القاهرة 6 يوليو 2022 الساعة 01:39 ص
يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "وحبوبُ سنبلةٍ تموتُ ستملأُ الوادي سنابل"
د. هويدا صالح
ينهض الفكر المصري القديم على ثلاثية تتبادل التأثير فيما بينها، ولا يلغي أحدها الآخر، وهذه الثلاثية هي : الإنساني، والإلهي، والعالم، فلم تشر نصوص وأدبيات المصري القديم إلى الإنساني والعالم بوصفهما وجودين مؤقتين، بل وجودهما مثّل شرطاً لتجلي الإلهي في الفعل الإنساني وأبدية النظام الكوني. وقد ألغى المصري القديم المسافات بين دوائر الوجود الثلاث بأنسنة الإلهي وبتأليه الإنساني، أما العالم فلم تكن له طبيعة واحدة فهو مجال مفتوح مشترك بين الإلهي والإنساني.
ومثل الموت وطقوسه وشعائره محورا رئيسيا في كتب المصري القديم المقدسة، فهل كان أن يكون الموت خطوات في طريق الأبدية؟ أم أنه بداية لرحلة الفناء؟ هل اعتقد المصري القديم في نهاية العالم وفنائه؟ هل النصوص التي تركها لنا المصريون القدماء مدونة على الجلود والأكفان والتوابيت وحوائط المقابر والمعابد وأوراق البردي تصلح أن يطلق عليها "كتاب الموتى"، وتكون حجة لبعض المستشرقين أن يسموا الحضارة المصرية القديمة بأنها "حضارة موت" أم أن الأمر يحتاج إلى بعض التبصر ونحن نقارب طقوس وشعائر الموت عند المصري القديم، وكيف اعتبره رحلة "الخروج إلى النهار"؟ وهل هذه الطقوس التي كانت تستغرق من المصري القديم أربعين يوما بداية من خروج النفس "الكا" ويليه" الروح"البا" من الجسد، مرورا برحلة التحنيط التي تحاول أن تحفظ الجسد حتى يكون مهيئا لرجوع الروح إليه مرة أخرى في الحياة الأخرى التي هي امتداد للحياة الدنيا وانتهاء بإعداد المقبرة بكل ما يحمل معنى الحياة من أطعمة ومشروبات وحبوب يمكن زراعتها جين تستيقظ الروح وتماثيل لأفراد العائلة والخدم حتى يكونوا جميعا في انتظاره ساعة عودة الروح مرة أخرى؟ هذه أسئلة جوهرية تجدر الإجابة عنها ونحن نقارب موضوعة" طقوس وشعائر الموت لدى المصري القديم.
وسوف تنقسم الدراسة إلى عدة محاور تدور حول فلسفة الموت والحياة لدى المصري القديم، وصراع الخير والشر، ونظام "الماعت" لتحقيق العدالة الاجتماعية، وطقوس الدفن ومراسمه، ثم مراحل التحنيط وأسراره، وأخيرا كتب الدين المصري القديم..كتاب الخروج إلى النهار أنموذجا، مع خاتمة تكشف ما توصلت إليه الباحثة.
وقد اعتمدت الباحثة على المنهج الوصفي التحليلي لقراءة هذه الشعائر بصفتها الأنثربولوجية.
فلسفة الموت فلسفة الحياة
لقد وعى الإنسان الأول خطورة الموت وبين موقفه منه بأشكال متعددة، فالمصري القديم لم يعتبر الموت نهاية للحياة، بل جعل من الحياة بعد الموت امتدادا للحياة الدنيا؛مما دفع الإنسان إلى أن يحشد كل طاقته ليواصل الحياة الأخرى بعد الموت، حتى أن المصري القديم يضع في مقبرته كل ما يجعله يستعيد حياته الأولى في الدنيا، يضع كل شيء بالمعنى الإجرائي، حتى طعامه وبذوره وعبيده يصنع لهم تماثيل صغيرة(الأوشابتي)(1). ويضعها معه في المقبرة، حتى إذا استيقظ من موته تعود إليه روحه، وتتعرف على جسده الذي حافظ عليه بالتحنيط، ويتعرف على تفاصيل عالمه الاجتماعي. وما محكمة "أوزير"(2). إلا تجسيدا لهذا المعنى العظيم، ووعيا بفلسفة الموت.
أما الموت في الحضارة السومرية فتجسده ملحمة "جلجامش" الذي دخل مغامرة البحث عن "عشبة الخلود" بعد موت صديقه "إنكيدو" ، ووعيه بخطورة الموت الذي يمكن أن يغيب الإنسان، ويقطع العلاقة معه،"فالإنسان البدائي الذي ابتكر أساطير الفينيق وعشتار وتموز وغيرها، إنما فعل ذلك ليؤمن لنفسه الخلاص من نهاية محتومة يتجاوزها للعودة إلى الحياة"( 3).والأساطير التي أنتجها العقل البشري في فترة متقدمة من عمر الإنسانية اتخذت من الموت موضوعا عالجته بطرق شتى، اختلفت من حضارة لأخرى،لكن يبقى أن:"الأساطير تعرضت إلى أصل الموت، وربطت ظهوره بارتكاب الإنسان الأول أو الجماعة الأولى لخطأ يتعارض مع الأوامر والوصايا الإلهية.أو نتيجة سوء تقدير للاختيار بين الموت والخلود"(4).
