القاهرة 04 يوليو 2023 الساعة 12:41 م
حوار: رابعة الختام
• الإبداع الفكري والفني أساس بناء الوعي بالعالم
• مراوغة الشعر وعصيانه على الاستكانة من أكبر الصعوبات التي تواجه الباحث الراغب في بلورة نظرية لدراسة الشعر
• فكرة عراب الشباب مؤقتة بمثل مؤقتية الوعي الذي يقترحها
يشكل فوز الدكتور أيمن بكر الأكاديمي والأستاذ بجامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا بالكويت، بجائزة الشارقة في نقد الشعر العربي، نقلة ناهضة للنقد، وفوز مستحق لمبدع بحجم مشروع ثقافي مختلف، كما يمثل ثقة للمبدعين الجادين.
وفاز بكر بالجائزة في دورتها الأولى، بدراسة عنوانها "الطقوسية السردية المبالغة، نحو نظرية للشعر العربي الحديث".
يشار إلى أن بكر أصدر في إطار جهوده البحثية والنقدية مؤلفات، "في مقامات الهمذاني"، "الآخر في الشعر العربي"، "قالت أميمة"، "مقدمات الثورة المصرية"، "أصداء الشاعر القديم"، "المفكر الرقاصة"، "متون الساحر"، "انفتاح النص النقدي"، و"قصيدة النثر العربية".
ويعول الدكتور أيمن بكر الفائز بجائزة الشارقة للنقد الشعري على الإبداع الفكري والفني كقيمة فارقة في بناء الوعي الجمعي والنهوض بالمجتمعات العربية والعالمية..
وكان معه هذا الحوار ليكشف النقاب عن بعض ما التبس من مفاهيم، ووصف العوالم الأدبية، ووضع النخب..
• كيف تصف المشهد الأدبي في لحظته الراهنة، ووضع النخب الأدبية العربية؟
لا ينفصل المشهد الأدبي العربي عن مشهد ثقافي عام يخيم على المجتمعات العربية. الأدب والإبداع الفني والفكري مجالات ترتبط بشروط إنتاج ثقافية، أخطرها شأنا هو الإدراك العام والمؤسسي خاصة، لأهمية المنتج الإبداعي الفني والفكري في الارتقاء بالشعوب وثقافاتها وقيمها، كأهمية عملية مثبتة، فالإبداع الفكري والفني هما الأساس لبناء الوعي بالعالم والقدرة على تحليله وفهمه واتخاذ مواقف لتطويره، وغياب هذه المنتجات الإبداعية عن النطاق العام وركاكتها، سبب رئيس في سيادة الجهل بدرجات مختلفة وبتمويهات خبيثة، وظهور حالات التطرف والتشدد والإرهاب كنتيجة مباشرة للجهل. من هنا يتطلب الارتقاء بالفن والإبداع دعما مؤسسيا من ناحية، واتساعا حقيقيا يطمئن له المبدع لمستوى الحريات التي تعد شرطا رئيسا لتطوير مجالات الإبداع بكل أنواعه من ناحية ثانية.
وأظن المشهد الأدبي في الثقافات العربية يعاني من ارتباك على المستويين السابقين، ما يجعل طاقات المبدع العربي الحقيقي مهدرة في صراعات صغيرة ومقاومة للخطوط الحمراء السميكة ولهاث وراء متطلبات الحياة اليومية الضاغطة، والنتيجة التي نلحظها جميعا، ونسكت عنها عاجزين، هي صعود الأشباه والمدعين وأنصاف الموهوبين ليحتلوا مساحات النخبة، أي صعود من يستطيع أن يتعامل بنفعية مع سياقاتنا الثقافية المرتبكة، والأخطر هو الدفاع المستميت لأشباه المبدعين عن مكاسبهم وحربهم الشرسة ضد الإبداع الأكثر عمقا وقدرة على التأثير الإيجابي.
• الشعر فن مراوغ كيف يمكن اقتراح نظرية له؟ وما علاقة الطقوسية والسردية والمبالغة بنظرية الشعر العربي الحديث التي تحاول اقتراحها؟
لعل مراوغة الشعر وعصيانه على الاستكانة ضمن حدود تعريفية صارمة من أكبر الصعوبات التي تواجه الباحث الراغب في بلورة نظرية لدراسة الشعر.
لا أدعي أن الكتاب الفائز بالجائزة يقدم هذه النظرية، بل هو كما يشير العنوان الجانبي محاولة لإلقاء بذور قابلة للتطوير في اتجاه بلورة نظرية للشعر العربي الحديث تنبع من خصائصه، وتحتاج لجهد عدد كبير من الباحثين.
