القاهرة 11 يوليو 2023 الساعة 01:08 م
بقلم: محمود الغيطاني
ثمة مخاوف غامضة، والأكثر من الهواجس- تتشيأ لأصحابها- في الفيلم الروائي القصير Wake Me Up أيقظني، للمُخرجة والسيناريست السعودية ريم سمير البيات، هذه المخاوف، التي لا يصرح بها الفيلم بشكل مُباشر، نفهمها من خلال السياق الفيلمي وأحداثه، بل وبيئته الثقافية- المملكة السعودية- التي كانت تُحرم كل شيء- حتى أنها كادت أن تُحرم الحياة على الآخرين!
من هنا ينشأ الخوف من كل شيء، من الحاضر، والمُستقبل المُظلم المجهول، من الذات، من الآخرين، إنه الخوف الذي يتنفسه الجميع متوجسين ممن يحيطون بهم، حتى أن الخوف لا بد له هنا من التشيؤ، أو التأنسن، لنراه مُجسمًا أمامنا في شكله المُرعب الذي سيصيب بالضرورة صاحبه بالعديد من الهواجس والهلاوس السمعية والبصرية نتيجة الضغط المُجتمعي والنفسي على الأفراد.
حاولت المُخرجة ريم البيات من خلال السيناريو الذي اشتركت في كتابته مع الشاعر والسيناريست السعودي أحمد الملا التعبير عن هذا الخوف الخانق، الذي يحوّل الحياة إلى محض هراء لا معنى له في النهاية؛ مما يفقدها أي معنى للمُتعة، حتى لكأن الحياة والموت سيان في نهاية الأمر. صحيح أن هذا هو المعنى الذي تقصده المُخرجة من خلال صناعتها لفيلمها، ولكن كيف تم التعبير عن ذلك؟
إن أسلوبية التعبير البصري هي جوهر صناعة السينما، وهي التي تُكسب كل مُخرج مقدرته على التميز عن غيره من المُخرجين؛ لذا فأسلوبية التعبير الإخراجي لا يمكن تجاهلها، لأن المُخرج في النهاية هو رب العمل السينمائي رغم أن صناعة السينما هي عمل جماعي في المقام الأول، لكن نجاح أو فشل أي فيلم إنما يتحمل مسؤوليته في النهاية مُخرجه.
في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre نُشاهد كابوسًا، كثيرًا ما تراه سلام- قامت بدورها المُمثلة السعودية سمر البيات- فنرى مشهدا موغلا في الرمزية، صحيح أن هذه الرمزية تتناسب كثيرًا مع مفهوم الفيلم، إلا أنها تبدو- كمشهد سينمائي- مُنبته الصلة عنه، أو ثقيلة على الإيقاع الفيلمي، وبالتالي بدت لنا كنتوء في الحدث الفيلمي عمل على إثقال الفيلم أكثر من مقدرته على التنامي والتقدم بالحدث للأمام لصالح الرمز الراغب في التعبير عن مضمون الفيلم، لا سيما أنها تتناسب أكثر مع المسرح منها إلى الفيلم السينمائي، حيث نرى على أحد الشواطئ نيران مُشتعلة بينما يدور من حولها مجموعة من المُمثلين الذين يسيرون على أربع في طقس وثني مُثير للخوف، وقد تم تغطية كل منهم بقطعة من القماش، وتقف بينهم سلام راقصة بشكل إيقاعي، بينما ينطلق في خلفية المشهد صوت ينشد أبيات الشعر- وهي تخص الشاعر أحمد الملا- التي لها علاقة عضوية بالموضوع السينمائي بعربية فصحى لا تتناسب كثيرًا مع مفهوم صناعة السينما، وإن كانت تتناسب أكثر مع المسرح. تنتقل الكاميرا- من خلال القطع المونتاجي- بين مشهد رقص سلام ورجل غاضب يراقبها وتقف إلى جواره امرأة مُنتقبة مُغطاة بالسواد- الإحالة على الفترة السعودية السابقة- ليقول الرجل الغاضب في نهاية المشهد، بينما الشرر يتطاير من عينيه: اذبحوها.
