القاهرة 06 ابريل 2021 الساعة 09:56 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
اضطراب الصدمة الثانية.. هي تلك الصدمة التى يصاب بها من كان شاهدا أو مستمعا لتعرّض إنسان للتعذيب والقهر، وفي بعض الأحيان تؤدي إلى مرض الاكتئاب وأحيانا انتحار الشاهد. وهذا هو التعريف الذي عرضه لنا "أحمد خيري العمري" في روايته "بيت خالتي"، ومن يقرأ هذه الرواية ربما سيتعرض لتلك الصدمة الثانية أو حتى ثالثة إن جاز التعبير، بعد القراءة لكل هذا الكم من شهادات التعذيب.
جميع الأعمال الروائية، أو الكتابات غير الروائية، التي كُتبت بعد الثورة السورية وعنها، حتى الآن، والتى تحمل شهادات لمعتقلين استطاعوا الفرار أو البقاء أحياء من المعتقلات السورية، يصفون لنا جرعة مكثفة من القهر والتعذيب والاغتصاب والذل الذي تعرضوا له أثناء الاعتقال، لكن بالنسبة لرواية "بيت خالتي" فهي الرواية التى احتوت على الجرعة الأكثر تكثيفا من هذه الشهادات التى لن يستطيع الكثيرون تحمل حتى قراءتها.
متناقضة الاسم والقعل:
في العادة، جرت الحياة على أن بيت الخالة، ربما فى كل مكان، هو البيت الثاني لأى شخص، والخالة هى الأم الثانية. لكن في الرواية لم يكن بيت الخالة سوى معتقلات النظام السورى التي زادت في ساديتها عن بيت خالات كل العالم، وأطلقت الناس هذه التسمية خوفًا حتى من ذكر كلمة معتقل.
تحكى الرواية عن"يزن" وتُروى االحكاية من خلاله، طالب طب النفس فى جامعة دريسدن في ألمانيا، والذي يكتشف انتحار"أنس" ابن خالته بالشنق في بيته فى برلين. تلك الحادثة ستقلب حياة "يزن".
يزن -في الحقيقة- شخص عادي تماما، بل أنه كان يلقب نفسه بالرمادي من كثرة حياده، لا ينتمي لأي شيء سوى نفسه، فهو كما يقول: أنا رئيس حزب نفسي. لكن بعد واقعة انتحار ابن خالته، سيتحول من شدة الصدمة والشعور بالذنب. كانت من أهم أسباب صدمة يزن بانتحار أنس، إنهما وطوال حياتهما معا، وهما فى السن عينه، موضعا للمقارنة من كل من حولهم، في الشكل وهما متناقضين تماما فى شكليهما وفي التفوق الدراسي والذي تماثلا فيه، لكن ظل يزن يشعر بالغيرة من أنس ويقارن نفسه دوما به ويحاول التفوق تعويضا للنقص.
عندما كبرا وسافرا للدراسة في ألمانيا لم تكف الغيرة والمقارنة والمحاولة للتحسن. لكن قبل السفر كان أنس قد انضم للثوار فى الثورة السورية في بدايتها الأولى، بينما بقيا يزن كما هو محايدا يلوم الثوار"كنا عايشين"، حدث ما في حياة أنس قاده -وهو المقبل على الحياة، المنطلق، الاجتماعى، خفيف الظل وفاتن الفتيات- وجعله يصاب بالاكتئاب حتى الانتحار.
قبل سفره إلى ألمانيا، صدم بصديق عمره"معاذ" بعدما اكتشف أنه "مخبر للأمن" ورفاق أنس الثوريين أقنعوه باقتياد صديقه معاذ ليتأكدوا من أنه هو من يسرب أخبارهم للأمن، وتعهدوا بأن لا يؤذوه، لكن بينما هم يستجوبونه، أخرج أحدهم مسدسا وأطلق النار على رأسه، مما أدخل "أنس" فى صدمة أولى، ليسافر بعدها إلى ألمانيا ليدرس طب الأسنان.
لكن الصدمة الثانية التي أدت إلى انتحاره كانت عندما تلقى قبل انتحاره بأيام فيديو مصور لساعة استجواب صديقه معاذ قبل موته، الفيديو الذي يعترف فيه معاذ بأنه خائن. وخيانته التي أدت إلى اعتقال صديقهم الثالث كنان، واعتقال جورى أو نور واغتصابها بأبشع الطرق. ومن كثرة خوف أنس على سمعة صديقه معاذ ومصير أسرته أن يتسرب خبر خيانته للثوار وأصدقائه الآخرين، انتحر. وأيضا لشعوره بالذنب أنه هو من اقتاد صديقه لهذا المصير.
يغيّر "أنس" في ألمانيا دراسته لطب الأسنان ويدرس الإخراج السينمائي، وكان أول أعماله فيلم وثائقي عن شهادات معتقلين فروا من معتقلات النظام السوري وأدلوا بشهاداتهم على ما تعرضوا له في المعتقل. بعد انتحار أنس، سيشاهد يزن ما تم تصويره، الفيلم الذي انتهى ولم يتبق إلا تجهيزه للعرض، وبدأ يزن في تدريبه العملي لطب النفس في تحليل شخصيات وأحداث هذا الفيلم.
