القاهرة 30 مايو 2023 الساعة 11:48 ص
بقلم: حاتم عبدالهادي السيد
يعد الروائي والشاعر سامي سعد فيلسوف الرواية التي تؤطر للمكان "المدينة" عبر أطراف مدينة العريش، ولقد أصدر العديد من الروايات التي تؤطر للمكان، منها رواية: "تلة الذئب" وروايته: "السراديب"، وفي هذه الرواية الأثيرة يحيلنا الراوي، السارد إلى المكان في مدينة العريش، عاداتها وتقاليدها، حيث السراديب أو "المواصي" كما يسمونها هناك، وهي منطقة منخفضة من الأرض يتم زراعتها بالنخيل، وبالخضروات، وهي على هيئة الحفرة الكبيرة، أو السرداب داخل الأرض. إذ يسكن الأهالى هناك في بيوت من الطوب اللبن، أو في عرائش ممتدة عبر الخلاء، يصيدون السمان، ويزرعون النخيل والخضروات ثم يتسامرون بالليل، ويعيشون حياة الفطرة الخالصة.
كما يعرض لنا معاملات الناس للبنات، يكتفون بالرضوة -إرضاء البنت بمبلغ، أو تجهيزها للعرس، لكنهم لا يعطونها ميراثها الشرعي، في الأرض، أو المال- فالمرأة لا تستشار في الزواج، الا أن فاطم قد كسرت في الرواية كل التقاليد، ورفضت أن يمسّها زوجها الذىأجبروها على الزواج منه، فاضطر لتطليقها لتتزوج من "القاهري" الذى نزح ليعيش في المدينة، وأراد أن تكون له أسرة بين العرايشية، ولقد نجحت المرأة باصرارها وكفاحها ،فى الوصول الى امتلاك ارادتها، وتزوجت رغم معارضة الجميع انتفيما ليتم كسر التقاليد البالية.
كما تتعرض الرواية لحكم الإنجليز، حيث"جارفس بك" المحافظ الانجليزى، الرجل العادل الذى كان يحب أهل سيناء ويتقرب اليهم كنوع من سياسة العدو - فاعتبروه الأهالى الكبير الذى يذهبون اليه ،لحل أى نزاعات قبلية كبرى تقع بينهم،وهو يتدخل -في الغالب- دون حاجة الى طلب منه .كما يحيلنا الى التراث المادى والمعنوى للمدينة: عادات أهالي مدينة العريش، في إشعال النار، وعمل اللصيمة، وإنضاج اللحم في الصباحية والعرس، ومواسم تصنيع العجوة، والشقيق، وتخزينه للعام القادم، وإلى مواسم الزراعة، وصيد السمان، والأسماك من البحر الأبيض المتوسط، على ساحل العريش، وفي بحيرة البردويل، وحيث قطار الشرق الذي يمر من المدينة الى فلسطين جالبا البضائع المصرية إلى الشام وتركيا وأوروبا.
كما تحيلنا الرواية إلى نكسة 1967م، وإلى حرب 1973م ، كما تظهر لنا ممارسات العدو الإسرائيلي منذ فترة الاحتلال ومرورا بالمقاومة الشعبية، وعدم تعامل الأهالي مع حكومة جيش الاحتلال، كما تتعرض الرواية للحياة الشفاهية القبلية التي يتعامل بها الناس، ومدى الصدمة التي واجهوهها من الإدارة المصرية بعد معاهدة كامب ديفيد، وعودة سيناء، وموقف السادات حين قال: "عفى الله عما سلف "، كذلك تتعرض الرواية إلى بيروقراطية الإدارة عندما عادت سيناء في تعاملها مع ملفات كثيرة مثل: توثيق عقود الزواج والطلاق والحيازات والأملاك وشهادات الميلاد وغيرها، بما يعكس تحولات المجتمع السيناوي من حياة العائلات والقبلية وقانون البادية، إلى الحكم المدني وقوانين الدولة ودستورها، وهو الأمر الذي لفت انتباه الدولة مؤخرا، حيث السيناويين على فطرتهم كأغلب شرائح مجتمع بادية سيناء، لا يذهبون الى أقسام الشرطة أو المحاكم، ولا يحتاجون في معاملاتهم المدنية إلى الحكومة في شىء، يقول:
(يا خال، حكومة دينها ورق .إذا أردت أن تحمل شبكتك الصغيرة وتنزل البحر يلزمك تصريح، إذا أردت أن تقيم ركائزك وتنصب غزلك يلزمك تصريح، إذا رغبت في بيع بلحك أو زيتونك لازم ورق، ما هذا؟ ما ناقص والله يا خال، يوم أن يُهب عليك المزاج إلا أن تذهب إليهم وتأخذ تصريحاً لتركب الحرمة!. أم المصائب كما يقول الزير: لو سرت في طريقك في أمان الله وأوقفك شرطي ولم تكن معك الهوية، ها قد دخلنا أخيرا في دفتر أوراق الحكومة، وصارت لنا أرقاما لا نعرف عددها ولا نعرف كتابتها، وما علينا حين يطلبونها غير أن ندفعها في عيونهم: خد يا باشا. لقد صار ذلك عسرا على أهل الشريط، هم الذين اعتادوا الحياة شفاهة، ولم يقيموا لعالم الورق أهمية، كما أن هذه الأوراق تحتاج إلى مشاوير، لا يعرفون من أين تبدأ وإلى أين تنتهي: حتى عربة الكارو يريدون لها ترخيص وأوراق! هذا آخر الزمن والله).
