القاهرة 30 مارس 2021 الساعة 07:06 م
كتب: أحمد مصطفى عمر
" من عمق ذاكرة ثائر" تأتي شهادة الراحل علي بيبيمون على الثورة الجزائرية ودوره فيها وتفاصيل وثائقية عنها إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر؛ حيث يرصد الكتاب الذي صدر عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردنّ تفاصيل كثيرة عُنيت بجمعها د. كلثوم ابنة المجاهد علي بيبيمون، حيث تقرأ النصوص التي تركها والدها وتكشف عن تفاصيل كثيرة لم يكن يعرفها أحد عن مجاهدي الثورة الجزائرية.
كما تذكر أن والدها: "ورغم ويلات المرض والتعب، راح يكتب مذكراته بحرقة ساردًا تفاصيل تجارب عاشها بكل حيثياتها خلال محطات متتالية، يحكي فيها عن عمق الألم الذي صنع قوة الأمل، وصلابة الأب الذي صنع في كل واحد من أبنائه سرَّ قوته، وآماله، وعشقه للحرية، ورفضه اللامتناهي لكل أشكال الظلم والاستعباد، ليصنع في كل مرة سر لحظة الانعتاق التي نشأ أبناؤه عليها".
وبينت أن والدها: "تفرد بقدرته العجيبة على استذكار الأحداث، وتفاصيل الأشخاص، والأسماء، وحتى التواريخ. كتب الكثير عنها، وذكر لهم الكثير منها، لكنْ في عمق تلك الذاكرة كنت أبحث دومًا عن سر ارتباطه العميق بماضٍ آلمه كثيرًا، وحبه اللامحدود لوطن لطالما ناضل من أجله وعرف البعض من خيباته".
أما المجاهد علي بيبيمون فقد وصف مذكراته هذه بقوله: "إنها محطات من مسيرة كفاحي وددتُ أن أدوّنها". وأهداها إلى: "شهداء الثورة التحريرية المباركة، وشهداء الواجب، والأجيال اللاحقة، وكل غيور على هذا الوطن المفدى".
وأشار إلى أن من بين الأسباب التي دفعته للكتابة: "أن الأجيال الجديدة التي فتحت عيونها على الحرية لا تعرف الكثير عن الثورة؛ سوى ما تقرأ عنها، وأحيانا من أناس لا صلة لهم بها، لكنني على يقين أن نقل وقائع موثّقة عن تجربتي الواقعية في الحياة وما عشته أثناء الثورة وبعد الاستقلال سيفضي إلى تمتين ذلك الرابط بين الأجيال". وهذا الجهل بالثورة لا يعود بحسب رأيه إلى خلل في الأجيال الجديدة، وإنما هو ناجم عن إحباطات المراحل السابقة التي واجهها هؤلاء الشباب الأمر الذي جعلهم يتصورون "أن مكاسب الماضي ما هي إلا حلم تم تحقيقه بسهولة"، وهذا برأيه مصير كثير من الثورات التي قد تتنكر الأجيال اللاحقة لها ولأهدافها السامية إذا لم تجد من يعينها على فهمها.
ويأتي إطلاق الكتاب الذي يقع في 328 صفحة من القطع الكبير، بالتزامن مع عيد النصر في الجزائر الموافق 19 مارس 1962 تاريخ وقف إطلاق النار عقب الثورة الجزائرية المباركة، وقد حوى بالإضافة إلى النصوص المكتوبة مجموعة كبيرة من صور المجاهد علي بيبيمون وأفراد عائلته وعدد كبير من المجاهدين وكذا قوائم الشهداء الجزائريين الذين قضوا خلال الثورة، إضافة إلى مجموعة من الوثائق المختصة بتلك المرحلة.
ويتكون الكتاب من خمسة فصول، تطرق الفصل الأول منها إلى حياة ونشأة المجاهد، من تفاصيل مولده ونسبه ومسقط رأسه، ومعلومات عن والده وأفراد عائلته التي ساهم أفراد كثر منها في الثورة التحريرية، وارتقى عدد منهم شهداء في سبيل هذه الغاية النبيلة، وكان من بين هؤلاء الشهداء ثلاثة من إخوته هم: الشهيد عمار بيبيمون، والشهيد محمد بيبيمون، والشهيد طرج السعيد (أخوه من جهة الأم).
أما الفصل الثاني فاختص بذكر الأوائل من كل حدث في حياته، مثل: أول امرأة مجاهدة شاهدها في الثورة، وأول طائرة شاهدها تسقط، وأول المناشير، وأول قنبلة، وأول مخبأ، وأول خائن، وأول معركة خاضها، وأول وشاية، وأول سلاح استخدمه، وجملة من التفاصيل الشيقة التي وثقها بمنتهى الدقة والموضوعية.
وتناول الفصل الثالث مسيرة الكفاح التي خاضها علي بيبيمون في صفوف الثورة التحريرية التي التحق بها بدءًا من 1 نوفمبر 1954، والتدريبات والكمائن والاشتباكات التي شارك فيها، ثم تفاصيل إصابته وسجنه وتعذيبه في سجن باتنة وسجن عين التوتة، والكثير من تفاصيل المعاناة قبل رحلة العودة إلى الديار وفرحة الاستقلال.
أما الفصلان الرابع والخامس فخصّصهما المجاهد للحديث عن حياته في مرحلة ما بعد الاستقلال، فذكر في الفصل الرابع تفاصيل التحاقه بجهاز الدرك الوطني والمهام التي كُلّف بها هناك، إضافة إلى كثير من الحقائق التي تتعلق بشخصيات صادفها أثناء عمله في الدرك. واختتم الفصول بنشاطاته بعد التقاعد ساردا مجموعة من الأشعار والمحاضرات والكلمات التأبينية التي ألقاها في مناسبات عديدة.
واختتمث الدكتورة بيبيمون كلثوم الكتاب بشهادة ذكرت فيها أن هذا الكتاب "يحمل قيمة رمزية لا تقدر بثمن"، وأن والدها "كان يئنُّ ويحنُّ بلهفة إلى لحظات الجهاد وصدق النضال"، مضيفة أنه كان دومًا يردد على مسامعها شغفه بكتابة وتسجيل التاريخ ويسألها: ترى متى سننهي هذا الكتاب؟". وأكدت أن والدها "كان يؤمن بأن التاريخ حق للجميع"، كاشفةً عن حجم سعادته لحظة إنهاء مشروعه قبل وفاته بأشهر قليلة (23 يوليو 2019). ومستذكرةً الفرحة التي ارتسمت على وجهه الشاحب وهو يقول: الحمد لله أني بَلَّغت".