القاهرة 09 سبتمبر 2021 الساعة 02:17 ص
د.هويدا صالح
كلما نغوص في بحر كتب التراث العربي نكتشف المزيد من الدرر الكامنة. فلم تقتصر كتب التراث على كتب الفقه والأحاديث واللغة ، إنما ألف علماء التراث في شتى فروع المعرفة والعلم، وخاضوا غمار موضوعات طريفة وشائكة، ما بين الحديث عن العشق والحب العذري والطرف والنوادر. واتسمت هذه المؤلفات بأنها كتب ضافية شاملة في مختلف ضروب المعرفة وعرفت باسم الموسوعات.
فهي التي حفظت للأمة العربية تراثها الثقافي والأدبي، أخبارها، نوادرها، علومها واكتشافاتها جمعت هذه الكتب بين ضخامة الحجم ونفاسة المحتوى، ولا تخلو مكتبة أي باحث عربي من كتاب أو كتابين من هذه النفائس. وقد انتشر التدوين ومعه انتشرت الثقافة العربية الإسلامية وأرخ الباحثون لمختلف مراحل تطورها، ولم يتوقف التأليف والبحث منذ أوائل القرن الثالث الهجري حتى أواخر القرن التاسع وبداية العاشر، لم يترك العلماء العرب باباً من أبواب المعرفة إلا طرقوه ووثقوا له، رصداً وجمعا وتأليفا.ظهرت الموسوعات متتابعة ومتلاحقة، يلاحق بعضها بعضاً، وكانت امتداداً طبيعياً ومكملاً لتطور العقل العربي والإسلامي، ومسيرة العقل الإنساني.
ومن أهم باحثي ومؤلفي الموسوعات العلمية جلال الدين السيوطي ، فهو من أبرز معالم الحركة العلمية والفكرية والأدبية في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، حيث ملأ نشاطه العلمي في التأليف مختلف فروع المعرفة في هذا الزمان، من تفسير وحديث وفقه وتاريخ وطبقات الشعراء والأدباء ونحو ولغة وغيرها. كان موسوعي المعرفة والثقافة، أعانه على كثرة تأليفه انقطاعه التام للعمل وهو في سن الأربعين حتى وفاته، وثراء مكتبته وغزارة علمه وكثرة شيوخه ورحلاته، وسرعة كتاتبه. وقد بدأ التأليف وهو في سن السابعة عشره من عمره، وتفرغ له.
له مؤلف مميز ومغاير لبقية كتبه ومؤلفاته، هو كتاب :" نزهة الجلساء في أشعار النساء" وهو كتاب نوعي يجمع فيه الكاتب أشعار النساء وأخبارهن على مر العصور.
وقد ظل الصوت الشعري النسائي مهدورا عبر عصور القصيدة العربية، رغم وجود أسماء شاعرات مجيدات كثيرات مثل الخنساء وليلى الأخيلية والفارعة ورابعة العدوية، وولاّدة بنت المستكفي، لكن الباحثين تعمدوا ألا يدخلوا الشاعرات العربيات ضمن نسق فحول الشعراء، بل تقصدوا ألا يدخلوا إلا الإماء والجواري والقيان اللائي لم يصلنا منهنّ سوى شوارد من الأبيات والمقطّعات كما في "الأغاني" للأصفهاني. فمعظم الأشعار المنسوبة للنساء في معظم الكتب والمختارات الشعرية الخاصة بهنّ، مثل: "أشعار النساء" للمرزباني، و"الإماء الشواعر" للأصبهاني، و"نزهة الجلساء في أشعار النساء" للسيوطي، و"الحدائق الغناء في أخبار
النساء للمالقي. وهذه المختارات في الحقيقة لم تعبر سوى مساهمات هؤلاءاالشاعرات في مجالس الأنس والأدب، مما قدم صورة ذهنية عن الإنتاج الأدبي للنساء أنه يقتصر على الشعر الوجداني الذي يكرس للمتعة والعاطفة، ونزع عنه صفة " الفحولة " التي كانت ميزة يوصف بها الشاعر المجيد، فكان العرب يقولون فلان شاعر فحل. لا شك أن هناك القليل من الكتابات أكثر تخصصاً في أدب النساء والشاعرات والمغنيات في الأدب الموسوعي العربي، غير التي وردت كشذرات في كتب التراث المختلفة، سواء في العصر العباسي والعصر الأموي والعصر الأندلسي الذي أخذ بالكثير من تقاليد غناء النساء ونظمهن للشعر وإجادتهن للغناء.
