القاهرة 02 مارس 2021 الساعة 08:59 ص
كتب: محمد جمال الروح
رحلة السينما والحياة
( لن نعرف أبداً ماذا تحمل إلينا اللحظة القادمة، يأس أو رجاء .. حياة أو موت )
بهذه العبارة يفتتح كمال الشيخ فيلمه الشهير (حياة أو موت) الذى يعد أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية وأكثر الأعمال التي عبرت عن مضمون رؤيته السينمائية، إنها السينما التي تبحث عن الإنسان وقيمة الحياة ..
هذا الفيلم المحمل بكم كبير من الرسائل لم يصور رحلة الموت للوصول لرجل برئ تحمل ابنته له الدواء القاتل، ولكنه صور رحلة وصول المشاعر الإنسانية لقلب المشاهد الذى شعر بأن الكون ينتفض لإنقاذ إنسان بسيط في حاجة لرشفة دواء، فتمنى المشاهد أن ينتفض هو الأخر من مقعده لنجدة أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس، وكأن هذه رسالة كمال الشيخ لعالم كان خارجاً لتوه من حروب عالمية طاحنة أزهقت فيها ملايين الأنفس دون الاكتراث لأي قيمة من قيم الحياة .
في هذا الفيلم استطاع كمال الشيخ تحرير الكاميرا من أسر الاستديوهات وجدران القصور والخروج بها لعمق الشارع القاهري المزدحم المليء بالتناقضات والعجائب والشخوص؛ ليقدم في النهاية ريبورتاج بصري يقرأ به الشارع المصري بكل مكوناته المختلفة في قالب تشويقي تختلط فيه مشاعر القلق والشفقة والترقب، ليظل هذا الفيلم محتفظا ببريقه رغم مرور السنوات حتى يلتقى مع توجهات سينما الثمانينات أو ما يسمى بسينما الواقعية الجديدة التي أمعنت في البحث عن حكايات البسطاء وحواديت الشوارع، ورصدت بعناية تأثير التحولات السياسية والاقتصادية على المجتمع الذى اختلت به المعايير وتحولت فيه القيم الراسخة إلى سلع يمكن بيعها في ظل شرائع السوق وطغيان المادة.
يقدم كمال الشيخ في ثالث أفلامه "حياة أو موت" سينما تأملية لتعامل مؤسسات الدولة مع المواطن البسيط التي تهب أجهزتها لإنقاذه من موت محتمل، لم تكن تلك الصورة التي كان يراها الشيخ للواقع بل الصورة التي يتمنى أن يراها في رحلة بحثه عن الحياة .. فاستحق هذا الفيلم أن يمثل مصر ولأول مرة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان عام 1955.
لا يمكن رصد أسلوب المخرج كمال الشيخ دون الرجوع إلى الأسباب التي ساعدته في أن يقدم نفسه كمخرج له خصوصية ورؤية مغايرة ظلت ملاصقة له حتى آخر أفلامه.
دخل كمال الشيخ عالم الإخراج من بوابة المونتاج، حيث قام بعمل المونتاج للعديد من الأفلام السينمائية الهامة قبل أن يخرج فيلمه الأول عام 1952، تعلم الشيخ المونتاج على يد المخرج نيازي مصطفى بأستوديو مصر وسرعان ما أجاد تلك الحرفة وأصبح أسماً كبيراً يقوم بعمل المونتاج للكثير من الأفلام في وقت واحد بعد أن حاز على ثقة صانعي الأفلام، وكان المخرج كمال سليم هو أول من وثق بكمال الشيخ وعهد إليه بمونتاج فيلم البؤساء الذي عرض عام 1943، بعد أن شعر بموهبته كمونتير له حس فني خاص؛ ليشكل كمال سليم جزءا كبيراً من وعي وثقافة كمال الشيخ السينمائية.
ساعدته تلك المهنة التي يجلس فيها أمام "الموفيولا" لساعات يقوم بتوليف مشاهد الأفلام وضبط إيقاعها لقطة بلقطة في التعرف على أساليب العديد من كبار المخرجين الذين قام بعمل المونتاج لأفلامهم أمثال: أحمد سالم، أحمد جلال، كمال سليم، بركات، أنور وجدي، نيازي مصطفى، ويوسف شاهين وغيرهم، بل إنه كان عامل نجاح لكثير من الأفلام وخاصة الأفلام الاستعراضية التي قام بتوليف مشاهدها، فيقول مثلا عن أفلام أنور وجدى والتي قام بعمل المونتاج لها جميعا: "ساهمت في تجسيد الشكل النهائي لاستعراضات أفلامه الغنائية حيث قمت بعمل تتابع اللقطات ليظهر الاستعراض في النهاية بإيقاعه المتدفق وملامحه السينمائية الخالصة".
