القاهرة 18 يوليو 2023 الساعة 10:53 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
رواية "السندباد الأعمى"، تأليف بثينة العيسى، وإصدار منشورات تكوين2021. تدور أحداثها في عدة مناحٍ إنسانية وتاريخية وسياسية واجتماعية، تتحدث عن "نواف الذي يتزوج نادية، وينجبا مناير، ويعيشان بسعادة، لكن حياتهما بالتأكيد لن تكتمل هكذا. وفى أحد أيام العطلة التى انقلبت لفجيعة، يرى الزوج زوجته مع صديقهما "عامر" ويقتلها، حتى لو لم يكن ما رآه الخطيئة تمامًا، لكن هذه هي الحياة لا بد أن يقتلها وفقًا لمفهوم "الرجُل" كما تربى عليه.
أما السندباد، الذى كان البحار والمغامر والمسافر صاحب الحضور الطاغِ فى المخيلة العربية، الذي يرى بالبصر وعين القلب البصيرة، لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لأحفاده، بعدما أصيبوا جميعًا بداء العمى "عمى البصيرة" وعماهم أوصل الجميع لمصائر مجهولة. فلم ير عامر عندما تخلى عن حبيبته التى صارت زوجة صديق عمره، مستقبلهما بعدما رفض أهله زواجه من فتاة تخالف طائفته. لم يصمد ولم يحارب، لم يعترف لها بالتصريح بهذا الحب، لكن كل التلميح دلّها على المكنون، وعندما احتضنها بعد عشرة سنوات كاملة لم يفكر فى مآلات هذا التصريح المتأخر.
ونواف الذى تعامى عن سؤاله الذي طالما جال في صدره "لما لم يحبها عامر وقد عرفها قبلى وهى الجديرة بالحب؟" ومع ذلك أكمل وتزوجها، وعُمي بسبب مفهوم الرجولة الذى تربى عليه وقتل زوجته التى لم يرها ترتكب الخطيئة، هى فقط أصرّت على حسم حيرتها القديمة، لكن هى أيضًا تعامت عن مصيرها ومصير ابنتها من عواقب هذا اللقاء. والجدة التى جاهدت لتكون أمًا، بدلًا عن القتيلة التى تفانت فى محو أثرها حتى باتت كأن لم تكن، ولم تكترث بمصير الابنة.
والابنة ذاتها "مناير" التي تزوجت "فواز" ابن العم، وأنجبت وظلت غارقة فى تآسيها على نفسها بعدما عاشت كل عمرها على إنها شفافة، لا تُرى، خسرت ابنتها التى رفضت العيش معها بعد طلاقها. ونواف كذلك هرب من السجن، ورغم احتلال البلاد بأسرها إلا أنه أنفصل عن هذا الحدث الجلل ولم يكن يشغله سوى إكمال الانتقام بقتل عامر. فرغم العنوان الذى ألصق العمى بالسندباد، إلا أن المقصود كان الأحفاد.
• عصية على التصنيف، أشبه بالحياة
فى أغلب الروايات يستطيع القارئ تصنيف نوع الرواية، سياسية، تاريخية، رومانسة، رعب وغيرها. ما عدا هذه الرواية، فهى أشبه بالدائرة، حيث تشابكت الأحداث الخاصة لأبطالها مع المعترك العام، غزو العراق للكويت، المعارضة الكويتية قبلها بعامين وتعطيل الدستور فض مجلس الأمة، الاعتقالات لكل من يقول لا. لكن من ناحية أخرى تغرق الرواية فى إنسانيتها بعدما غُصنا فى مشاعر حب الشخوص المتشابكة حيواتهم كليًا ومع بعضهم. مشاعر الفقد والغضب والتهميش. الحب والزواج والخيانة. ولا هى رواية جريمة بشكل بحت، رجل قتل زوجته حُكم عليه بالسجن بثلاث سنوات فقط، لم يقض منها إلا سنة واحدة.
