القاهرة 16 نوفمبر 2022 الساعة 06:55 م
بقلم: إيهاب يوسف
في الثلاثين من مايو عام 1921م، سُمعت صرخة مدوية من مصعد مبنى دريكسيل، وهو أحد أهم مباني منطقة "جرينوود"، بمدينة تولسا، ولاية "أوكلاهوما" الأمريكية. بعدها شوهد مراهق أسود يُدعى "ديك رولاند" يخرج مفزوعًا من المكان، حيث كانت الصرخة التي دوى صداها أرجاء المبنى لفتاة المصعد الوحيد، البيضاء "سارة بيج". اجتمع حول الفتاة أكثر من رجل أبيض كانوا على مقربة من مكان الحادث، واستدعيت الشرطة، ليُقبَض على "رولاند" في صباح اليوم التالي.
ليس من السهل الوقوف على ما دار داخل المصعد وتسبب في صرخة الفتاة؛ فقد تنوعت الروايات بتنوع ألوان بشرة أصحابها: فالبيض يروا أن "رولاند" حاول الاعتداء على الفتاة فصرخت، بينما فسَّر السود صراخها بأنه ربما تعثر في المصعد واستند على ذراع "سارة" التي فوجئت بحركته وأطلقت هذه الصرخة، وادّعى آخرون بأن رولاند كانت تربطه علاقة بالفتاة، وربما هما عاشقين من الأساس، خاصة أن "رولاند" يتردد على الطابق العلوي من المبنى لأن به مرحاض يستخدمه وزملاؤه في العمل.
إن الخلاف حول تلك التفسيرات لا جدوى منه، فقد طُمِسَ أي دليل تاريخي يخص ذلك الموضوع وتجاوز ما حدث بالمصعد تحديدًا، لكن ما ترتب عليه هو ما لم يكن من السهل تجاوزه؛ فقد خرج الحادث عن إطاره تمامًا وأصبح مسالة يتحيز فيها كل شخص إلى بني لونه، فاجتمع مسلحون بيض حول مكان احتجاز "رولاند" يريدون دمه أثناء تحقيق الشرطة معه، قبل أن تعقد محاكمة بشأن الحادث، واجتمع قلة آخرون من السود بالأسلحة لحماية الفتى، ومن هنا عمت الفوضى في صفوف البيض وتطور الأمر إلى هجوم الحشود البيضاء على "جرينوود" مخلفين وراءهم كم من الخراب والدمار كان كافيًا للقضاء على أهم معالم السود الاقتصادية في المدينة، كما ترك مئات القتلى من السود.
بلاك وول ستريت
إن إحياء السود لحادثة أو مذبحة "تولسا العرقية" في عام 2021م، أي بعد قرن كامل من وقوعها، ليس إلا تمثيلًا دقيقًا لما يعانيه الوعي الجمعي لدى العرق الأسود، وما انفك القدامى من أهالي "جرينوود" السود أو أبنائهم وأحفادهم عن المطالبة بتعويضات مالية عبر دعاوى قضائية في محاولة للتعبير عن الضرر والألم النفسي والجسدي الملحق بهم عام 1921م في «بلاك وول ستريت»، وهو الاسم التي اشتُهرت به "جرينوود"؛ لكثرة ما تحويه هذه المنطقة من مصارف وشركات اقتصادية مهمة لأصحاب أملاك ورجال أعمال سود، فضلًا عن الفنادق والنوادي الليلية وصالات البلياردو ومسرح ويليامز دريم لاند الشهير، والسينما العارضة للأفلام الصامتة والعروض الحية، ومدرسة بوكر تي واشنطن، وكنيسة جبل صهيون المعمدانية، وضمت مكاتب لكبار المحامين والأطباء.
كانت هذه المقاطعة التي تأسست من قِبَل السود في بداية القرن العشرين، مرحلة ازدهار وتنوع اقتصادي غير مسبوق منذ انتهاء الحرب الأهلية، لكنها رغم الإنجاز الذي تحقق في «جرينوود» مطلع القرن الماضي، لم تنجو من يد المتعصبين، والمحير أنه إذا كان التعصب لشيء يتضمن كراهية للمغاير له والمختلف عنه. هل هذه الكراهية تخص اللون في حد ذاته، بحيث تتعلق المسألة بالقبح والجمال مثلًا، أم أن اللون علامة مميزة لشيء ما أدى لهذه الكراهية؟ المؤكد أن أصحاب هذا اللون لهم تاريخ خاص هو أيضًا تاريخ الرق في الولايات المتحدة الأمريكية.
