القاهرة 13 يوليو 2022 الساعة 01:42 ص
د. هويدا صالح
صراع الخير والشر وتمثلات الموت:
يتجلى صراع الخير والشر في أسطورة أوزير(إله الخير والخصب والنماء) ومعركته الأبدية مع"ست" إله الصحراء والشر والفناء. تبدأ الأسطورة المصرية بأن "جب" إله الأرض، و"نوت" إلهة السماء أنجبا أربعة أبناء هم: أوزير وإيزيس وست ونفتيس، تزوج أوزير من إيزيس، وست من نفتيس، لكن أوزير كان إلها للخصب والخير يشعر بالرضا مع زوجته إيزيس راعية الحياة على الأرض أو الأم الكونية. شعر الإله"ست" بالغيرة من أخيه أوزير، فقرر أن يوقع به، ويُعدّ لقتله، فجهز صندوقا أو تابوتا جيد الصنع مرصع باللآليء ومطلي بالذهب، وأقام وليمة دعا فيها الجميع بما فيهم أوزير. أخبر الحضور أن من يجد الصندوق مناسبا لمقاسه سوف يمنحه له هبة وهدية. فنزل كل الحضور على التوالي في الصندوق، فلم يجدوه مناسبا لهم، ولما جاء دور أوزير نزل في الصندوق ليختبر مقاسه، فسارع ست ومعاونوه بإحكام إغلاق الصندوق على أخيه. وبالفعل قتل "ست" أخاه أوزير، ومزق جسده لاثني وأربعين قطعة، بعدد الأقاليم المصرية، ووزعها على كل الأقاليم، لكن الأم الكونية راعية الحياة، قررت أن تبحث عن زوجها، وجمعت كل أشلائه، وجمعتها وأقامت الجسد مرة أخرى، لكن الجسد كان ينقصه العضو التناسلي، ولكي تستمر الحياة، صنعت له عضوا وجامعته؛ وحملت منه بطفل سيأتي؛ ليقيم العدل والخير مرة أخرى. أنجبت حورس الذي قاوم الشر وحارب جفاف الصحراء من أجل أن يعيد لمصر الخصب والنماء. حارب حورس عمه"ست" وتغلب عليه، وأعاد لمصر ما فقدته بقتل أوزير. وبُعث أوزير من العالم السفلي، ليصبح إلها لإقامة العدل وفق نظام"الماعت" الكوني الذي ينهض على تحقيق العدالة الاجتماعية. وبعودة أوزير من العالم السفلي يعود النور والضياء والشمس التي تشرق كل صباح على الكون.
هنا القراءة المتأنية للأسطورة تكشف وعي المصري القديم بأهمية الحفاظ على النظام الكوني والتوازن، فحورس لم يقتل عمه"ست" إنما تغلب عليه، فكل يوم يأتي الظلام ليخطف الشمس ويخفيها، وكل يوم الشمس بحاجة لإعادة بعث جديد لتستمر الحياة. هو صراع بين الخير والشر، كطبيعة كونية، لكن المصري القديم كان ينحاز إلى الخير والعدل والأمان، ويقاوم قدر المستطاع الشر والفوضى والظلام.
المقابر منازل مؤقتة لحياة ما بعد الموت
آمن المصري القديم بقدسية ورهبة الموت، وأهمية الحفاظ على المتوفى، روحا
وجسدا، وهذا الإيمان دفعهم للاهتمام بإقامة المقابر وبعلم"التحنيط" الذي يعتبر حتى الآن سرا من أسرار هذه الحضارة الضاربة في القدم، والقديمة بعمر البشرية، ورغم التقدم العلمي المذهل الآن لم يكشف أحد هذه الأسرار كاملة.
إقامة المقابر
هذه العقيدة الراسخة التي آمنت بها"كيميت" مصر القديمة دفعت ملوكها وعلمائها إلى البحث عن طرق آمنة للدفن تحقيقا لفكرة الخلود والتي تجعل من الموت معبرا لحياة أخرى تبدأ بعده.
وحرص خبراء إقامة المقابر قديما على اختيار مكان مناسب للدفن، وحماية المقابر من عوامل التعرية المناخية التي تعرض أجساد الموتى للعطب، وحماية هذه الأجساد من لصوص المقابر بكل عهد وعصر، ورغم محاولات هؤلاء اللصوص عبر الزمن لسرقة المقابر إلا أن التقدم العلمي التجريبي في تشييدها حمى الكثير منها، كذلك حماية المقابر من الحيوانات النابشة والحشرات الآكلة، وهذا ما دفعهم إلى اختراع علم"التحنيط" وأخيرا حماية المقابر من الطاقات السالبة، ولعلماء المصريات تجارب وخبرات كبيرة حول هذه الطاقات أطلقوا عليها مصطلح"لعنة الفراعنة" وهي طاقات غامضة كانت تصيب الكثيرين ممن ينقبوا ويحاولوا فتح المقابر بحثا عن الذهب والآثار والمومياوات التي حفظها التحنيط رغم مرور آلاف السنين على موت أصحابها. وكان حفظ المقبرة من اللصوص يتم بإخفاء وتغييب مكان المقبرة، وصنع مقابر وهمية تخفي خلفها المقابر الحقيقية، وتحصين المقابر بطاقات كهرومغناطيسية كانت تسمى بطاقة"النثر" وهي طاقات سالبة كما أشرنا تصيب كل من يحاول فتح المقبرة، فهناك قصص تروى عن منقبين وحافرين للمقابر فقدوا أبصارهم أو أصيبوا بأمراض غامضة ظلت تأكل في أجسادهم حتى ماتوا موتا بطيئا، وهناك من تلقى صدمة الطاقة السالبة ومات على الفور وهكذا.