إن تأمل المشهد السابق من الأهمية بمكان؛ نظرًا لأنه يُعد المشهد التأسيسي للفيلم- كما رغبت المُخرجة له أن يكون- وبالتالي فهي تحاول بناء الفيلم من خلاله. إن رغبة المُخرجة في الإيحاء للمُشاهد بأن هذا المشهد السابق هو كابوس كثيرا ما يُطارد سلام التي سنعرف بأنها امرأة متزوجة، وتعمل في مجال تعليم الرقص؛ يجعله مشهدًا جوهريا في المقام الأول، لا يمكن تخطيه بسهولة، لكن المشهد كما صنعته المُخرجة لم يكن تلقائيًا، مُناسبًا لصناعة السينما، بل بدا مصنوعا، وهذا ما قد يجعله عائقا، أو حائط صد أولي بين الفيلم والمُتلقي للوهلة الأولى؛ حيث صنعته المُخرجة وكأنه مُنبثق من الثقافة المسرحية التي تناسبه، صحيح أنها ترغب في تقديمه بشكل رمزي، لكن طريقة التقديم المسرحية، أفقدت المُشاهد قدرته على التعامل مع الفيلم السينمائي مُنذ المشهد الأول، وهو مشهد تأسيسي.
بناء على ما سبق؛ فالبداية السينمائية الحقيقية لفيلم "أيقظني" هي في المشهد التالي للتيترات مُباشرة حينما نرى فيه المرأة العجوز- الهاجس الدائم- بمظهرها المُثير للكثير من الانقباض والخوف- فتلك هي الكابوس الحقيقي والجوهري في الفيلم- ورغم أن مشهد العجوز هنا هو بمثابة مشهد رمزي أيضًا، بل وهي شخصية رمزية مُعبرة عن الهواجس والخوف المرضي، إلا أنها تتناسب تمامًا وصناعة السينما، حيث كانت تتمثل لسلام ظاهرة لها، ومُطاردة لها في كل مكان وزمان تتجه إليه سلام، مُهددة إياها بالكثير من الوعيد بأنها ستدخل النار، وستعذب فيها- بأسلوبية مُخيفة- بسبب مُمارستها، وتعليمها الرقص للأخريات!
ربما نُلاحظ هنا أن مفهوم الرقص يصلح لحمله على الرمز، وبالتالي يكون مُرادفا للحياة، والانطلاق فيها، والاستمتاع بها، بينما العجوز هي الرمز المُقابل للتشدد والانغلاق الديني السابق في المملكة، وهو انغلاق مُجتمعي أيضًا يعبر عن ثقافة مُجتمع في فترة من الفترات، يقوي من هذا الرمز صورة المُمثل المُلتحي الذي نراه بينما نستمع لصوت يقول: مثل إنك حي. بينما يضع المُمثل سبابته على رأسه- في إيحاء بأنها مُسدس- ليقع بعدها صريعًا باعتبار أنه قد انتحر!
إذن، فثمة أزمة حقيقية- مُجتمعية وسيكولوجية مُترتبة على المُجتمع المُحيط- تعاني منها سلام التي كانت هي المحور الرئيس للفيلم.
لكن، ثمة أزمة أخرى تواجهنا بها المُخرجة من خلال نسيم/ زوج سلام- قام بدوره المُمثل السعودي إبراهيم الحساوي الذي أدى دوره باحترافية وبراعة لافتة في التعبير عن شخصيته الفيلمية- وهي أزمة الصدع التي نُلاحظها بين الزوجين اللذين يتعاملان مع بعضهما البعض وكأنهما غريبان يعيشان تحت سقف واحد، أو ثمة عداء ما، وغامض يضرب بجذوره بينهما، رغم أننا سنفهم من الفيلم أنهما متزوجان مُنذ عشرين عامًا كاملة وبينهما أولاد- لن نراهما، وإن كان الفيلم يشير إليهم.
إن تقديم المُخرجة للزوجين في شكل يؤكد على انقطاع العلاقة- حتى الإنسانية بينهما- كان من الأهمية لنقف أمامه قليلا؛ فوجود علاقة فاترة تمامًا بين زوجين، لا بد أن يكون لها ما يبررها، أو ما يمكن الإشارة إليه من خلال السيناريو، وأحداث الفيلم؛ كي يستطيع المُشاهد الانسجام مع ما تُقدمه المُخرجة والاقتناع بما يدور أمامه على الشاشة، لكننا سنُلاحظ أن كل من الزوجين يمر بأزمة نفسية ما- المُجتمع المُحيط وثقافته هما السبب فيها- لكن الفيلم لن يشير إلى السبب في هذا الفتور الزوجي، أو موت العلاقة بينهما، صحيح أن ريم البيات حاولت في أحد المشاهد إلقاء اللوم في هذا الفتور على الزوج- فهو لا يعرف أن زوجته تتناول القهوة دون سُكر رغم مرور عشرين عامًا على زواجهما- لكن هذا المُبرر يبدو لنا مُتناقضًا تمامًا مع كل الأحداث السابقة على هذا المشهد، والتي سبق لنا أن رأيناها، حيث نرى نسيم زوجًا مُهتما بزوجته أيما اهتمام، يسألها عن أحوالها، يحاول التقرب منها، يسألها عن عملها كمُدربة رقص، بل ويشجعها على ما تفعله للمضي فيه قدمًا- حينما تخبره بأنها ستؤجل إحدى دروس الرقص، يطلب منها أن تهدأ وتفكر أولا- يصنع لها القهوة مُقدمًا لها إياها، يتودد لها، ينتظرها في البيت قلقًا عليها حينما تكون غير موجودة، يستمع إليها!