وقد حقق كتاب"نزهة الجلساء في أشعار النساء" عبد اللطيف عاشور، ونشر في "مكتبة القرآن " بالقاهرة بدون تاريخ نشر(د.ت). والمخطوطة الأصلية من الكتاب محفوظة في المكتبة التيمورية.
وقد أراد السيوطي أن يقدم لنا جملة من أخبار الشواعر المحدثات، لذلك صرف عن الشواعر العربيات اللواتي كنّ في الجاهلية وصدر الإسلام وعصر بني أمية، لأن ابن الطرّاح ألّف فيهن كتاباً، جاء في مجلدات عدة..
وقد ترجم السيوطي لتسع وثلاثين شاعرة، بعضهن مشرقيات وأكثرهن أندلسيات، وقد رتب أسماءهن على التسلسل الهجائي وساق الأشهر من أخبارهن وأشعارهن، التي تنوعت أغراضها، بأسلوب سلس بعيداً عن التعقيد والإطالة.
كان كتاب السيوطي هذا من الكتب القليلة التي صنفت في أخبار وأشعار النساء، قد استقى المؤلف مادة كتابه من كتب كثيرة لعل من أهمها:" كتاب ابن الطراح"، كتاب "المغرب في حلي المغرب"، "المطرب من أشعار أهل المغرب"، "الوافي بالوفيات"، "تاريخ ابن النجار".وقدم للقارئ كتاباً لطيفاً في أخبارهن وأشعارهن..
يبدأ الكتاب بالشاعرة أم الكرام وهي بنت المعتصم بالله أبي يحيى بن معن، كانت تنظم الشعر، عشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية، وهي مدينة بالأندلس، من أعمال فالنسيا على ضفة البحر شرقاً، المعروف بالشعّار، وعملت فيه الموشحات ومن شعرها فيه:
"من السريع
يا معشر الناس ألا فاعجبوا
مما جنته لوعة الحب
لولاه لم ينزل ببدر الدجى
من أفقه العلوي للترب
حسبي بمن أهواه لو أنه
فارقني، تابعه قلبي".
السيوطي في كتابه الصغير الذي يبلغ عدد صفحاته 49 صفحة لأربعين عرض فيها نماذج جيدة من الأبيات المفردة، ومطلع القصائد، وركز فأكثر على نماذج النساء الشواعر من نساء بغداد ومن نساء المغرب والأندلس.
كأنما أراد السيوطي بتأليفه لكتاب نزهة الجلساء أن يفتح أعيننا على لون من الحياة في المشرق والمغرب عصر ذاك قبل أن تسقط بغداد في يد المغول، وقبل أن تسقط الأندلس. وقد نقل السيوطي الصورة كما هي، فلم يكن منهجه انتقائيا، بل كان تجميعيا، حشد فيه كل من وصل إليه ذكرهن من النساء الشاعرات. كما اتصف منهجه بالأمانة العلمية، الطريف أن هذا الكتاب يضم أشعارا جريئة تجرأت فيها النساء على طرح أفكار جريئة عن الجسد والمتعة.