إنه صراع الشفاهية والكتابية، صراع التحولات عبر الأطر المجتمعية، دون النظر -من جانب الدولة- الى تمهيد لهذه التحولات، ومع ذلك فقد تحمل المواطن غباء البيروقراطية، وظلمها المستبد.
إنها الرواية التي تعكس اللهجة العرايشية ومفرداتها التي كادت أن تغيب الآن، فنراه عبر"فلسفة الحياة"، يعيد إنتاجية الأمثال والحكم والمأثورات الشعبية، ويضمنها السرد الرشيق، يقول :
"ولا قلب خالي من الهم، حتى قلوع المراكب"، وأيضا: "لمين أشكي موجع القلب لمين، وأنا مالي على البلوة صديق يوافي، غير البكا والجض والنين، ساعات أبكي، وساعات أهيل الدمع من مقلة العين، وساعات ألطم على كفافي".
أو يقول على لسان جبريل -أحد أبطال الرواية: "أي والله يا جبريل: أخت الخوّاضة، خوّاضة "الناقة المدربة على خوض الماء، لكن يا ولدي: الدقن اللي ما تجود، تنغصب "ما لا تعطيه جودا و كرما، قد تعطيه قهرا و رغما).
إنها رواية العريش، حكايتها عبر المكان، وروعة السرد للتفاصيل التي توثق سيرة الزمن عبر المكان الفطري، المثيولوجي، الرامز، يقول الراوي، السارد، المؤلف، تفاصيل الحكاية عبر السرد اللهجي الرشيق لتفاصيل المكان الدقيقة، للحياة الأخرى، لعالم المكان الشاهق:
(يذهبون ويأتون، سكان المواصي، لكن عيونهم لا تغيب أبدا عن التحديق في هذا الشاسع الأزرق: البحر. آه يا خالتي، لقد قلت لك من قبل إنه غول كبير، لكن رزق الغلابة في جوفه. هؤلاء الذين يغرسون بذورهم في السراديب، ويروونها بماء التمايل حملاً على الأكتاف، وينتظرون بفارغ الصبر أن تشق البذرة سطح الرمل، وحين تهل عليهم بازغة من التراب، تلمع بوارق الفرح العميق فى العيون الكليلة، يعدون الأيام والليالي، يعرفون لكل زرع ميعاد حصاد ونضج، الخيار أربعون يوما وتؤكل، البندورة ستون أو سبعون يوما وتحلب منها، تتكاثف اللهفة لديهم لرؤية عود أخضر، يعدون أوراق النبات بشغف، يقولون: هانت، صار على ثلاث ورقات، وحين يصلح عود جرجير أو رأس بصل للأكل، يخلعونه برحمة فائقة، يحدقون فيه ملياً، يضربونه على ظهور أكفهم برفق، تنظيفا له من حبة رمل أو أي شائبة، لا يغسلونه أبدا، ليش نغسله يا ولدي؟ بطن الرمل أنظف من بطن ابن آدم. سيأكلون ما تجود به الأرض، وهم دائمي الحمد، ينتظرون المواسم بلحاً كانت أو صيداً للسمان، بذر الشعير بعد سقوط مطر الصليبة، آه هكذا الدنيا تمضى، لكن هذا الأزرق الشاسع يحيط بحياتهم من كل اتجاه، وفي المارس المعروف لكل عائلة في الشريط، مساحة توازي هذا المارس على البحر، حيث ترقد مراكبهم الخشبية وأدوات صيدهم من غزل ومراسى وطاولات خشبية سميكة. من رجال العائلة الخبراء بالبحر والصيد يشكلون مجموعة الجرفة (ربما نسبة إلى الشباك التي تجرف ما يصادفها في الماء) لن يزيد العدد عن عشرة أفراد، أولئك الذين يذهبون بالفعل على سطح المركب إلى أقاصى الماء، يغيبون يوما أو أياما، لا أحد يعرف الوقت "أنت ونصيبك يا خال" ثم يعودون بما قسّم الله من رزق. لهذه المجموعة من الجرفة قائد، يكون أبرعهم بالمسار في عرض البحر، مواجهة التيارات، هجمات الوحش، التعامل مع الريح، إصدار ما يلزم من أوامر حين اللزوم، دون مناقشة من أحد (لا ديموقراطية في البحر) أو كما يقولون: ما هى مناسبة لطق الحنك. أثناء ذهاب الرجال للجرفة تتعلق عيون أهل المواصي بالبحر، يحملون فوانيس صغيرة، ويحدقون طوال الليل في البحر ربما ينوس ضوء مركب عائد، ربما يأتي صوت هادر من هناك، ينتظرون عودة الرجال والسلامة من الله، وعندما يصلون إلى الشاطئ يكتظ البحر بالرجال والنساء والأطفال وعابري الدرب، يقذفون بالحبال الغليظة أولاً ناحية البر، يلتقط أطرافها من يقفون على الشاطئ، ينقسمون إلى صفين يربط كل منهم نصيبه من الحبل على خصره، ويبدأون فى الجذب الشديد: يا الله، يا قوي، هات ما عندك) .
إنها عبقرية السرد، المكان، يعيد إنتاجيتها بفطرة شديدة، وببساطة تفاصيل تجعلك تخش إلى قلب الأحداث، تعيشها بتفاصيلها، وسحرها الأثير.
إنه الروائي، الشاعر، الفيلسوف الذي يغزل من صوف المفردات عباءة السرد الساحرة، حيث المكان هو البطل عبر الرواية، في سراديب الذات والكون والعالم والحياة.
|