القاهرة 09 مارس 2021 الساعة 08:34 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
تصدرت رواية "قاف قاتل، سين سعيد". للكاتب الكويتي عبد الله البصيص" القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2021. الصادرة عن"دار نشر، روايات" أحد مجموعة كلمات.
وكم من أحداث وقعت فاستحالت بعدها عودة الحياة لما كانت عليه من قبل. كل قارئ لرواية "قاف قاتل، سين سعيد" ستتخايل تلك الجملة فى ذهنه، ليزفر بعدها بتنهيدة حارقة، حسرة على ما فات وخوفا مما هو آت.
تحكى الرواية عن ضابط التحقيقات الكويتي"ماجد" الذي يدفعه الملل وروتين العمل، للنبش فى أحد القضايا القديمة التى لم يتوصل فيها إلى نتائج، لتُحفظ على أن حلها"مجهول" وبنبش ماجد للماضي، سيوصلهُ إلى ما يزلزل عالمه، ومالم يكن يخطر له على بال.
تبدأ الملحمة بعدما يذهب "ماجد" لمعاينة شخص توفى، بطريقة طبيعية، ليتأكد أن وفاته لا تشوبها جناية قتل. وبعد التأكد من عدم وجود أى جريمة، سيبحث فى تاريخ المتوفى"فهد" أحد أبناء الحى القدامى، من الذىن عاصرو زمن الغزو العراقى للكويت، والهجرة والرجوع.
وبالبحث فى تاريخ المتوفى، سيعرف المحقق ماجد، أن"فهد" كان قد أتهم قديما بارتكاب جريمة قتل بُرِّأ منها حينئذ، لكن"ماجد" اراد التحقق من ذلك بعدما سرت الإشاعات عن أن فهد كان لديه عم يعمل فى التحقيق، وأخفى كل الأدلة التى تدين قريبه. وبالبحث واستدعاء من بقى حيا من الشهود، وجد تسجيلات للمتوفى، كان قد عثر عليها وأحضرها"صقر" أخو المتوفى فهد، وبتفحص التسجيلات. ستتكشف حقيقة ما حدث.
مر الجميع بتلك المرحلة الكارثية، ربما، فى المدرسة الإعدادية والثانوية. بوابة الدخول إلى عالم المراهقة المرعب. كان ذلك المحور الأساسي الذى دارت حوله التسجيلات من حياة "فهد" ذالك الفتى الذى أُجبِر على الشر، رغم توقه ليكون خيّرا، لكنه، وبسذاجة المراهق ظن أن الشر هو طريقه الأوحد للنجاة. فبعد رجوع فهد، وعائلته إلى وطنهم وبيتهم بعد تحرير الكويت، وقع الحدثان الأكبر والأفدح ربما، والتى لم تعد حياته بعدها أبدا إلى ما كانت عليه.
أول الحدثين : التغيير الجذري الذى أصاب عقول وأفكار أصدقاءه وجيرانه القدامى. بعدما اكتشف أنهم، وهم محترفو لعب الكرة، ومن أجلهم أشترى كرة من متجر بالرياض، حيث رحلوا، ثم أقسم ألا يمس الكرة أحد ويلعب بها إلا هو وأصدقاؤه. لكن بعد الرجوع من رحلته حاملا الكرة اكتشف أن شغف الرفاق تحول لشيء آخر. فبعد استهتارهم وسخريتهم منه عندما يأتى على سيرة اللعب، اكتشف توقهم وسعيهم إلى التحول لكائنات شريرة لا تسعى إلا إلى الشر المحض. وكانت تلك فكرتهم حينها عن الطريقة الجديدة للحظوة والظهور. ولسذاجة فهد، انساق خلفهم. ولم يكن لهم كلام أو تخطيط أو فعل إلا عن طريقة التنكيل بخصومهم. تربص، وعراك، سكاكين، وبندقية صيد.