وقد حاول المحقق أن يحافظ على تماسك الأبيات الشعرية، التي نشرها دون أي تبديل، لكنه ترك مكان الجمل التي رآها جريئة نقطا تحفظ لها مكانها في إطار المقطوعة أو البيت (......) دون افتئات على المخطوطة، وتحاشياً لتدمير البنية الشعرية، تاركاً لخيال القارئ الذي يسعى إلى المعرفة العلمية للتراث العربي الأدبي متعة التعرف إلى المعنى في سياقه الشعري كما قال في مقدمته التي قدم بها الكتاب، لكننا نعترض على ما قام به من حذف لجمل رآها جريئة وكاشفة، فليس من حق المحقق أن ينصب من نفسه رقيبا أخلاقيا على الإبداع. وهناك أمثلة كثيرة لكتب التراث العربي التي خاضت مغامرة الدخول في موضوعات شائكة وكتابها كانوا علماء أفاضل وفهقاء أجلاء ولم يتهمهم أحد بعدم الأخلاق مثل كتاب:" الروض العاطر في نزهة الخاطر" للعلامة محمد النفزاوى، و كتاب :"تحفة العروس ومتعة النفوس" للتيجانى، وكتاب :"رشف الزلال من السحر الحلال" و كتاب :"شقائق الاترج فى رقائق الغنج" للإمام جلال الدين السيوطى مؤلف نفس الكتاب الذي نتحدث عنه.وكتاب:" نزهة الالباب فيما لا يوجد فى كتاب" للتيفاشى.
جمع كتاب "نزهة الجلساء في أشعار النساء" أغراضاً شعرية شتى، نجد الحب واللوعة، والرثاء وحسرته والهجاء ولذعته، والوصف وبهجته، إلى جانب الفخر وعزته والاعتذار، ولكنه حوى من الشعر ما يجرح الحياء ويخدش الشعور مما تعافه الفطرة السليمة.
يقول السيوطي في مقدمة كتابه :"هذا جزء لطيف في النساء الشاعرات، المحدثات، دون المتقدمات من العرب العرباء من الجاهليات والصحابيات والمخضرمات، فإن أولئك لا يحصين كثرة".
وممن ذكرهم السيوطي من شاعرات الأندلس أم السعد أو سعدونة الشاعرة،وقد برز اسم أم السعد بنت عصام الحميري في قرطبة الأندلسية التي سطعت فيها شمس العلوم والأدب والتاريخ والفن.. بشكل واسع وتخرج منها العديد من الأدباء والمفكرين والشعراء والفنانين.. ناهيك عن مجموعة من النساء الرائدات اللواتي ذاع صيتهن في مختلف المحافل والمجالس العلمية المتنوعة.. وعالمتنا الجليلة أم سعد القرطبية هي أنموذج مثالي تاريخي “تعد من بين النساء المشهورات بالأندلس وهي من أهل قرطبة وتعرف بسعدونة.
عاشت أم السعد القرطبية في القرن السابع الهجري وتعتبر من أهل العلم والصلاح. نشأت في بيت عرف بالأدب والعلم والمعرفة ورواية الحديث.. تلقت مختلف علوم الشريعة عن علماء أجلاء، وكانت ذات ثقافة عالية وقوة إدراكية متميزة. الشيء الذي جعلها تحضى بمكانة محترمة عند أجلاء وكبار البلد، كما كانت رحمها الله تحب رواية الحديث النبوي الشريف، وتحب كذلك سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحب أخباره وشمائله فقد ذكر الإمام السيوطي في كتابه نزهة الجلساء رواية لها وقال: قال البدر النابلسي في التذييل:" لها رواية عن أبيها وجدها وغيرهما من أهل بيتها وقد أنشدت لنفسها في “تمثال” نعل النبي صلى الله عليه وسلم تكملة لقول من قال:
سَأَلثُـــمُ التِّـــمـثال إِذْا لَـــمْ أجِــد لِلَثْم نَـعْلِ المُصْطفــَى مِن سَبيْل
فقالت:
لَعَلـــــَّنِــــي أحْـــظَى بِتَـــقـــْبيله في جنة الفردوس أسْنى مَقيـل
في ظِل طُـــــــوبى ساكــنا آمنا أُسقى بأكْواسٍ من السَّلســَبيْل
وأَمْســـــح القلــــب بـــه عَـــــلَّه يُسَكِّنُ مَا جاش به من غـــــليل
فطالما استشفى بأطلال مــــن يهواه أهل الحُبِّ في كل جــيـل
وتروي بعض الأخبار أن أم سعد القرطبية لها مجموعة من الأشعار منها ما نقله المؤلف حيث يقول:" أنشدني ابن جابر الوادي آشي عن شيخه المحدث أبي محمد بن هارون القرطبي لجدته سعدونة وأظنها هذه:
آخ الــــــرجــــال مــــــــــن الأبــــا عـــــــــد والأقـــــارب لا تقـــــارب
إن الأقـــــــــــارب كالــــعقــــــــارب أشــــــــد مــــــــــــن العـــــقارب.