الطقوسية المتمثلة في ملامح مكررة بصورة أدائية صوتية أو بصرية مثل شكل الأسطر ووجود إيقاع محدد مثلا، وملامح السرد حين تحضر في النص الشعري بكل ما يحدث بين النوعين الشعر والسرد من تجاذب ومحاولات سيطرة متبادلة، وكذلك المبالغة التي تسم التصوير التخييلي في الشعر هي جميعا من الملامح المعروفة والموجودة في نصوص الشعر على مر العصور، وما أحاول فعله هنا هو إعادة تعريف الملامح السابقة وصنع حدود فعالية تتصل بالشعر العربي الحديث تحديدا وأخص مدرستي شعر التفعيلة وقصيدة النثر.
• هل أشعرتك الجائزة بأن تجربتك النقدية أتت ثمارها؟
ما أنتظره من عملي الفكري والإبداعي عموما ليس مكسبا شخصيا، فالثمار في ظني هي مدى تأثير ما أفعل في الثقافة التي أعيش ضمنها، ويصعب قياس ذلك حاليا. الأمر يحتاج لمساحة زمنية لتتحقق دورة القراءة والتفاعل طبقا لإيقاع الثقافات العربية، ثم لتظهر نتيجة ما أفعل ومدى قدرته على إحداث أثر إيجابي إن كان يملك القدرة على ذلك.
• كيف ترى أهمية جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولي عموما؟ وما أهمية الفوز بها بالنسبة لك؟
الجائزة تسد فراغا كبيرا في نقد الشعر، فهي الجائزة الكبيرة الوحيدة الآن المختصة بنقد الشعر العربي. إنها محفز لكل باحث جاد، وهذا ما أراه اهتماما مؤسسيا ورعاية للعقول المبدعة. بالنسبة لي شجعتني الجائزة على العمل في مشروع كان مؤجلا، كما أن الفوز بجائزة كبيرة مثل جائزة الشارقة في دورتها الأولى يمنح ثقة في أدواتي النقدية، وفي احتمالات تأثير ما أقدمه في المستقبل.
• لمن من الكتاب والشعراء القدامى والمعاصرين تقرأ ومن منهم شكل ذائقتك الأدبية ووعيك النقدي؟
القراءة بالنسبة للكاتب زاد يومي، ومن الصعب الإمساك بمن وما كان أساسا لتشكيل الذائقة والوعي النقدي، لكن يمكنني تذكر بعض الملهمين والفارقين في الوعي الذاتي بالإبداع شعرا ونثرا وبقواعد التفكير العلمي والفلسفي.
وعمالقة السرد العالمي الروس تشيكوف وديستويفسكي وتولستوي، هيمنجواي وكازانتزاكس وسيرفانتس وكذلك كبار السرد العربي وعلى رأسهم نجيب محفوظ.
هناك نقلة حدثت في وعيي مع دراسة الشعر الجاهلي على يد الدكتور محمد بريري الذي أشرف على أطروحتي للدكتوراه عن الشعر الجاهلي وبالتحديد ديوان "قبيلة هذيل"، واهتمت دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة بطباعتها في كتاب عام 2008. انفتح أمامي عالم الأدب القديم بداية من الشعر الجاهلي ولم يغلق حتى الآن.
وكانت رسالة الماجستير عن مقامات بديع الزمان الهمذاني. الخطوة الكبرى التالية كانت الفلسفة التي غرقت فيها منذ بدايات الدراسة الجامعية، بداية من أرسطو وأفلاطون والفلسفات الشرقية القديمة انتهاء بالفلسفات الحديثة وتحديدا كانط وهيجل وأعلام الوجودية، ثم الأكثر معاصرة كطروحات ميشيل فوكو وجاك دريدا. وأحرص على متابعة الجديد في المنتج الشعري والسردي والفكري لمختلف الثقافات العربية.
• تختلف الآداب العربية عن العالمية في بيئاتها وتعاطيها مع الأحداث، أي العوالم الأدبية ترى أنه يستقطب القراء أكثر مما سواه؟
اختلاف الآداب طبقا لبيئاتها أمر طبيعي، نفتقر لدراسات إحصائية واستبيانات دقيقة لحالة القراءة في الثقافات العربية على تنوعها. لكن أحسب أن السرد قد تم منحه فرصة عظيمة ليشغل مساحة كبيرة ضمن خارطة القراءة لدى الشباب تحديدا، وهو ما يشهد عليه إنتاج دور النشر الشبابية التي تركز على السرد بأشكاله المختلفة من روايات وقصص قصيرة وسرود فيسبوكية أشبه باللقطات السريعة، والمذكرات.
• من واقع تجربتك الشعرية والنقدية هل ترى أن النقد منصف، أم يعيش أزمة علاقات؟
النقد يعيش أزمة هي نفسها أزمة الثقافات العربية في علاقتها بالفلسفة وبالحريات الفردية والفكرية. لا وجود لنقد مبدع قادر على الإضافة للتراث العالمي دونما وعي عميق متفاعل مع الفلسفة بمختلف ميادينها، ولا وجود لمنتج نقدي مبدع ومجدد دونما جرأة حقيقية في طرح الأفكار واستكشاف آفاق جديدة للفكر بلا خوف من خطوط حمراء.