ولقد ناقش كثير من الفلاسفة موضوعة"الموت" ورمزيتها باعتبارها الخطر الأكبر الذي يهدد الإنسان ويشعره بذلك القلق الوجودي وما يمثله الموت، "فكما أن موت شخص ما ليس هو موت كيان عضوي فإن حياة الشخص ليست هي أيضا مجرد ظاهرة عضوية، فلكي نكون أشخاصا لا بد من أن نوجد فيما سنشير إليه حاليا من أنه نسيج من العلاقات مع أشخاص آخرين"(5).
فالإنسان يكون إنسانا حين يعيش داخل وسط اجتماعي؛ وربما هذا ما دفع جلجامش إلى أن يتشارك شعبه متعة الأكل من "عشبة الخلود"؛ لذا من المهم أن "يُفهم الموت أولا أساسا على أنه تقطع هذا النسيج من العلاقات بين الأشخاص، وعن هذا الطريق يصبح الموت هاما للتجربة فالذي نجربه أو نمارسه على أنه الموت ليس هو مجرد موت الآخر، ولكن التمزق المفاجئ لهذا النسيج الهش للوجود"(6).
أما الموت بالنسبة للشعر فقد كان حاضرا بقوة كموضوع طوال التاريخ الأدبي للشعر العربي والعالمي، ففي المدرسة الكلاسيكية يعتبر الموت نهاية حتمية، في حين أن المدرسة الرومانسية نظرت إلى الموت نظرة مغايرة، فهو""يغدو منقذا من عذاب الحياة والجسد ومن شرورها، وقد صور الشعراء عالم ما بعد الموت على أنه الموعد المجهول الجميل، حيث يتخلص الإنسان من المفارقة المؤلمة بين طموحاته والصراع لتحقيقها، وحيث يكون في عالم لا صراع فيه ولا حقد ولا حسد ولا كراهية"(7).
ويتخذ الموت شكلا رمزيا، فليس بالضرورة أن يكون موتا فعليا، فالموت في القصيدة الرومانسية قد يكون موت الروح، موت المعنى، فقد" لا يقصد بالموت موتا فعليا، يعني بها الموت الرمزي أو الموت عن العالم الذي يفرضه عليه تعبده لفنه.. إنه الانطواء على الذات والرضا بجميع ألوان العذاب"(8).
كذلك انشغل الشاعر المعاصر بموضوعة"الموت" كمرادف لقلق الذات الشاعرة تجاه الوجود، واعتبره انحيازا جماليا يعبر عن صراع الذات الشاعرة وجدلها مع ما هو خارج حدودها، فليس بالضرورة أن يكون الموت هو تغييب جسد الشاعر بقدر ما قد يكون تغييب معنى من المعاني التي ينحاز إليها، فبالتعبير عنه، أي الموت، يواجه الوجود و:"يقتل ديمومة القلق لأن هذه الموضوعة تبدد الزمن ولا تترك فراغا عند الشاعر للغرق في لجج القلق كذلك انكب الشاعر على بناء اللحظة، وجسدها، وخلق منها زمنا متكاملا عمل على استحلابه حتى آخر نأمة للابتعاد النفسي عن مواجهة القلق"(9).
كذلك يدفع القلق من الموت الذات الشاعرة إلى التأمل، تأمل ما هو عميق فيها، في محاولة لفهم العالم، حيث "يصبح الموت ملازما للانفعال والتأمل في الشعر المعاصر لأنه ملازم للإحساس بالزمن فرديا وحضاريا، حيث العذاب الجسدي يتضامن مع الغياب الحضاري"(10).
وكما أشرنا فإن المصري القديم لم ير في الموت فناء للعالم، بل بداية الرحلة إلى الأبدية، حيث يعيش الإنسان حياة أخرى هي امتداد للحياة الأولى التي فارقت فيها الروح الجسد. يرى عالم المصريات يان أسمان بأن المصريين لم يتقبلوا الموت فعلًا، ولكنهم أيضًا لم يقصوه. فالموت وجد أمام أعينهم بالفعل في شكل متعدد، وعلى عكس ما يبدو لنا في شكل لا نقبله أيضًا. وفي الحضارة المصرية يمكن للمرء أن يلاحظ بشكل لا يوجد في أي حضارة أخرى، ما يسمى، عدم تقبل الموت، وكن في الوقت نفسه وضعه في مركز كل الحواس والسعي... وجعله موضوعاً للتكوين الحضاري بطرق متعددة. لقد كره المصريون الموت وأحبوا الحياة(11).