إذن، فهو زوج مُشارك، مُهتم بشريكته، مراعٍ لها، لا يفعل شيئا دون إخبارها- يخبرها بتفاصيل ومواعيد عمله، بل يطلب منها مُصاحبته إلى جدة رغم أنه ذاهب في عمل- وبالتالي يكون مشهد اتهام سلام له بأنه غير مُهتم بدليل أنه لا يعرف بأنها تتناول القهوة دون سُكر مُتناقضا مع كل ما سبق لنا أن ذكرناه، وذكرته المُخرجة من خلال تفاصيل مشاهدها المُتتالية!
هذا الجفاف الكامل نشاهده حينما يفكر نسيم في العودة إلى البيت بعد عمله، فهو يجلس مُفكرًا مُترددا: أرجع البيت، ما أرجع البيت. مُتحدثا لنفسه. أي أن ثمة علاقة طاردة هنا بين الزوجين تجعل الزوج يفكر قبل عودته للبيت. وحينما يعود للبيت نرى سلام تتعامل معه بجفاف مُتناهِ كأنها تتعامل مع شخص غريب، وقد بدت ملامح وجهها جافة تمامًا، وكأنها غير راغبة في الحديث معه لتقول له: حمد الله على السلامة، تحب العشاء الحين أو بعدين؟ فيرد مُندهشًا مُستنكرا بهدوء: إيش فيكي؟! كأن داخل عليكي شبح! لترد: ما أدري، تعبانة وأحتاج أنام. فيتساءل مُندهشًا: تنامي؟! توّني داخل البيت.
إن هذا المشهد السابق بين سلام ونسيم يفجر في المُشاهد الكثير من الدهشة، والتوقع- توقع أنه سيشاهد فيما بعد سبب هذا الفتور بين الزوجين، وأن يكون الزوج هو السبب فيه- لكن المشاهد التالية تؤكد لنا بأنه زوج يكاد أن يكون مثاليًا؛ وبالتالي ينفتح أمامنا أفق التساؤلات الدائمة عن السبب في كل هذا الفتور، وهي الأسئلة التي لم تُقدم لنا المُخرجة إجابات عنها، ربما لاهتمامها بأثر الثقافة المُحيطة والمُسيطرة على كل من الزوج والزوجة، مُتجاهلة في ذلك السبب في الصدوع بينهما- قد تُساهم الثقافة المُحيطة بقدر ما في اختلال العلاقة بينهما، لكنها لا يمكن لها أن تؤدي إلى مثل هذا الصدع الذي لا يمكن رأبه.
نعرف أن سلام مُخلصة لما تفعله- تعليم الرقص- مُقتنعة به، تمارسه كحياة، أو رغبة في الحياة والحرية؛ لذا نراها تقول لمشاعل/ مُتدربة على الرقص- قامت بدورها المُمثلة السعودية سماح زيدان- بينما نراها ترقص: علمتي جسمك رقصة واحدة وانسجم فيها، المُهم نحاول تعلميه يكون حرًّا، مُكتشف، اتعلمي تسمعيه وتحبيه.
مع ما في قول سلام لمشاعل من رمزية تلقائية باتجاه الحرية والحياة، فهو يؤكد على حب سلام لما تفعله، وتوقها باتجاه الحرية، والاستمتاع بالحياة التي نراها غير مُستمتعة بها؛ نتيجة هواجسها، وخوفها من المُجتمع والثقافة المُحيطة، وهو جوهر المعنى الذي ينطلق منه الفيلم، ويرغب في التأكيد عليه.
