القاهرة10 مايو 2022 الساعة 12:14 ص
د. هويدا صالح
"صديقتي المذهلة" هي الجزء الأول من رباعية"نابولي" للروائية الإيطالية التي أثارت هويتها الحقيقية ضجة، ليس في إيطاليا وحدها، بل في أمريكا وبقية أوربا، فهي تكتب تحت اسم"إيلينا فيرانتي" المستعار، والتي ترجمها المترجم السوري معاوية عبد المجيد وصدرت عن دار الآداب ببيروت.
تحكي الرواية قصة صديقتين من حي فقير في خمسينيات القرن الماضي، حتى بدايات الألفية الثالثة،حيث عاشتا ستا وستين سنة في حي فقير من أحياء نابولي، المدينة الإيطالية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي تعاني الدمار والفقر، لتقوم الكاتبة بتأمل ما طرأ على الحياة الاجتماعية عقب انتهاء الحرب من تغيرات سوسيوثقافية كبيرة، مستغلة حياة البطلتين ومحيطهما الاجتماعي، لرصد تلك التغيرات الكبرى التي طالت الحياة على كل المستويات.
يدور السرد في النص على لسان الراوية إيلينا أو لينا التي ينطلق سردها حينما تغيب ليلا التي بلغت الشيخوخة دون أن تخبر صديقة عمرها أو أحدا من أسرتها ومعارفها عن مكان تواجدها، فتعود الراوية بالفلاش باك لتسترجع كل ذكريات طفولتها وشبابها وبقية عمرها مع صديقتها المختفية:"صديقة مذهلة تربح وتسيطر وتسود. كان ثمّة شيء ما، منذ تلك الأعوام البعيدة، يمنعني من أن أتخلّى عنها. لم أكن قد عرفتها جيّدًا، ولم نكن قد تبادلنا أيّ كلمة رغم منافساتنا المتواصلة، في المدرسة وخارجها. لكنّ هاجساً غامضاً كان يُشعرني بأنّني لو هربتُ مع الأخريات لتركتُ عندها قطعة منّي لن أستطيع استردادها أبدًا"(ص33).
ليلا التي أخرجها والدها من المدرسة لكي تعمل في ورشة تصنيع الأحذية وايلينا التي أكملت تعليمها بتشجيع من معلمتها أوليفييرو تكملان حياتهما معا رغم الفروقات الاجتماعية التي أحدثها تعليم إيلينا وخروج ليلا من المدرسة لتتزوج من ابن الدون أخيل اللحام ستيفانو. صارت العلاقة بين إلينا وليلا مربكة وملتبسة، تنتابها لحظات من الحسد والغيرة والكثير من المحبة والتواصل، ورغم كل هذه المحبة التي ربطت بين روح الفتاتين الصغيرتين وفي رحلة حياتهما الممتدة تشعر إيلينا بأن ليلا تسيطر عليها حتى في لحظات بعدها.
تصف إيلينا صديقتها بالذكاء الحاد وبنظراتها التي تضيق كلما فكرت بعمق وذكاؤها الحاد رغم عدم إكمالها تعليمها، بل اعتبرت الراوية أن عدم إكمال تعليم ليلا كان رحمة بها، فذكاؤها الحاد لو تطور أكثر من ذلك لغير مسار حياتها، بل لصنع منها أسطورة في الشر.
الهامش الاجتماعي والسياسي في الرواية
تشتغل الرواية على الصراع الاجتماعي والطبقي بين الأثرياء الذين يتاجرون بأحلام الفقراء، أسرة (سولارا) المرابية وبين الفقراء الذين يتوقون إلى تحقيق أحلامهم (أسرة ليلا ).
يظهر في الرواية صراع الطبقات الاجتماعية، ومحاولة الطبقة الثرية الحفاظ على مكتسباتها الاقتصادية من ناحية والتيارات السياسية (اليسار واليمين الإيطاليين) والفاشية التي وضعت إيطاليا تحت حكم المافيا من ناحية أخرى.