كما كانت أم السعد من العابدات الصالحات الذاكرات نشأت منذ صغرها على طاعة الله عز وجل ومحبة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومحبة أهل العلم الذين أخذت عنهم ما تيسر من العلوم.. ويبقى الحديث عن أم السعد القرطبية لا يكاد ينتهي رغم أن معظم المصادر التاريخية لم تذكر عنها إلا القليل.
وقد جمع السيوطي في الكتاب أغراضاً شعرية شتى، وأشار إلى بعض المراجع التي أخذ منها واعتمد عليها مثل البيان والتبيين للجاحظ، زهر الأدب للحصري، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، تاريخ بغداد لابن النجار، وكتاب المغرب في حلى المغرب، إضافة إلى ما ذكره عن مرجع هام لفخر الدين بن مظفر بن الطراح «694 هـ»، يقول إنه جاء في عدة مجلدات رأى منه المجلد السادس فقط، اطلع عليه ولم يأخذ منه، وكان تحت عنوان «الشواعر اللاتي يستشهد بشعرهن في العربية.
وجلال الدين السيوطي هو العلاّمة جلال الدين عبدالرحمن بن الكمال الخضيري السيوطي المولود في أسيوط بمصر سنة 849 هجرية، نشأ يتيماً، ولكنه درج على سنة أبيه في تلقي العلم، وبدأ ذلك على أيدي كبار علماء عصره، فحفظ القرآن الكريم، وهو دون ثماني سنوات، ثم حفظ العمدة ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، ثم شرع في الاشتغال بالعلم، في مستهل سنة أربع وستين وثمانمئة للهجرة.
وقد خصص السيوطي معجماً كبيراً، ذكر فيه الشيوخ الذين تلقى عنهم، أو أجيز منهم، وبلغوا نحو ستمئة شخص، وقد اعتقد السيوطي أنه بلغ مرتبة المجتهدين من الأئمة، كما صرّح هو بذلك. وقد كان السيوطي ذائع الصيت في عصره، وذاع صيته في أقطار العالم الإسلامي، حتى جاءته الرسائل التي تعرض عليه مشكلات فقهية من كل أنحاء الوطن العربي.
وقد أغنى السيوطي المكتبة العربية بمئات المصنفات، ولعل ذلك كان رداً على ما فعله المغول من إحراق للمكتبات الكثيرة مما دفع جموعاً من الباحثين ليعوضوا ذلك النقص الهائل، حتى أصبح هذا العصر عصر الموسوعات وعصر المجاميع، وكان السيوطي واحداً من هؤلاء المؤلفين الموسوعيين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
ـ السيوطي عالم جليل كثير التأليف له نحو 752 مصنفاً في فنون التفسير،الحديث، الفقه، العربية، الأصول والبيان والتصوف، التاريخ والأدب، وظل طوال حياته مكباً على العلم والمعرفة إلى أن توفي سنة 911 هجرية من أهم كتبه: "الكتاب الكبير"و"الرسالة الصغيرة" و أخرجت منها للطباعة أكثر من مائتي كتاب.
ـ قرطبة مدينة وعاصمة مقاطعة قرطبة التابعة لمنطقة أندلوسيا في جنوب إسبانيا وتقع على ضفة نهر الوادي الكبير، على دائرة عرض (38ْ) شمال خط الاستواء اشتهرت أيام الحكم الإسلامي لإسبانيا حيث كانت عاصمة الدولة الأموية هناك. من أهم معالمها مسجد قرطبة.
|