هذه الهواجس التي تتحول لدى سلام إلى هواجس مرضية، وشكل من أشكال الهلاوس السمعية والبصرية تحول حياتها إلى شكل كابوسي لا ينتهي؛ فهي دائمًا ما ترى المرأة العجوز التي تُهددها بالعذاب في النار، طالبة منها التوبة مما تفعله- فعل الرقص وتعليمه- هذه العجوز تُطاردها في كل مكان، في أحلامها، ويقظتها، في البيت، وفي الشارع، وفي السوبر ماركت، وهو ما نراه في مشهد برعت المُخرجة في تقديمه حينما كانت سلام في السوبر ماركت لشراء احتياجاتها، فترى العجوز في نهاية الممر أمامها مما يجعلها تتجه حيثما تقف العجوز بينما كاميرا المصور علي الشافعي المُهتزة، المحمولة تُعبر خير تعبير عن المشهد ومشاعر سلام؛ فاهتزاز الكاميرا واضطرابها في أثناء مُتابعتها في ذهابها باتجاه العجوز لا بد أن يُكسب المُشاهد الكثير من التوتر والخوف والقلق والهواجس، وهو ما نجح المصور والمُخرجة في التعبير عنه بصريا إلى أن تصل سلام أمام العجوز فتتماهى معها- مع العجوز- ونرى سلام مُرتدية للنقاب والسواد- رغم أنها واقعيًا في الحدث الفيلمي ليست كذلك- لتقوم برفع النقاب عن وجهها، ونُفاجأ بأنها سلام، وهو ما يوحي لنا، كمُشاهدين، بأن العجوز قد تكون هي نفسها سلام، أي أن مخاوفها الدائمة إنما تمثلت لها في صورة هذه العجوز، وبالتالي فذاتها هي التي تُشعرها بالخوف، مُتأنسنة أمامها في صورة امرأة عجوز مُهددة، وليست شبحًا، أو شيئا خارجيًّا، بعيدا عن سيكولوجيتها.
إن مُعاناة سلام من المُجتمع المُحيط بها نلحظه أيضًا حينما تقوم العجوز بتهديدها بالنار التي ستذهب إليها بعد الموت قائلة مُؤكدة- وكأنها امتلكت الحقيقة المُطلقة: نار حارة. إلا أن سلام التي اعتادت تهديدات العجوز وبدأت في التكيف معها باعتبارها من مُفردات حياتها اليومية، ترد عليها بقولها: آني أعيش فيها، ما تشوفي النار في كل مكان؟! في الأرض، في الجدران، في الكراسي، ما عندي شيء أخسره.
ربما نُلاحظ أن رد سلام الواثق، اللامُكترث من أي شيء هنا هو شكل من أشكال التمرد، ورفض القيود، والهواجس، والمخاوف التي كانت قد سيطرة عليها مُتملكة إياها لفترة ليست بالقصيرة، وبالتالي فلقد اعتادت على التهديدات حتى باتت شيئًا عاديًّا في حياتها؛ فباتت النار التي تُهددها بها العجوز لا شيء أمام النار السيكولوجية التي تعيشها بالفعل على أرض الواقع، أي أن سلام تتوق للحرية ضاربة بعرض الحائط كل ما يدور من حولها.
هذا الاعتياد والتحرر من الخوف نُلاحظه في حديث سلام إلى العجوز بعدم خوف، واعتياد وكأنهما قد باتتا صديقتين: متى آخر مرة رقصتي؟ لترد العجوز- التي لم تعد تخيفها: أنا قلت لك ما رقصت أبدا، ولا آني، ولا حد، ولا بناتي بعد، بس الشباب هذه الأيام. هذا الحوار السابق بين كل من العجوز- المخاوف والهواجس المُؤنسنة- وبين سلام إنما يوحي لنا ببداية تصالح سلام- الخائفة دائمًا- مع مخاوفها والتحرر منها لتبدأ في حياتها كما ترغبها هي، وليس كما يريدها لها الآخرون. لكن، بالعودة إلى الصدع العميق الذي لاحظناه بين سلام وزوجها نسيم- وهو الصدع الذي ذهبنا إلى أنه غير مُبرر- سنُلاحظ سلام تسأل زوجها: واش فيك صاير حجر؟ إن السؤال في حد ذاته بمُجرد سماعه من سلام لزوجها سيثير فينا نحن كمُشاهدين الكثير من الدهشة؛ لأن الجفاف الحقيقي الذي رأيناه مُنذ بداية الفيلم نابع في الأساس من سلام وليس من الزوج الذي بدا مُهتما بها، كما أن الزوج قد بات مُتعبا على المستوى النفسي، وبالتالي يكون سؤاله مثل هذا السؤال من سلام غير مُبرر لأنه لا بد أن يدفعه جفافها معه إلى أن يكون جافًا بدوره حينما يصيبه اليأس من إصلاح العلاقة المبتورة بينهما؛ لذا يرد عليها مُفضيًا إليها: أنا تعبان زيك، ويمكن أكثر، صار لي فترة مو قادر أرتاح في مكان، لا في البيت، ولا في العمل، أنا تعبان، مو حجر. لتسأله: بتفكر في شو؟ فيرد بهدوء: بفكر أترك العمل، وأسافر بالسيارة من بلد لبلد- اليأس من كل شيء- لكنها تستمر في السؤال المُقتضب: لوحدك؟ ليقول: إيه، لوحدي، ما قدرت أشوفك معي، آبي أحس بأماكن جديدة، كل لحظة تمر بدون ما حد يعرفني، أو حتى أسمع اسمي، ولا حد يسألني أي سؤال، صار لي فترة أفكر، أبغي أعيش بروحي. لتقول: أنت بروحك من زمان، أنت محبوس برا البيت، وأنا محبوسة داخل البيت، عشرين سنة وما تعرف إني ما أشرب القهوة بسُكر. إن الجملة الأخيرة من سلام تبدو غير منطقية لما سبق أن ذهبنا إليه من قبل.