الرق أزمة الولايات
في القرنين السابع عشر والثامن عشر، زادت عملية استبدال الفقراء الأوروبيين، بالعبيد المكبلين بالسلاسل والمحمولين على متن السفن القادمة من أفريقيا، نتيجة نمو النشاط الزراعي في الولايات المتحدة، فقد كان العبيد بمثابة الأيدي العاملة لإنتاج محاصيل مثل التبغ والقطن، كما أنهم كانوا الأكثر وفرة من العمالة الأوروبية الفقيرة، والأقل من حيث النفقة، حيث لا يتطلب الأمر سوى أن تبتاع عبدًا يعمل لك بالسخرة.
ومع التوسع الزراعي للولايات الجنوبية الأمريكية، زاد تراكم العبيد وشكلوا ثلث سكان الجنوب، فكان نظام العبودية ضمن النسيج الاجتماعي والاقتصادي في الولايات الجنوبية ولا يمكن الاستغناء عنه بسهولة، وهو ما لم يكن بنفس الأهمية في الولايات الشمالية، على الرغم من تكون ثروات بعض الشماليين من تجارة الرقيق، لكن عمل العبيد في الشمال كان مقتصرًا على الخدمة في المنازل، وقل استخدامهم في الزراعة التي كانت محدودة نتيجة انشغال أهل الشمال بالصناعة والتجارة، كذلك اعتبار هذه الأعمال مما يستلزم مهارة ليس للعبيد جدارة فيها.
وبحلول القرن التاسع عشر، صار الرق مسألة نزاع معقد بين ولايات الشمال والجنوب، سببه تباين الرؤية والحاجة، فإن الوطنيين في الولايات المتحدة طالبوا بالحرية والاستقلال من الاستعمار البريطاني خلال الثورة الأمريكية (1775-1783م)، وكان لبعض زعماء هذا الاستقلال تحفظات حول وجود العبيد في مجتمع يناشد الحرية، مثل "توماس جفرسون"، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الذي وقع على قانون يحظر جلب العبيد إلى الولايات المتحدة وأقره الكونجرس عام 1807م، إذ لا يتفق وجودهم وما يدعو إليه من ديمقراطية وحرية، لكنه كان يرى ضرورة توطين العبيد وعتقهم بشكل تدريجي، لإدراكه مخاطر العتق الفوري.
عَبَّر «جفرسون» عن مشكلة العبيد في قوله: «إنها مثل الذئب نمسكه من أذنيه فلا نستطيع أن نظل ماسكيه، ولا نستطيع أن نطلقه ونضمن السلامة». وتفاقم الخلاف مع انضمام "كاليفورنيا" إلى الولايات المتحدة عام 1850م، فبينما شايع أغلب ولايات الشمال أهل كاليفورنيا على أن تكون حرة بدون عبيد، أرادها الجنوبيون ولاية من ولايات الاسترقاق، وأيد الرئيس "تايلور" الولايات الشمالية واستنكر أن تُحمل الولاية الجديدة على ما لا تريده.
أبراهام لنكولن.. حرب وحرية
زاد شعور الولايات الجنوبية بفقدان الأهمية والتأثير في صنع القرار الأمريكي، وعزز هذا الشعور فوز "أبراهام لنكولن" في الانتخابات الرئاسية عام 1860م، خاصة أنه كان مستبعد من بطاقات الاقتراع في عشر ولايات جنوبية، ما يدل على قوة التأثير الشمالي في صنع القرار الأمريكي وتفوقه على الجنوبي بالإضافة لزيادة عدد سكانه، وقبل أن يتسلم لنكولن السلطة، أعلنت سبع ولايات جنوبية انفصالها عن الاتحاد، مشكلين من أنفسهم الولايات الكونفدرالية الأمريكية، وهو ما رفضته ولايات الشمال بقيادة الرئيس الجديد "لنكولن" وعدته تمردًا داخل نطاق الاتحاد، ولم يمض سوى أشهر قليلة حتى انتُخِب "جيفرسون ديفيس" رئيس للولايات الكونفدرالية في التاسع من فبراير 1861م، وبدأت الحرب الأهلية بينها وبين ولايات الاتحاد، بعدها انضم أربع ولايات أخرى للكونفدرالية مكونين إحدى عشرة ولاية متمردة في الجنوب.