إن فلسفة الموت التي يؤمن بها المصري القديم تؤكد أن الموت ليس النهاية المطلقة والأكيدة للحياة وللكائن الحي، بل هي رحلة مؤقتة إلى أرض الأحياء، حيث الأبدية والديمومة، ولهذا لم تكن العلاقة مع المتوفى تنتهي أبداً بيوم دفنه، بل تقام خدمة دائمة للمقابر ومدها بالقرابين من خبز ومشروبات وزهور، وهذه الخدمة قد يقوم بها أهل المتوفى أو يقوم بها كاهن نيابة عنهم. وفي الأعياد كان أهل المتوفى يحرصون على مشاركة موتاهم طقوس الاحتفال بهم، وأنهم يذكرونهم ولم ينسوهم أبدا حتى يلاقوهم في الأبدية عندما يرحل بهم الموت في رحلة الخلود. وكان المصري القديم يحتفل في شهر"بؤونة"(12) حسب التقويم المصري في عيد"الوادي الجميل" يترك الإله "آمون"(13) معبده في الشرق، حيث مدينة الأحياء، ويذهب إلى البر الغربي حيث مدينة"الموتى" لزيارة المعبد الجنائزي لحتشبسوت في الدير البحري والمعابد الجنائزية الأخرى، يرافقه جمع كبير من أهل طيبة حاملين معهم باقات الزهور وأقفاص الفاكهة ولحوم الشواء مع حشد من الراقصين والعازفين والمداحين ويقضون ليلتهم في المقابر لتتاح الفرصة لأرواح الموتى للمشاركة في الاحتفال بالعيد(14).
ليس هناك أدل على فلسفة المصريين تجاه الموت، ورؤيتهم لعالم الأبدية وأنه امتداد لعالم الدنيا من محاكمة الموتى، أو ما يُسمّى في أدبيات علم المصريات بنظام"الماعت"(15)، فحين يموت الإنسان تعقد له محاكمة يتكون قضاتها من 42 قاضيا ممثلون عن عدد الأقاليم المصرية، يترأسهم الإله"أوزير" ويوقف أمامهم المتوفى؛لتحاسبه الإلهة "ماعت" إلهة العدالة التي تمسك بيدها ريشة تضعها على رأس المتوفى، وتمسك بيدها الصولجان؛ ليقسم وهي على رأسه قسمه الذي ينفي فيه عن نفسه ارتكابه لأي فعل مشين، كما يقسم على اهتمامه بالضمير والعدل الاجتماعي والشرف الأخلاقي، ويكون جالسا بجوار "ماعت"الإله "تحوتي" إله الحكمة والكتابة يسجل أعماله، وبعد الانتهاء من قسمه، يتم ميزان قلبه على كفتي ميزان العدالة، فإذا ثقل قلبه أمام ريشة "ماعت" يمنح بركات الآلهة، ويعبر للعالم الآخر، وإذا خفَّ قلبه أمام ريشة"ماعت" يلقف الوحش المتربص الذي يمثل الجحيم ذلك القلب، ويذهب إلى مصير مغاير(16).
ويتضمن قسم المتوفى أمام محكمة"أوزير" ونظام "ماعت" اثنين وأربعين قسما جاءوا جميعا في صورة"النفي" وكأن نفي النفي إثبات كما يقال في فقه اللغة العربية، فالمتوفى لا يقسم أنه فعل أمرا ما، بل ينفي عن نفسه فعل الأمر المفارق للقيم والأخلاق التي وسمت الحضارة المصرية القديمة، كأن يقول المتوفى: أقسم أني لم أقتل، ولم أحرض على القتل" "لم أرتكب الزنا، ولم أزن بامرأة جاري" "لم ألوث ما النهر" وهكذا.
لقد قدم يان أسمان تصورا مختلفا ومغايرا لمعظم ما طرحه علماء"المصريات" من تحليله لفلسفة الموت عند المصريين القدماء،حيث رأى أن تصورات العالم عن الموت تشكل أساساً مهماً للغاية لفهم طبيعة كل حضارة، فتجنب الموت أو تجنب الحديث عنه إحدى سمات الحضارة الغربية كمثال، فالحياة هي البدء والمنتهى بشكل أساسي، لا يعني ذلك أنه لا وجود للموت، بل ربما الموت هو الدافع وراء التقدم والشر الذي تحاول الحضارة الغربية المبنية على الثورة الصناعية صدها من خلال تطور آليات تجعل حياة الإنسان أسهل وأفضل ربما تجنب الموت في تلك الحالة يجعل الاستفادة القصوى من الحاضر هو كل الأمل الممكن فتكون الحضارة في المقابل حضارة باحثة عن رفاهية الإنسان في حياته الوحيدة التي سيعيشها، فيما لا يشغل الموت حيزًا كبيرًا في الحضارة الغربية، وفي المقابل رأى أسمان أن حضارات الشرق الأقصى ظهرت فيها مفاهيم مثل استنساخ الأرواح التي تجعل الموت مجرد مرحلة مكملة للحياة نفسها لا تنتهي الحياة معه بشكل كامل بل تبدأ في صورة جديدة مما يجعل النظرة الكلية للحياة مختلفة جدًا عن التصور الغربي، وفي الحضارة المصرية يرى أسمان تفردًا في التعامل مع الموت، فالموت بالنسبة للقدماء المصريين كما يذكر أسمان تم تجنبه وتقديره في ذات الوقت، تم إعداد الإنسان لرحلة يجتازها عبر هذا الموت(17).