يغادر نسيم بالفعل تاركًا البيت لسلام لتحقيق ما سبق أن أفضى إليها به، وتظل سلام وحدها في البيت، لنرى العجوز مُتشيئة أمامها بينما تتحادثان، لتقول العجوز: آني أروح أماكن بعيدة مرات- الهواجس والخوف والنفس- ولا أقدر أتركك يا بنتي، اتعودت عليكي. لترد سلام بتصالح كامل ولا مبالاة، وربما احتياج هذه المرة: ولا أنا أبغاش تروحي، خليش، ولادي سافروا، ونسيم اختفى. أي أنها تصالحت أخيرًا مع مخاوفها، وهواجسها، واعتادتها، وبالتالي فهي لا ترغب منها المُغادرة، لكن المُدهش أن المُخرجة أغلقت فيلمها برد العجوز على سلام بسؤالها عمن يكون نسيم!
إن سؤال العجوز لسلام عمن يكون نسيم، مع تجميد الصورة لينتهي الفيلم يوقع المُشاهد في الكثير من التساؤلات والارتباك، فاتحًا باب العديد من التأويلات أمامه؛ فمعنى سؤال العجوز عن نسيم يعني في أحد معانيه الرمزية أن نسيم هو من لم يكن له وجود حقيقي على أرض الواقع في حياة سلام، أي أنه هو الهاجس البديل، وليس العجوز، وهنا قد نعيد تأويل الفيلم مرة أخرى بناء على هذه المُعطيات الجديدة، والتأويل الرمزي المُختلف الذي كان سؤال العجوز هو السبب فيه، وهو أيضًا ما قد يُبرر لنا الجفاف الكامل والصدع غير المُبرر بين كل من سلام ونسيم بافتراضه هو الهاجس الحقيقي، أو البديل للعجوز.
إن الفيلم الروائي القصير للمُخرجة السعودية ريم سمير البيات، من الأفلام المُهمة التي تناقش فكرة اجتماعية وسيكولوجية وثقافية مُهمة، لا سيما فكرة الخوف، وأثر هذه الأمور على حياة الآخرين في المُجتمع السعودي التائق للحرية والحياة المسلوبتين منه سابقًا، لكن لجوء المُخرجة إلى الإيغال في الرمزية يجعل الفيلم مُضطربًا، ومشوشًا أحيانًا على المُشاهد، رغم جودة الفيلم، والأداء البارع للمُمثلين الرئيسيين فيه، فضلا عن التصوير والمُوسيقى التصويرية التي ستظل مُترددة داخلنا لفترة بعد انتهاء الفيلم، وتعبيريتها عما ترغب المُخرجة في إيصاله إلينا، لكن يبدو أن المُخرجة لم تنتبه لأداء الآخرين من المُمثلين؛ فرأينا الطبيب النفسي الذي ذهبت إليه سلام للتخلص من الضغط النفسي الذي تعاني منه يؤدي دوره بشكل كبير من الافتعال- المُناسب للمسرح-كما أن نظرته المُباشرة للكاميرا- نحن كمُشاهدين- باعتبار أنه ينظر إلى سلام فيها الكثير من المُباشرة، والمزيد من الافتعال حتى أنه يبدو لنا في مُجمل الأمر وكأنه يتحرش بها من خلال نظرته، وهو ما رأيناه أيضًا في نظرة سائق التاكسي المُفتعلة، والتي بدت لنا نظرة مُتحرشة بدورها!
|