القاهرة 25 مايو 2022 الساعة 12:21 ص
د.هويدا صالح
هل كتب نجيب محفوظ النقد الأدبي؟ هل امتلك عقلا ورؤية نقدية تخصه هو دون غيره؟ هل كتب نقدا أدبيا تنظيريا؟ أو حتى كتب مقاربات تطبيقية حول أعمال كتاب آخرين عاصروه؟ كيف نظر نجيب محفوظ إلى النقد الأدبي ونقاده؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها الباحث والناقد المصري تامر فايز في كتابه" نجيب محفوظ ناقدًا ..مقاربة تأويلية لحواراته في المجلات الأدبية" بمقدمة للناقد الجليل أحمد شمس الدين حجاجي، ذلك الكتاب الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ مما يؤكد أن مقاربة أعمال نجيب محفوظ عالم متجدد ينهل منه نقاد الأدب على مر العقود ولا ينضب، إنه نهر متعدد الروافد يسير في طريقه وكل من أراد مقاربة نقدية لأعماله يجد مدخلا أو رؤية تخصه، فلا يشعر القارئ مع إبداعه المتعدد العطاءات بمقولة "إن فلان قُتلت أعماله بحثا"، فكل يوم يأتينا بجديد عن أعمال نجيب محفوظ ومشروعه الإبداعي الخلاق والمتميز والذي لا يشبه إلا نفسه.
وقد حاول فايز أن يفسِّر أعمال نجيب محفوظ من خلال محاورات النقاد والأدباء معه؛ ليكشف – من خلال أحاديثه معهم – تفسيره وتفسير أعماله، وليكشف عن جانب مهم لم يتحدث عنه نجيب محفوظ ولا نقاده؛ وهو، نجيب محفوظ ناقدًا؛ وذلك عبر مقاربة تأويلية لحواراته في المجلات الأدبية.
تناول المؤلف نجيب محفوظ ساردًا وناقدًا للذات، ومنظرًا ومؤرخًا للأدب، كما تناول تفسيره للمصطلحات والمفاهيم الخاصة بنقده، ورأيه في الفن عامة والأدب خاصة.
ويشير أحمد شمس الدين حجاجي في تقديمه للكتاب أن :" تامر فايز أدرك أن خطاب نجيب محفوظ وسائليه يتحول من كلام عادي إلى خطاب رمزي تحمل رسائله العديد من اللمحات الكاشفة عن شخصيته ومدى ارتباطه بعصره وفنِّه. وقد تبدَّي – في هذا الكتاب- ناقدًا تنظيريًّا، متمكنًا من مقولاته وعمق اطلاعه على كتابات النقاد".
وهذه الحوارات التي قام فايز بتحليل خطابها المعرفي والثقافي تؤكد أن نجيب محفوظ موسوعة ثقافية يعرف ما يدور في عصره وثقافته؛ فهو محيط بثقافة عصره وبفنونه.
ويطرح الكتاب تساؤلات هامة حول محتوى هذه الحوارات وهل يمكن أن تفيد في فهم الصورة الحقيقية للأديب ولأدبه؟ وهل ما ورد فيها من مضامين يستحق أن يعاد نشره مجمَّعًا وأن يُدرس للعثور على دلالات قيمة فيه؟
ولقد اتخذ الكاتب آليتين في التعامل مع حوارات محفوظ: تتمثل أولاهما في البحث عن متن جديد يصلح لإقامة دراسة من هذا النوع عليه، وقد وجده قابعًا في بطون أمهات المجلات الأدبية والثقافية العربية على مدار ما يزيد على نصف قرن، يبدأ من العقد الأول في منتصف النصف الثاني من القرن العشرين، وصولاً إلى مثيله في الألفية الجديدة.
تمثل هذا المتن في مجموعة الحوارات التي أدلَى بها نجيب محفوظ في الفترة من 1957 حتى عام 2005، وهي تكشف عن زخم الثقافة العربية آنذاك.
أما الآلية الثانية، فقد تمثلت في كيفية التعاطي النقدي مع هذا المتن الثَّري/ حوارات نجيب محفوظ؛ ليس التكرار الاجتراري، بل بطريقة إعمال الفهم التأويلي في تبيان ما تحويه متون تلك الحوارات.
وإذا ما فَهِم المتلقي التأويلَ بمعناه النقدي المتواتر على أنه نوع من التفسير والبحث عن أوجه مضمرة في الخطاب لا تتبدى في القراءة التجزيئية المسطَّحة، فإن هذا قد أثمر بطبيعته عن الوصول إلى النتيجة الأساسية لهذه الدراسة؛ تلك التي تمثلت في وصف نجيب محفوظ بالناقد، ووصف ما ورد في حواراته من مضامين بالخطاب النقدي.
