القاهرة 13 يونيو 2023 الساعة 12:09 م
كتب: محمد زين العابدين
ارتبط فن الرقص قبل ظهور فرقة"رضا"بسمعة سيئة، خصوصا لدى الأوساط الشعبية، ثم جاءت فرقة"رضا" فقدمت شكلا استعراضيا راقيا للرقص الشعبي، مستلهما من تراثنا، ومعبرا في لوحات مبهرة عن الفولكلور الشعبي الجميل، وعن طقوس الأفراح الشعبية، وحياة الصيادين، ورقصات التحطيب الصعيدية، و"الحجالة" البدوية، وغيرها.. ومن خلال الرؤية المدروسة لمؤسسيها، والتقاليد الصارمة، والحرص على التجويد والتجديد الدائم، والمظهر المشرف، استطاعت منذ بداياتها أن تكون سفيرا مشرفا للفن المصري والعربي، وأن تكون نموذجا مضيئا لفرق الفنون الشعبية التي ظهرت بعدها.
وفي هذا الكتاب المشوق استرجاع جميل لذكريات الفرقة، وسنوات تأسيسها ونجاحها، وعروضها المبهرة بمصر وبلاد العالم، يقدمه أحد أعضائها المساهمين في نجاحها، وهو الفنان فاروق سالم (شقيق المخرج الكبير عاطف سالم)، والذي وضع في مقدمة كتابه صورة لمحمود رضا مع الفرقة بالزى الصعيدي والعصا، وكتب عليها:"محراب الأسطورة محمود رضا -ابن الريفي، لفَّ العالم حتى المالديفي"، وقد صدر الكتاب حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
• أسرار نجاح فرقة "رضا" والأب الروحي لها
لم يأت النجاح المذهل الذي حققته فرقة "رضا"من فراغ، بل نتيجة التخطيط والعمل المنظم، والتقاليد الصارمة التي حكمتها منذ بداياتها؛ وهذا ما لمسه"فاروق سالم" منذ بداية تعرفه على الفرقة على الطبيعة من خلال "محمود رضا"وزملائه، فكان من أبسط القواعد الصارمة للفرقة أن العضو الجديد الذي يتقدم لها لا يتم تثبيته فيها إلا بعد مروره بفترة اختبار ستة أشهر، مهما كانت مهارته..
وبالرغم من روح الصداقة والبساطة التي يتعامل بها "محمود رضا" مع الجميع، حتى أنهم ينادونه باسمه مباشرة؛ إلا أنه لا مجال للتهريج أو المجاملة أو التهاون في العمل، خاصة أن"محمود رضا" كان يصرف على الفرقة من جيبه الخاص في السنوات الأولى لتأسيسها قبل انضمامها للدولة، هكذا صارحه "محمود" منذ البداية، وأخبره أنه تعب كثيرا في تكوين الفرقة، وجمع أعضائها من خيرة الشباب الرياضيين المثقفين والمهذبين من أندية مصر وجامعاتها، وأنهم يناقشون مشاكل العمل أو مشاكلهم الشخصية بمنتهى الود والبساطة، في مقر الفرقة بشارع قصر النيل، أو بمنزل "علي رضا" بالزمالك.
تعرَّف "فاروق" على أعضاء الفرقة، والذين مثلوا عمادها الرئيسي وهم: نبيل مبروك، حسن عفيفي، حسن السبكي، الجداوي رمضان، أحمد عثمان، محمد الجداوي، حمادة حسام الدين، صالح مطر، محمود حافظ، فاروق مصطفى. ونجماتها: فريدة فهمي، هناء الشوربجي، هدى، منى العشري، ليلى عبد الغني (إبنة المطرب عبد الغني السيد)، نيفين رامز (عمها علي رضا)، راقية، ببا، ليلى، إليني (يونانية الأصل وهاجرت إلى كندا فيما بعد).
كانت الفرقة في بداياتها تقدم عروضها بمسرح نقابة المهندسين، ثم استأجر "محمود رضا" مسرح البالون من الدولة لتقديم العروض عليه، توافرت لفرقة"رضا" ظروف نجاح مثالية؛ فالموسيقار العبقري علي إسماعيل هو الذي استوحي الموسيقى الرائعة التي ترقص عليها الفرقة، من التدريبات والاستعراضات التي يشاهدها، مقدما ألحانا غاية في الرشاقة، وكأنها تحكي خطوات الراقصين، والمطرب الكبير محمد العزبي، يشدو بأحلى الأغاني والمواويل، والتي كانت سمة مميزة ومبهجة لرقصات الفرقة.
أما أهم العناصر التي دعمت هذا النجاح الكبير، فهي الثقافة العالية التي توافرت للفرقة، ممثلة في الأخوين "محمود رضا، وعلي رضا"، وفريدة فهمي، زوجة"علي"، بالإضافة لزوجة "محمود" مدربة الباليه اليوغوسلافية "روزا".