يتابع القارئ في حبكة درامية معقدة سيرة الإنسان في المكان، حيث ينهض المكان كبطل ثان بجوار الراوية(لينا) وصديقتها ليلا؛ لنتعرف من خلال الوصف الشيق واللغة الوصفية البصرية على حياة الناس وصراعهم وقلقهم الوجودي في الصمود أمام هيمنة الفقر والقهر والمافيا التي تتاجر بحياة الناس؛ لتتشابك علاقات سكان الحي على اختلاف أعمارهم وأحوالهم ..
من أجل الصمود في وجه مآسي الحياة.
تختار الراوية لحظات إنسانية صغيرة لتصور ذلك الصراع الطبقي دون الوقوع في اللغة الخطابية والأيديولوجيا الزاعقة، فتختار لحظات ليلة الاحتفال برأس السنة، حيث حاول صبية الحي الفقراء أن يتفوقوا على أولاد (سولارا) الأغنياء بتجميع ترسانة من الألعاب النارية تفوق ما عند الأسرة الغنية.
تحكي الرواية تفاصيل حياة إلينا وليلا في هذه المدينة التي تتسم بالعنف، ليس على مستوى السياسي والاقتصادي فقط، بل على المستوى الاجتماعي، فتنحصر أحلام الفتاتين في مغادرة هذا الحي الفقير العنيف إلى حياة أخرى أكثر إنسانية وهدوءا ومحبة، لكن الحياة لا تعطي للناس كل ما يحلمون به، فيظل الصراع دائرا، سواء على مستوى أحلام الأفراد(إلينا وليلا) أو مستوى الجماعة الشعبية (سكان الحي ).
الخطاب النسوي في الرواية
تقدم الرواية خطابا نسويا واضحا، عبر رصد حياة النساء وتفاصيلها اليومية وسعي هؤلاء النساء الدءوب إلى تسيير حياة أسرهن وعبور الأزمات التي تمر بها الأسر دون أن يدفعن ثمنا باهظا، لكن واقع الحال يكشف عن الثمن الباهظ الذي تدفعه النساء من أرواحهن في رحلة العبور بأسرهن إلى بر الأمان.
إن رؤية العالم التي تصبغ خطاب الراوية(إلينا) تكشف عن رؤية نسوية واعية بذاتها، واعية بوضعية المرأة في مجتمع إيطالي فقير خارج من الحرب، فتكشف الكاتبة المسكوت عنه في المجتمع، حيث تدفع النساء الثمن الأكبر، الثمن الباهظ، فيقع عليهن قهر الفقر والاستبداد من ناحية وقهر المجتمع الذكوري من ناحية ثانية.
وتنطلق الراوية بسردها حينما تختفي ليلا تماما من الحياة، تتعمد أن تخفي آثارها تماما، لا صورة، لا متعلقات شخصية، لا ملابس، لا شئ، ويبحث عنها ابنها، وحينما يعجز عن الوصول إليها يتصل بصديقتها وتوأم روحها وشريكة رحلة حياتها إلينا، فتنطلق إلينا في السرد وتستعمل تقنية الفلاش باك من أجل استقصاء سيرة حياتها مع صديقتها المذهلة.
الجدير بالذكر أن المؤلفة الحقيقية تبرر إخفاء هويتها الحقيقية بأنها ليس من الضروري أن تغير حياتها لمجرد أن تضع بين أيدي القراء كلماتها، فلا ضرورة-في رأيها- للكشف عن تفاصيل حياتها واسمها وظروف معيشتها للقراء.
دخلت (إيلينا فيرانتي )قائمة المائة شخص الأكثر تأثيراً في العالم للعام 2016 وفق صحيفة نيويورك تايمز، حيث وصفت بأنها" واحدة من أعظم روائيات زماننا"، وقد حرص المترجم على أن يثبت تلك الجملة على غلاف الجزء الأول(صديقتي المذهلة).
وقد تُرجمت رباعية"نابولي" إلى العديد من لغات العالم وحققت الكثير من الطبعات وملايين النسخ حول العالم، وصُنفت كأفضل رباعية ضمن روائع الأدب العالمي، وقد ترجم معاوية عبد المجيد الأجزاء الأربعة إلى العربية، فجاءت الأجزاء على الترتيب : صديقتي المذهلة، حكاية الاسم الجديد، الراحلون والباقون، حكاية الطفلة الضائعة).
|