وبناء المقابر أبهر علماء الجيولوجيا الحديثة، حيث كانت تصنع بطريقتين، إما نحتا في الجبال والصخور أو بناء، وفي حالة البناء كانت تبنى معاكسة لمياه الصرف والمياه الجوفية من خلال وضع طبقات محددة من عجنات شديدة أو لينة أو طبقات رمليه توضع بعناية أو رصات حجريه تمتص الهزات الأرضية.
أما حفظ أجساد المتوفى من الحيوانات النابشة، فكان يتم ببث طاقة"النثر" السالبة التي تغير الأمزجة الطبيعية لهذه الحيوانات والحشرات، فلا تنهش أجساد الموتى، ومن الحيوانات النابشة"ابن آوى" ومن الحشرات الآكلة"الجعران"(18).
طقوس ومراسم الدفن:
يبدأ طقس الدفن في اليوم الأول للمتوفى بغسل الجسد بماء النيل، بما له من قوى تطهيرية كما يعتقد المصري القديم، ويساعد ماء النيل بما له من قوى رمزية إشارية على إزالة أدران الجسد.
ثم تبدأ مرحلة التحنيط التي مثّلت إعجازا علميا كبيرا لأناس عاشوا قبل آلاف السنين وتوصلوا لأسرار تحلل الجسد الإنساني، وتمكنوا من الحفاظ عليه سليما حتى تتعرف عليه الروح في العالم الآخر.
وتستمر الشعائر الطقسية من خلال قراءة التعاويذ التي تحمي الروح من الفناء، وتبدأ الطقوس بإزالة أظافر اليدين والقدمين قبل لفها حتى يتمكن المتوفى من استعادتها في الأبدية، ويصاحب ذلك تعويذة خاصة لكي يستعيدهما المتوفى. كذلك تمسح الرأس بالزيت مسحا ختاميا بعدد من اللفائف المشبعة بالزيت العطري و الراتينج وتتكفل التعاويذ التي تقال معها برد الحواس لها وكذلك لبقية الأعضاء .
وكان الإله أنوبيس إله المحنطين والإله ابواوات و مُثل برأس ابن آوي من الوجوه المألوفة في الطقوس والعقائد الجنائزية إضافة إلي العديد من الآلهة ومنهم (أوزوريس , حتحور , مرت , سجرت , ايزيس , نفتيس , سرقت , نيت , أولاد حورس الأربعة ) .
أما طقوس الدفن فكانت تتم وسط نوع من الرقص الجنائزي وقرع الدفوف وكان الكهنة يحملون التابوت وصندوق الأحشاء وقد تكدست الزهور حول التابوت الذي يزين بصور الآلهة التي ستساعده علي البعث.
يعبر موكب المودعين والذي يتكون من الكهنة وأهل المتوفى النيل متجهين للغرب، حيث توجد إلى حيث يرقد الأبرار. وكل هؤلاء يذهبون في قوارب متتالية وآخر القوارب يصل القارب الذي يحمل متاع الميت من قرابين الطعام والخبز والحبوب وتماثيل الأوشابتي.
وتبدأ مراسم التشيع الأخير في الشاطئ الغربي من النيل فيسير الرجال في المقدمة وتتبعهم النساء وفي أثناء سير الجنازة كان الكهنة يحرقون البخور أمام المومياء، ويرتلون التعاويذ الحزينة(طقس العديد في العصر الحديث في جنوب مصر تقوم به النساء وتعدد فيه خصال الميت الخيرة والحسنة) وأمام الموكب يرقص الراقصون(موو) رقصة جنائزية، وتصاحب الموكب ندابتان تحاكيان قصة أوزير ومأساة إيزيس في البحث عن جسده.
وبمكان قريب من المقبرة كان يسمي "البيت الذهبي" يقام طقس فتح الفم والعينين والأذنين وكان الإله الذي ينسب له هذا الطقس إما الإله خنوم ولذلك لقب "سيد البيت الذهبي" أو الإله بتاح الخالق وكان كاهن هذا الطقس يسمي "سم" وكان يرتدي جلد الفهد المُميز له فكان يبدأ الطقس بتطهير تمثال المتوفى ويضعه علي قاعدة من الرمل موجها وجهه نحو الجنوب ثم يقوم بطقس فتح الفم والعينين والأذنين وذلك بلمس وجه الميت بآلات مختلفة يردد فيها (أنا أفتح فمك لكي تتكلم وأفتح عينيك لكي تري رع وأذنيك لكي تسمع تبجيلك ثم تمشي علي رجليك لكي تدفع عنك الأعداء) ويتبع بعد ذلك بعض الطقوس لكي يستعيد الميت قدرته علي تسلم الطعام الذي يقدم له يوميا في العالم الأخر ثم يقوم الكاهن بتبخير التمثال وهذا الطقس ذو طبيعة سحرية حيث يحاول التأثير علي تمثال المتوفى لكي يحصل تأثير علي جسد المتوفى نفسه.
وفي آخر المطاف يوضع تابوت الميت في المقبرة ويحرص أهله وأصدقاؤه على أن يضعوا الزهور فوق التابوت قبل أن يغادروه عائدين إلى البر الشرقي.