أما العنصر الأهم والأب الروحي للفرقة فهو الدكتور"حسن فهمي" والد"فريدة" أستاذ ورئيس قسم هندسة الإنتاج بكلية الهندسة بجامعة القاهرة، فهو الذي جعل من الفرقة "دولة صغيرة" تحكمها قوانين والتزامات بالحقوق والواجبات؛ للوصول بها إلى المستوى العالمي، كما أن زوجته السيدة المثقفة الإنجليزية التي تزوجها أثناء دراسته بإنجلترا ساهمت بموهبتها في الإشراف على قسم التطريز والصيانة لملابس الفرقة.
كان د.حسن فهمي يتمتع بثقافة موسوعية، وشخصية متفتحة مرحة، وكان متمسكا بقناعاته، حتى لو اضطر لترك الجامعة؛ فقد حاربته الجامعة عندما التحقت ابنته"فريدة" بفرقة"رضا"، قبل أن يشاهدوها ويحكموا عليها، وعندما زادت الضغوط عليه قدم تقريرا إلى عميد كلية الهندسة شارحا فيه قناعاته بما تقدمه الفرقة من فن رفيع، وأنه نوعٌ من الفن الراقي الذي يعبر عن تراث الشعوب، على غرار بلاد العالم المتحضرة، وطلب حضور كل الأساتذة ورؤساء الجامعة لمشاهدة الفرقة، ثم يصدروا حكمهم، وأرفق بتقريره استقالته المسبقة، وساندته الصحافة من خلال كبار الصحفيين، مصطفى أمين، وأنيس منصور، وأحمد بهاء الدين، واتهموا إدارة الجامعة بالتبلد الفكري، وفي النهاية، وبعد مشاهدة الأساتذة للفرقة؛ فوجئوا بمستواها الرفيع وحفاظ رقصاتها المستمدة من البيئة على التقاليد العربية، فصفقوا طويلا، ورفضوا استقالة د.حسن فهمي، مع تقديم اعتذار رسمي له.
وكان من أهم توجيهاته للفرقة، الحرص على المستوى الثقافي العالي، والإلمام الجيد باللغات، والتميز بالأخلاق، والالتزام داخل وخارج البلاد، والحفاظ على نظام الفرقة، كما سعى للتقريب بين شباب وفتيات الفرقة، من خلال التشجيع غير المباشر على الزواج بينهم، لصيانة الشباب والفتيات، وتحقيق الاستقرار لأعضاء الفرقة، وكأنها أسرة كبيرة، وبالفعل تزوج الكثير من أعضاء الفرقة من داخلها، وكونوا أسرا سعيدة ومستقرة.
• عقبات واجهت الفرقة:
من أهم العقبات التي واجهت الفرقة عدم وجود مصدر تمويل قوي وثابت لها، بخلاف صاحبها ومؤسسها "محمود رضا"، ونظرا لأنه كان يصرف عليها بسخاء، للحرص على تقديم مستوى مبهر؛ فقد كان الفائض لا يعطيه الفرصة لدفع رواتب مجزية لأعضاء الفرقة، برغم تميزهم، ووعوده المتكررة بزيادة مرتباتهم؛ وهو ما دفع عدد كبير منهم في وقت ما للإضراب، والامتناع عن حضور التدريبات، وقد واجه "محمود" هذا الإضراب بصلابة وقوة شخصية، ولم يرضخ لابتزاز المحتجين، خاصة وأنه كان صاحب الفضل في منحهم الفرصة، وتدريبهم على أعلى مستوى، وسافر بهم لمختلف بلاد العالم، رغم أن مطالبهم كانت مشروعة بالطبع، لأنهم كانوا شركاء في هذا النجاح الكبير. وبعد أخذٍ ورد عاد المضربون، بعد وعد أكيد بزيادة رواتبهم، بعد الانتهاء من عروض أبرز أوبريت حلّقَ بالفرقة لعنان سماء النجاح، وتم التجهيز له لفترة طويلة؛ وهو "رنة الخلخال".
وبعد مضي ثلاث سنوات على تأسيس الفرقة ورسوخ أقدامها وذيوع صيتها العالمي؛ رغبت وزارة الثقافة في ضمها إليها، إلا أن "محمود رضا" رفض رفضا باتا في بادئ الأمر خوفا من تغيير اسم الفرقة، وخضوعها للروتين الحكومي، وتبديد نجاحها، فأنشأت الوزارة "الفرقة القومية للفنون الشعبية"، واستقدمت لها مديرا فنيا روسيا مرموقا، وصرفت عليها بسخاء، وأوفدتها لتقديم عروض خارجية، وتحت وطأة الظروف المادية التي مرت بفرقة "رضا"؛ وافق "محمود وعلي رضا" على ضم الفرقة للوزارة، لكي تتكفل بالصرف عليها وعلى رحلاتها الخارجية، ولكنهما اشترطا الحفاظ على اسم الفرقة وكيانها، وإبرام عقود مجزية لأعضائها. وبالفعل تمت الموافقة على هذه الشروط، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الفرقة تابعة للدولة، فكانت خير سفير للفن المصري في كل مكان.
|