وقد قسّم المؤلف الكتاب إلى قسمين، الأول أفرده لدراسته التي تكونت من خمسة فصول وخاتمة، فضلاً عن مقدمتين له وللدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، أما القسم الثاني فتضمن الحوارات التي عثر عليها فايز في عدد من المجلات الأدبية وكان عددها تسع وعشرون حواراً، أوردها كاملة مشفوعة بتواريخ وأماكن نشرها، فضلاً عن أسماء المحاورين له مثل: غالي شكري، وفاروق شوشة، ومحمد برادة، ومحمد صدقي، وعبد الرحمن أبو عوف، ومصطفى عبد الغني، وسلوى النعيمي، وأسامة عرابي وعايدة الشريف وعبد التواب عبد الحي، وآخرون..
وقد كشف المؤلف عن صور ودلالات النقد النظري والتطبيقي والثقافي في حوارات محفوظ، محاولا فيها الكاتب أن يستقصي العناصر التي امتلأت بها حوارات صاحب نوبل حول ذاته، من أجل فهم دلالة سردها، والتي تتبلور في جوانب يمكن رصدها في مجموعة من السمات الخاصة بالشخصية وردود أفعالها.
ويشير فايز إلى أن محفوظ بدا في الحوارات مثقفاً عاماً ملماً بجوانب حضارته كافة، والحضارات الأخرى، يجمع في خلفياته الثقافية بين التوجهين، العربي والغربي؛ وهو ما أسهم في تخليق صوره النقدية التي ظهر عليها، فتمكن عبر هذه الخلفيات من نقد الثقافة والفنون والآداب، وقد أضفى بوجهات نظره وآرائه النقدية المتنوعة مجموعة من التأثيرات التي يصعب حصرها، لكنها تبدت على كل من كتب عنه من النقاد ودارسي أدبه.
كما يتحدث فايز عن محفوظ بوصفه مؤرخاً للأدب، وقد أشار صاحب نوبل إلى سيطرة نوع أدبي دون آخر، وهو ما اتضح في نظرته لسيطرة الأقصوصة خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، واتجاهه لكتابتها، كما عبّر عن رأيه في القص الشعبي، وعلاقته بألف ليلة وليلة والموقف منها، الذي انحصر في شق أخلاقي، حيث لم يكن هناك من يستطيع أن يذكرها في حديثه، وربط ذلك التعامل الخفي معها بمستوى تلقيها عبر مراحل عمر الفرد، بخاصة فترة المراهقة، وذكر محفوظ أنها تحتاج إلى أكثر من قراءة؛ لأن مطالعتها في تلك الفترة العمرية لا يمكن من فهمها، فهي تحتاج إلى الكثير من النضج والوعي.
وحول تأثيرات النقد المحفوظي في النقد الأدبي العربي، وهو عنوان القسم الثاني أشار فايز إلى دراستين مهمتين استفادتا من آراء محفوظ التي تناثرت في حواراته، الأولى للناقد الدكتور غالي شكري في كتابه «المنتمي» الذي تصدّر فصوله تصريح محفوظ بأنه هو كمال عبد الجواد في الثلاثية، وقد ظهرت تأثيراته واضحة في كل أطروحات الكتاب وأفكاره، ومنها اعتماد غالي على وجهة نظر محفوظ في تقييم الجيل الأدبي السابق عليه، ومدى تأثيره في إبداعه، مشيراً إلى أن شخصيتي أحمد شوكت وعدلي كريم اللتين ظهرتا في نهاية الثلاثية ما هما إلا لقاء فريد دار بين نجيب محفوظ وسلامة موسى.
أما الدراسة الثانية فكانت لنبيل فرج، وقد اعتمد فيها بشكل شبه كامل على ما ورد في حوارات محفوظ حول قضايا مثل الحب والموت والثورات المصرية التي عاشها، وموقفه من العدالة الاجتماعية والحرية الفردية وموقفه من تحويل أعماله الأدبية إلى أفلام سينمائية.
وأشار المؤلف إلى أن تأثيرات آراء محفوظ لم تتوقف عند هاتين الدراستين الكبيرتين فقط، لكنها امتدت إلى كثير من الدراسات المنشورة في الدوريات العلمية التي جعلت من مضامين حواراته فرضيات أساسية قامت عليها.
وأخيرا قامت هذه الدراسة على فرضية أنَّ تلك الحوارات الأدبية التي أُجريت مع محفوظ أو غيره من المبدعين المرموقين تمثِّل جزءًا من تاريخ الأدب والنقد العربي الحديث وأُطر تشكلهما، ووثيقة ثقافية عامة وأدبية ونقدية أساسية تستحق الدراسة والتحليل سواء في حدِّ ذاتها.
|