أما قضية العلاقات بمعنى شلل المصالح فهي لا تنتج نقدا أو إبداعا بل ركاما من النصوص التي تستحق التحليل بوصفها مادة تدل على الأزمة.
• تجربتك السردية الوحيدة ماذا أضافت لك، وكيف تصفها، وإلى متى تظل وحيدة لا تحظى بونيس؟
اللعبة مع السرد ممتعة، والنتيجة مشجعة، وردود الفعل على روايتي الأولى "الغابة" أفضل من توقعاتي، وتناولها أكثر من ناقد ومبدع بالتحليل.
وأعمل الآن على رواية جديدة أمارس فيها اللعب المستمتع نفسه الذي أستشعره في البحث أو في كتابة الشعر وخصوصا الرباعيات والشعر العامي، ولا أتعجل نفسي للانتهاء منها.
• نعيش صحوة قرائية في الأوساط الشبابية فهل حقا ترى لهذه الأجيال عراب، أم ماذا؟
أجيال ما بعد ثورة الاتصالات والمعلومات تملك من الوعي والقدرة على الاختيار واتخاذ المواقف ما لم تملكه أجيالنا حين كانت في مثل سنهم، ولهذا أحاول دوما التواضع وتجنب الأحكام على اختياراتهم وتفضيلاتهم.
هم يملكون سلطة الحماس وفورة الرغبة لاكتشاف العالم والتأثير فيه، وتواجههم في الوقت نفسه أنظمة اجتماعية تحاول السيطرة عليهم وكبحهم وإجبارهم على الانتظام ضمن مسارات ثقافية آمنة ومكرورة، وهو صراع سينتج الجديد رغما عن كل الأفكار والبنى المحافظة.
أما فكرة العراب فهي مؤقتة بحسب ظني بمثل مؤقتية الوعي الذي يقترحها.
وسينمو وعي الشباب وينضج في مساحات كثيرة وعبر مساراته الخاصة في صراعها مع الثقافات التقليدية، وسيتجاوز فكرة العراب بمجرد اجتياز مرحلة الاحتياج إليه، فنماذج الإبداع تتغير بتغير مراحل الوعي.
• ما رأيك في أن قراءة الشعر والرواية مجرد تسالي؟
هي كذلك بالطبع بجانب أشياء أخرى. التسلية والمتعة فكرتان أساسيتان في المنتج الفني عموما سواء أكان الفن صوتيا (الموسيقى والغناء) أم لونيا (الرسم) أو لغويا (الأدب بأنواعه) لابد أن يستمتع المتلقي وأن تتم تسليته بفتح عوالم خيال ملهمة تبتعد به عما يرهقه ويضغطه من هموم. لكن الفن عموما يقوم بما هو أكثر من ذلك عبر بوابة التسلية والمتعة.
يؤثر في الحس الجمالي بالترقية والصقل، ويؤثر في الوعي بالعالم، وبالذات، وبالقيم الأخلاقية والإنسانية بصورة غير واعية، لكنها مؤكدة علميا.
• تجربتك في "المفكر الرقاصة" فارقة، كيف تصف أجواءها وكواليسها؟
هذه واحدة من المغامرات الفكرية التي أمتعتني جدا. البداية كانت من حوار متلفز لأحد المفكرين العرب شعرت وأنا أتابعه بعدم راحة ضاغط. سبب شعوري أن "المفكر الكبير" لم يكن يعطي إجابات صريحة أو مشبعة لأي سؤال يوجه إليه "تقريبا، تقريبا". ليس الأمر كونه يتكلم بعمق مرهق لعقلي، بل على العكس كان كلامه بسيطا ويعطي طوال الوقت انطباعا بأنه واضح، وأن صاحبه يتخذ مواقف قوية من قضايا الواقع الملحة سياسيا واقتصاديا وفكريا، لكنه لم يكن يفعل، لقد كان يمارس نوعا من التلاعب الواعي بالكلمات والأفكار، دونما إرواء لغليل المتفرج المتعطش لإجابات محددة، تماما كالسراب الذي يخايل المسافر، وهو من معاني كلمة رقاصة في الفصحى. رقاصة أيضا تعني الأرض التي لا تنبت وإن مطرت، وتعني اللعب الذي هو ضد الجد، إضافة لمعانيها العامية، كل هذا حفزني لاقتراح المفهوم لوصف نمط من المثقفين العرب الذين يتلاعبون بالأفكار بصورة جديبة لا تسمن ولا تغني من جوع عقلي.