في هذه الجزئيات بالتحديد، شهادات المعتقلين، والتي يضع فيها الكاتب شهادات حقيقية لمعتقلين سابقين تعرضوا لكل أنواع الذل والقهر والمهانة من ضرب وتجويع واغتصاب وحرق وأكل جثث الرفاق، ستكون هذه الجزئيات من أصعب ما يمر على القارئ، ربما لن يستطيع حتى التمعن فى كل التفاصيل من بشاعة ما يقرأ، والأبشع أنه ليس خيال الكاتب بل شهادات حقيقية من "جورى، عدنان، رنيم، مهند، وغيرهم، شباب وأطفال ونساء. سيضع الكاتب الجرعة الأكثر تكثيقا من هذه الفظاعات فى كتاب واحد.
يبدأ "يزن" تحليل ما يسمع بعقلية الطبيب النفسي، والمحقق الجنائي فى بعض الأحيان. يحلل في البداية مدى صدق وكذب أصحاب الشهادات، والتي يتوصل إلى أنها كلها حقيقية ودون أى مبالغة، خاصة وكل ما قالوه مدعوم بشهادات طبية تثبت ما تعرضوا له. وبعدها يبدأ في تحليل كيف يصل إنسان إلى هذه الدرجة من الوحشية والسادية، من تعذيبه لأنسان آخر.
يتوصل إلى أن من يُعذب أخر "السجّان" في الحقيقة يعيش حياة طبيعية مثل الجميع؛ يكون أب وأخ وزوج. لكن ما يصل به إلى هذه الدرجة من الوحشية مع المعتقلين إلى أنهم أقنعوه أن الآخر هذا أدنى منه مرتبة، لا يتعدى قدره حشرة ضارة يجب التخلص منها. وعلى هذا الأساس يقوم بعمله. أيضا يقتنع تماما أن عمله بالتعذيب ليس لغرض استخلاص اعترافات لكن لكسر وإسقاط الآخر، كما قال حرفيا أحد المعتقلين، وأحيان لكي يكون عِبرة، يعذب فيخرج ويحكى ما حدث له، فلا يجرؤ غيره على المعارضة.
يحتوي فيلم أنس الوثائقي، على مقارنة بين ما تعرّض له يهود ألمانيا فى الهولوكوست، وبين ما يحدث للسوريين في سوريا. وكيف أن القيادة فى سوريا استوردت مهندسي التعذيب النازيين الذين فروا من الملاحقة بعد سقوط هتلر! آوت سوريا العديد من هؤلاء الجنرالات الذين صنعوا وأشرفوا على عمليات التعذيب في أوشفتيز، وأفران الغاز فى ألمانيا، وطبقوها في سوريا! بالتأكيد مع لمسة خاصة من تلاميذهم الجدد، ولم يعلموهم فقط التعذيب الجسدي لكن علموهم أن الهدف الأساس من هذا التعذيب هو كسر الشخص وتحطيمه معنويا وعقليا وروحيا، إفقاده كل ثقة وإيمان بكل شيء.
في الرواية يتمثل العنصر النسائي في "نور" أو جوري. واحدة من أصحاب الشهادات فى فيلم أنس الوثائقي، ممن قوتهم الضربة ولم تقتلهم.
تعرّف عليها يزن بعد انتحار أنس، لكنه لن يعرف إنها من ضمن أصحاب الشهادات سوى فى النهاية. رغم أن أسرة نور فى سوريا محسوبة على النظام، إلا إنها لم تسلم من الاعتقال، وقد حسبته وأهلها بعيدا عنهم، لكنه على النظام هين، يطيح بهم ويأتى بمؤيدين جدد. كانت شهادتها من أفظع الشهادات؛ حيث مرت بعد الإفراج عنها بكثير من المراحل النفسية من إلحاد واكتئاب ومقاربة الانتحار، ثم رجعت واستقوت وأكملت الحياة.
فى الرواية يتبين لنا عمق التباين بين طوائف والطبقات فى سوريا، ومدى تحصن الناس بهذا الحد العنصرية، فى الحقيقة هذه العنصرية الموجودة فى كل المجتمعات، هذا فلاح، هذا ثري هذا فقير إلخ...
على الرغم من أن الكاتب "أحمد العمري" طبيب عراقي، إلا أنه عاش فى سوريا سنوات، ونشر كتاباته الأولى هناك، وهذا ما جعل الكاتب يمدنا بتفاصيل جغرافية، عن سوريا لا يعرفها إلا من عاش فيها، سنجد أيضا تفاصيل عن العادات والتقاليد والاكل، والموروثات الشعبية، وتفاصيل الحياة التى لا تبين إلا لأهل البلاد وساكنيها.