وكما استعصت الرواية على التصنيف، فإن حيوات الشخوص أيضًا استعصت على التأكيد والحسم فى أي أمر. هل كانت نادية وعامر مخطئين؟ هل أحبها نواف ويشتاق إليها حتى النهاية؟ هل يرى نواف ابنته ومن بعدها الحفيدة ويتوق لضمها أم إنها كما كانت تحسب، غير مرئية خاصة بالنسبة له؟ هل قتل نواف صديقه وعدوه عامر؟ أم أنه سلّم المسدس للمقاومة كما قال؟ وإن صح ولم يقتله فأين اختفى؟. وهكذا هى الرواية حتى النهاية تتشابك وتلتف دون الوصول لوجهة بعينها وفى هذا هي تمامًا تماثل الحياة، حيث لا أحد يعرف على وجه الدقة"ما الذي حدث!".
ثمة ميزة هى الأبرز فى هذه الرواية وهى عدم وجود البطل الأوحد في القصة سواء كان البطل شخصًا أو حدثًا. فكل الأشخاص حياتهم بأحداثها تمثل دائرة متداخلة ومتشابكة كل له دور أساسي لا يكتمل غيره إلا بوجوده. حتى الأحداث السياسية كانت من المحركات الأساسية لحياة الشخوص وتداخلت معها. فما عاد عامر من ترحاله هاربًا إلا بعد الغزو وما تحرر نواف من سجنه إلا بعد الغزو، وما اجتمع الصديقان اللذين أمسيا عدوين إلا بعد الغزو وبسببه.
• رواية التناقضات الكبرى
الأحداث وحياة أبطال الرواية أتخمت بالتناقضات. فمثلا ليلة الغزو والاحتلال تحولت البلاد "الكويت" لسجن كبير لأهلها، وفى الليلة ذاتها يتحرر المساجين من سجنهم النظامى، ويهربون. "نواف وعامر" رغم كل ما حدث ففي دخيلة كل منهما ظل يُسمى الآخر صديقه، حتى عندما اعتقل عامر فى "المشاتل" دفع نواف أموالًا طائلة لإخراجه. وعامر هذا! الذى كان أشبه بشعلة حيوية متقدة، يغنى ويعزف العود، يتخذ من الشعر أيديولوجيا، معارض سياسي عتيد ومحنك، ناقد أدبي من الطراز الأول، هذه الشخصية حريًا بها أن تتصف بالذكاء، لكن العكس هو ما حدث لم يقل فى غبائه عن أي أحمق آخر بينهم.
ورغم قتل نواف ل"نادية" إلا أنها ظلت مسيطرة على خيالاته لا تفارقه وكاميرتها، لا يزال يعشقها ويشتاق لها، يحن للمس غمازتها. حتى البيت الصيفى "بيت البحر" الذى شهد مأساة أحالت حياتهم إلى البؤس المطلق ظلوا على خطى أبائهم وأجدادهم وتوارثوه لم يفكروا يومًا فى التخلص منه، بل عادوا إليه كلما ضاقت بهم الحياة وأنفسهم"عندما يحاصرهم الواقع بجفافه فهناك البحر". وجاءت كل هذه المفارقات لتقضى على آفة القطع بآثم الناس وفضيلتهم، فالجميع في الرواية شخوص ووطن ضحايا وجلادين في آن. تمور النفوس كلها بالشر والبراءة معًا، والجميع يتلوى في دائرة الرغبة والرهبة.
تتسم الرواية أيضًا كأغلب روايات بثينة العيسى "خاصة رواية حارس سطح العالم وخرائط التيه" بأنها رواية تربك رأس القارئ، بمعنى أنها لا تعطي إجابات محددة لأسئلة غير حاسمة، كأنها تقول، فكر، أسأل، احتر فيما تقرأ فلا نفع فى سطور ترسوا بقارئها على بر.
فلم تكن نهاية هذه الرواية مفتوحة فحسب، بل إن لا شيء فيها مؤكدا أو منتهيًا تمامًا، فلم نعرف أقتل نواف عامر؟ هل أخطأت نادية وعامر بالأساس؟ هل أخطأت السلطة عندما لم تسمع نداءات المعارضة وإرجاع مجلس الأمة والعمل بالدستور؟ فكما جاء على لسان"هدى" التي قالت: "إنهم يرتكبون الفظائع دون أن يكونوا سيئين تمامًا. فقط لو كان بوسعها أن تشير إلى أى واحد منهم وتقول هو المخطئ عامر، نادية.... أو حتى نواف". حتى إن أغلب حوارات الاشخاص كانت تنتهى ب: "ربما هذا ما حدث، لا أظن، غير متأكد، أو ما حدث فعلا؟" وهذه تمامًا هي الحياة.
|