هذا التطور السريع للأحداث والذي أدى إلى حرب أهلية بين الشمال والجنوب، أو بين الاتحاد والولايات الجنوبية "المتمردة" بحسب الفكرة الشمالية عن هذه الولايات، كاد يخلو من معنى لو لم يحسم أمر العبودية فيه سواء بالحرية أو استمرار العبودية، لأنها المعضلة الرئيسية بين الشمال والجنوب، وعلى أساسها كانت الحرب. واستغل "لنكولن" انتصار قواته في معركة انتيتام على الجيش الكونفدرالي في سبتمبر 1862م، ليعلن عن حرية العبيد في الولايات التي تشهد تمرد ضد الاتحاد، على أن يبدأ العمل بهذا الإعلان مع بداية السنة الجديدة 1863م، وبالطبع لم يكن من السهل تنفيذ هذا القرار الرئاسي في هذه الولايات، لأنها ببساطة ليست ضمن نطاق سيطرته، لكن الإعلان فتح باب الهرب للعبيد من هذه الولايات وهو ما لم تستطع الكونفدرالية منعه والتحكم فيه.
وبتحرير "لنكولن" للعبيد سواء بهروبهم للشمال أو تخليصهم أثناء تقدم جيشه الاتحادي، تمكن من سحب القوة العاملة، وإحداث فجوة اقتصادية واجتماعية في الجنوب، كما أضاف لجوء العبيد للشمال طاقة حربية، حيث جُنِّد مئة وثمانين ألف منهم في جيش الاتحاد. واعتُبر قرار "لنكولن" عام 1863م، خطوة أولى نحو تحرير العبيد في الولايات المتحدة، حيث لم يؤتي ثمارًا حقيقية إلا بعد انتهاء الحرب الأهلية، وعودة الولايات المتمردة مرة أخرى للاتحاد عام 1865م، فضمن القرار الحرية لجميع العبيد وصار فعالًا بعد الحرب على مستوى الولايات.
مارتن لوثر كنج بعد قرن.. لديه حلم
لم يكن ما وقع من سيدة سوداء في ولاية "آلاباما" حين عبرت عن حقها ببساطة في الجلوس على المقعد الذي تختاره في الأتوبيس، حدث عشوائي بقدر ما يوضح مدى الاحتقان الذي كان قد وصل إليه الكثير من السود في ولايات أخرى، وكان قانون الولاية ينص على أن صاحب البشرة السوداء يدفع الأجرة من الباب الأمامي للأتوبيس ثم يصعد من الباب الخلفي ويجلس دون المقاعد الأمامية المخصصة للبيض، ومن حق المواطن صاحب البشرة البيضاء أن يطلب من أي أسود ترك مقعده ويجلس مكانه، لكن "روزا باركس" رفضت التخلي عن مقعدها لأي أبيض أثناء عودتها من العمل إلى بيتها في مدينة مونتجمري عام 1955م، وهو ما أثار جميع الركاب البيض فاستدعى السائق رجال الشرطة، وقبض على "باركس" لأنها خالفت القانون.
وقانون الأتوبيس كان واحدا من قوانين عديدة تفرق بين المواطنين على حسب لون بشرتهم، فقد كانت تتم التفرقة بين الأطفال في المدارس، وأخذت عملية دمج الأطفال "البيض والسود" في مدارس مشتركة خطوات عديدة ولم تبدأ قبل عام 1954م بعد قرار محكمة القضاء العالي الذي سمح بالدمج فقط وفقد صيغة الإلزام، كذلك الحال مع مطاعم ودور سينما حُرم فيها دخول السود حيث خُصصت للبيض فقط. وهو ما يؤكد أن التفرقة بين الألوان لم تكن من قبل الدولة وحدها مُمثلة في القوانين وتطبيقها، وإنما المجتمع أيضًا بتجاهل هذه القوانين وممارسة الناس لهذه التفرقة في دور السينما والمطاعم بقوانينهم الخاصة والمشابهة لقوانين الدولة.
رغم أن حادث الأتوبيس الذي قامت به سيدة "آلاباما" كان بفعل الصدفة، إلا أنه تسبب في إثارة الكثير من السود ضد هذا الوضع الذي صار لا يُحتمل وأنفد صبرهم، وهو التعبير الذي استخدمه "مارتن لوثر كنج" في كتابه "لماذا نفد صبرنا؟"، وأخذ يؤصل "كنج" لمبدأ المقاطعات السلمية والمظاهرات بغير عنف، فقط لعرض الآراء والمطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية، دون تخريب أو تدمير في أي ولاية. وبعد مقاطعة السود لخطوط الأوتوبيس عام كامل، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا حكمًا ينص على عدم قانونية هذه التفرقة، وأُفرج عن سيدة الأوتوبيس "باركس"، لتعود حياة السود من جديد إلى الأوتوبيس، لكن لم تهدأ العاصفة حيث أن الكثير من الحقوق لا تزال مهدورة بالنسبة لهم.