ثاني أفدح الأحداث فى حياة فهد كانت، مقتل صديقه"سعيد" أمام عينيه، حيث لم يستطع عقله استيعاب ما رأى، فلفق له صورة أخرى حتى يقدر على العيش بعدها، وكانت المادة التى صيغت منها الصورة جاهزة بتأثير من كم أفلام الكارتون التى كان يشاهدها بالساعات. فصوّر له عقله أن صديقه"سعيد" رُفع إلى السماء، بعدما تخيل سابق أن هذا سيكون مصيره، فقد كان مقتنعا أن"سعيد" ليس كائنا أرضيا، بكل ما يحمل قلبه من طيبة ورقة، تتنافض مع بنيته الضخمة، بل أنه أتى فى سفينة الفضاء التى التقطته. وأعمى عقله تماما صور الجريمة التى كان شاهدها الوحيد.
وماجد أيضا، حدث له ما حدث لفهد. لكن كان نصيبه من الحدث الذى غير حياته وصار مستحيلا أن تعود بعده إلى ما كانت عليه من قبل، كان فى عمه. العم"عادل" المثل الأعلى، الفيلسوف والكاتب والقارئ النهم، وخالق كيان"ماجد".
كان لماجد، عم اسمه عادل، يعمل محققا فى قسم الشرطة، هو مَن حقق قديما فى قضية سعيد وفهد."عادل" الفيلسوف الذى بنى بالكلمات عوالم عاش فيها ابن أخيه، علّمه تفكيك الكلمات وتحليلها وإعادة تكوينها لتكشف عن معانيها الخفية، مما جعله يشب مختلفا عن أقرانه، لا يهش لرؤية فيلم كارتون جديد فى صغره، كما بقية الأطفال، لا يفرح بهاتف ذكي فى المراهقة، وفى الشباب تأكد تماما بأن كل ما كان عمه يقوله عن تلك الأجهزة يعتّم العقل.
لكن صورة العم، الذى صار عليها ماجد، حتى أصبح نسخة منه،عقليا وأخلاقيا، طرأ عليها ما لم يكن فى الحسبان. بعدما اكتشف أن عمه هو القاتل، هو من قتل"سعيد" بالخطأ، ودفنه وكلبه خفية فى البيت المهجور"بيت أم غريب" محل اجتماع فهد ورفاقه، وشهد فهد الحادث، لكن جريمة"العم عادل" الحقيقية كانت فى عدم الإبلاغ عما فعل. وحينها وقف"ماجد" أمام الاختبار الحقيقي لكل القناعات والأفكار التى تشرّبها من عمه. والذى علّمه أن الحقيقة حقيقة، والقتل قتل، فهل الآن وبعد موت عمه بسنوات، وموت المتهم الأول فهد، هل يفشي السر؟ ويحطم ذلك المثال، خاصة وهو يعلم أن ذلك لن يفيد بشيء.
الأفكار الفلسفية أهم سمات الرواية:
الصدام الأول للقارئ سيكون سؤاله الذاتي، هل أنا حقا أؤمن بما أقول إنى أؤمن به، أم أن الحال كما فى الأزمات الكاشفة، فالحوادث أيضا كاشفة؟ يتضح هذا فيما نستطيع القول عنه"إعادة التاريخ لنفسه". فقديما، كان العم عادل، المحقق الفيلسوف القارئ والكاتب والمفكر، المؤمن بكل القيم الإنسانية، المُعلم والمثل الأعلى كان يؤمن ويمرر إيمانه لابن أخيه، عن ضرورة إعادة الحقوق مهما كانت العواقب. لكن عند أول اختبار لهذه القناعات، انهارت جميعها.
فعندما ارتكب جريمة قتله الخاطئ ودفن الجثة سرا، كان لا يزال شابا تخرج لتوه فى كلية الشرطة، وباعترافه بخطئه سيطيح بمستقبل باهر يُشرق أمامه، وسيخذل فخرعائلته به. ورغم تنازع نفسه بين الحق الذى يجب أن يُقر، وبين مستقبله الذى سيضيع، فضّل نفسه ومستقبله على تلك القيّم التى حسب نفسه يؤمن بها وكانت تجرى على لسانه بكل صدق. وبعد زمن، يعيد التاريخ نفسه، عندما يعرف"ماجد"المحقق، حقيقة ارتكاب عمه للجريمة التى لم يتوصل إلى فاعلها من قبل. ورغم إيمانه بكل مبادئ إرجاع الحقوق، والقتل قتل مهما كانت الدوافع ومرتكبها حتى ولو بالخطأ، وعن إيمانه بشرف المهنة، إلا أنه أيضا فضّل ألا يجازف بسيرة عمه، وبرر لنفسه بأن هذا لن يفيد أحدا الآن. فالمقتول"سعيد" ارتاح من عذابه بدنيا لم يكن يستحق عذاب العيش بها ولم تكن تلائم طيبته، والقاتل"عمه عادل" مات، ولحق بهم"فهد" المتهم الأول.
