت مدة عرضه 94 دقيقة قدم فيه المخرج ثماني استعراضات راقصة، وكل استعراض راقص لم يكن يقل عن الخمس دقائق، بل كان يزيد عنها أحيانا، أي أن حسبة بسيطة ستؤكد لنا أن قرابة الـ45 دقيقة من زمن الفيلم كانت مجرد استعراضات- وهي نصف المدة الزمنية للفيلم تقريبا- بينما نصفه الآخر الذي كان يتخلل هذه الاستعراضات كان يهتم بقصة القطط التي تحولت إلى بشر من أجل إفلاس العم، وإرجاع الحق لابن أخيه!
ربما حاول المخرج الإيراني منوجهر نوذري الذهاب إلى فكرة المثالية التي يريد من ورائها القول: إن مقابلة الشر بالخير قد تؤدي إلى عودة من يمارس الشر إلى طبيعته الخيرة في نهاية الأمر- وهو ما حدث في الفيلم- لكن هذا العالم المثالي، أو هذه الفكرة لا يمكن تناولها بمثل هذا الشكل المُفرط في سذاجته؛ حيث أدى بنا إلى أن يبدو لنا الفيلم وكأن مخرجه قد صنعه خصيصا من أجل إثبات مجموعة من الأفكار المجردة التي ذهب إليها، كما أنه من غير المقنع أو المنطقي أن يسترد مشمش ثروته من عمه، ويعمل فيما بعد على إفلاسه بمساعدة القطط، ثم يُعيد إليه الثروة مرة أخرى بالكامل في نهاية الفيلم ويتنازل عنها لعمه مرة أخرى من أجل أن يعطيه درسا في الأخلاق والإنسانية وروابط النسب فقط؛ لأن مثل هذا الاتجاه الذي ذهب إليه المخرج جعله ينفي وجود فيلمه في نهاية الأمر، بل وتساؤل المشاهد: إذن، لِمَ كان كل ذلك منذ البداية ما دام مشمش لم يكن في حاجة إلى الثروة وأعادها إلى العم في نهاية الأمر؟! أمن أجل إعطائه درسا في الأخلاق فقط؟!
يكاد يكون فيلم "ألو أنا القطة" للمخرج الإيراني منوجهر نوذري نموذجا صارخا لأفلام حقبة السبعينيات، وهي الحقبة التي تهاوت فيها السينما المصرية إلى مرحلة الحضيض من خلال صناعة الكثير من الأفلام التي عملت على التغييب والإلهاء عما كان يدور في المجتمع من تحولات وانهزامات متعددة تلت الهزيمة الكبرى في 1967م وآثارها على المجتمعات العربية؛ ومن ثم انساقت السينما في هذه الفترة إلى الكثير من هذه الأفلام التي لا معنى لها، ولا تقدم أي شيء باستثناء السذاجة والاستعراضات الراقصة التي ساهمت بشكل كبير في سقوط صناعة السينما.
[1] مخرج إيراني عاش في مصر لبعض الوقت، وأخرج فيلما واحدا
|