استمرت المظاهرات وأصر "كنج" أن تظل سلمية ولا يتطرق إليها أي عمل من أعمال العنف، حتى بعد لجوء الشرطة للقسوة مع المتظاهرين في محاولات تأديبهم، واشتهرت صور الكلاب البوليسية تهاجم الأطفال في الصفوف الأولى من أي تظاهر، وبحلول عام 1963م كان كنج يتجه بعدد كبير من الناس بلغ مئتين وخمسين ألف مواطن أمريكي منهم ستين ألف أبيض، إلى نصب "لنكولن" التذكاري في العاصمة واشنطن، ليعيد إلى الذاكرة موعد الحرية الأول مع "أبراهام لنكولن"، ويوضح أن السهم المُطلق منذ مائة عام لم يصل إلى مرماه بعد، وأنه لا يزال "لديه حلم" نهوض الأمة في عيش المعنى الحقيقي لعقيدتها الوطنية بأن كل الناس خلقوا سواسية، ضمن خطابه المؤثر "لدي حلم". وأُطلق عليه بعدها لقب "رجل العام" من قِبل مجلة "التايم"، ومُنح جائزة نوبل للسلام في العام التالي.
منحنيات اللون مستمرة
مر الأمريكان ذوو الأصول الأفريقية، بمنحنياتٍ كثيرة داخل النسيج الأمريكي منذ بداية تكوينه، بدءًا من العبودية ومرورًا بالتحرير، وصولًا لتهميش الحقوق المدنية وتميزها من خلال اللون. صحيح أنه بعد فترة مارتن لوثر كنج، عاد الأمر يطرح من جديد حول من كانت مشكلتهم في الاسترقاق وتطورت إلى لون البشرة، أنهم يستحقون المزيد من الحقوق، وأن التفرقة ليس لها أي أساس منطقي، وتغير الوضع حتى كاد يُظن بنهاية هذه المأساة مع التحسن العام في حياتهم الاجتماعية وظهور مثلًا رئيس أمريكي أسود، أو صحفيين وإعلاميين وأطباء مشاهير، وغيرهم على رأس وزارات مثل الخارجية، وممثلين لامعين في هوليوود، لكن ثمة أمور أخرى تحول دون الثقة في نهائية الموقف العنصري، يعد أهمها الرقابة المستمرة من الشرطة لأي أسود في الأماكن العامة أكثر من أي لون آخر، لدرجة أن نسبة أصحاب هذا اللون في السجون الأمريكية بلغت 43%، في حين لا يتخطى السود عمومًا 14% من إجمالي عدد السكان، وهو ما ترك أثرًا سيئًا في وعي السود عن أنفسهم وظهر في أحيان كثيرة، مثل الأحداث التي أعقبت مقتل "جورج فلويد" في مايو منذ عامين تحت ركبة شرطي أبيض، والتي أدت بدورها لاجتياح السود الولايات معبرين عن غضبهم، وعن مدى ما وصلت إليه الممارسات الشرطية المسكوت عنها ضدهم.
اللون علامة مميزة
العودة إلى اللون أو التحيز والتعصب للونٍ ما، هي عودة إلى العبيد ولون بشرتهم من الأساس، إذ هل كان سيضطهد أصحاب البشرة الداكنة، إذا كان سادة الولايات الأوائل من أفريقيا وليس أوروبا، أعني إذا كان الأوروبيون هم العبيد لا السادة بأي طريقة، لابد وكانت ستتأثر وجهات النظر بين اللونين، وذلك ما يبتعد باللون وينحو به عن أي نظرية تخص اللون في حد ذاته، أو أي منظور جمالي مثلًا يفضل لون عن آخر، فإن استعباد الأفارقة أثر بالتأكيد على خيال المجتمع الأمريكي تجاه هذا اللون، وربما ساعد في ذلك أيضًا ارتباط هذا اللون الداكن دائمًا بأصوله من الدول الأفريقية ذات المجتمعات الفقيرة البائسة والثقافة الأقل تأثيرًا في الحضارة الحديثة.
وبالتالي تم استغلال اللون كأداة للفصل العنصري تلقائيًا بوصفهِ علامة مميزة بين الأبيض الحر ذا الأصول الأوروبية، والأسود الذي ورث العبودية رغم تحريره الرسمي، فلا معنى للحرية ما لم تلحق بها المساواة في الحقوق المدنية، وهي الفكرة التي لم تكن متاحة أو مُلحة ومؤثرة إلا بعد حوالي قرن من إعلان الحرية نفسه.
|