المعضلات الأخلاقية:
الشرارة الأولى للشر، ستنتهى حتما بتكوين شيطان. فى تسجيلات فهد، شرح لنا كيف أن أصدقاءه ومجتمعه(جعلوه مجرما)ليست الجملة الأخيرة تندرا، لكنه ما حدث فعلا. لم يجد فهد وأصدقاؤه وسيلة لحماية أنفسهم، وإثبات ذواتهم فى تلك المرحلة، فى مجتمعهم الصغير المتمثل فى مدارسهم وأحيائهم، إلا العنف. وإلا سيهزأ بهم الآخرون. ورغم أنه كان كارها لطريقة أصدقائه الجديدة فى إنجاز هدفهم، إلا أنه انساق وراءهم بالتدريج، وشيئا فشيئا أحب ما يفعل، عشق صورة القوى المهاب، ونسي تماما لعب الكرة.
لكن، وربما كان الخير بفهد أكبر سطوة عليه من الشر، حاول بكل ما يملك الحفاظ على هذا الخير من خلال حبه لـ"زهرة" وحبه وصداقته لـ"سعيد" وأخوه المقعد اللذان يعيشان مع جدتهما وزوجها بعد وفاة أبيهما، وتخلي الأم عنهما. التاع"فهد" بفقد سعيد، قارب على الجنون، بالتأكيد لأنه الصديق الذى لم يكن يتحدث لأحد مثلما يتحدث معه ويفضى له بالأسرار، لكن أيضا ربما كان جزء كبير من اللوعة هو خوفه من أن يفقد الجزء المضيء فى قلبه وحتى وإن لم يكن يعي ذلك.
كذالك حزنه على فراق"زهرة" محبوبته، بعدما علمت أنه واحد من شلة السوء ممن تنتشر سيرتهم السيئة وفسادهم. حزن لفراق محبوبته بالتأكيد، لكن حزنه الأكبر،ربما، كان على الميزان الذى يكفل له البقاء بشريا. خاصة أن فقدانه للمحبوبة جاء بعد طامة فقدانه لسعيد.
الصورة البصرية بالرواية:
تدخل فيلما سنيمائيا، ترى محققا يعانى الرتابة فى عمله فينبش أوراقا تفتح له أبواب الماضى ليعيد تشكيل الحاضر. تماما ستحس هكذا أثناء القراءة، وهذه إحدى ميزاتها، فهي سمة من سمات كتابة المؤلف، يكتب نصا كأنك تشاهد فيلما، كما فعل تماما فى"طعم الذئب". فهنا سنبحث معه عن قاتل سعيد، وسنسمع أزيز جهاز التكييف الذى يئن تحت وطأة حرارة تصل لنصف درجة الغليان. سنخمن معه فى كل ورقة لعمه، من القاتل وماذا حدث، وسنحاول جميعنا حل اللغز.
اللغة، والإطارالسردى
تنقسم الرواية إلى قسمين. كتابات العم"عادل" وتسجيلات"فهد" ربما سبق لكتّاب آخرين الركض بنا بين الماضى والحاضر، دفاتر كتبت بيد الموتي، تقرر حاضر الأحياء فى سطور. لكن تميزت رواية"قاف قاتل، سين سعيد" بسؤال يطرق الرأس فى كل صفحة عن الطبيعة البشرية، عن الحياة وعما كانت ستكون عليه لو لم تكن كما هى الآن، عما كانت إذا سارت كما أردنا. ورغم طول الرواية التى تقع فى 420 صفحة تقريبا، إلا أن تشويق الأحداث، بلغتها السهلة، رغم احتوائها على بعض الكلمات العامية الكويتية، سهّل، وكفل المتعة أثناء القراءة.