وخلال الفترة الممتدة من 1941 إلى 1953 يقدم كمال الشيخ عشرات الأفلام كمونتير، ومن أشهر هذه الأفلام غزل البنات ، المليونير ، البؤساء، طاقية الإخفاء، الخمسة جنيه، ملاك الرحمة، ابن عنتر، قلبي دليلي، طلاق سعاد هانم، عنبر، ليلة العيد، الأفوكاتو مديحة، أخر كدبة، ظهور الإسلام، ياسمين، قطر الندى، عايز اتجوز، بنت الأكابر، المهرج ليوسف شاهين؛ ليدخل بعدها كمال الشيخ عالم الإخراج على قدمين ثابتتين حاملاً خبرة كبيرة اكتسبها من عمله كمونتير يعرف أصول السرد البصري والإيقاع والتكوين واختيار زوايا اللقطات وأحجامها والقدرة على خلق التوليف الصوتي والموسيقي وتناغمهم مع الحدث السينمائي.
ولعل أول أفلامه (المنزل رقم 13) من بطولة عماد حمدي وفاتن حمامة ومحمود المليجي والذي جاء في قالب بوليسي محكم، يؤكد ميلاد مخرج يملك الأدوات والأسلوب والرؤية؛ حيث قدم الشيخ حبكة سينمائية جديدة علي السينما المصرية، من خلال أجواء مشحونة بالإثارة والتشويق عن وعي كامل بنوعية وطبيعة ما يقدمه، وفي هذا الفيلم تلوح إرهاصات التقنيات الجديدة التى سيستخدمها كمال الشيخ مع كل مرحله في أفلامه.
فقد قدم في هذا الفيلم مثلا أول فكرة لتوظيف الإضاءة في تنفيذ تقنية الفلاش باك، أما على مستوى المعالجة فقد كانت القدرية هي المحرك الأساسي للأحداث في غالبية أفلام تلك المرحلة، أما في المنزل رقم 13 فقد دبرت الجريمة بشكل عقلي وقصدي عن طريق الدكتور (محمود المليجي) الذي يستغل مريضة في تنفيذ الجريمة بعد تنويمه مغناطيسياً، لنخلص في النهاية أن كمال الشيخ عرف طريقه إلى سينما جديدة ابتعدت عن الأنماط السائدة من سينما الاستعراضات والوعظ وألعاب القدر، واختار الأسلوب البوليسي التشويقي الذي يضع المشاهد دائما في حالة فضول وترقب.
رغم تأثر كمال الشيخ بالمخرج العالمي ألفريد هتشيكوك إلا أنه رفض لقب هتشيكوك مصر، فالتأثر بالاتجاه ليس بالضرورة التقليد والنقل بل هو الإعجاب بالأسلوب والاتجاه أما الرؤية فهي خاصة به، يقول كمال الشيخ في أحد الحوارات الصحفية: "رغم اعترافي أن هيتشكوك فنان متميز في طريقة عمله وفي إيقاعه، أما أنا فقد وجدت نفسي أعمل في إطار أفلام التشويق بشكل تلقائي، وهو قالب أعبر فيه عن وجهة نظري، وليس هدفًا في حد ذاته، بل هو مجرد أسلوب"، أي أن أسلوب التشويق والحبكة البوليسية والاثارة يخاطب انفعالات المشاهد ويستحوذ على تركيزه ولا يدع الملل يتسلل له، إلا أنه وحده لا ينتج فكرا يخاطب عقل المشاهد ويستهدف بصيرته.
تلك كانت معادلة كمال الشيخ أن يضع المضمون الفكري داخل إطار يعتمد على الايقاع المتسارع وسحر التشويق؛ لنجد في أعمال كمال الشيخ اللاحقة أن هذا الأسلوب البوليسي التشويقي اتسع ليشمل معطيات الواقع قاصدا تشريح الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المصري في الستينات والسبعينات؛ حيث بدأت كاميرا كمال الشيخ تشتبك أكثر مع الواقع .
كمال الشيخ والأدب:
يعد كمال الشيخ من أبرز المخرجين الذين حولوا الأعمال الأدبية لأفلام سينمائية، ففي عام 1962 يقدم كمال الشيخ فيلم "اللص والكلاب" عن رواية نجيب محفوظ ليترك المرحلة السينمائية الأولى التي اهتم فيها بالموضوعات الإنسانية مستخدما الجريمة في إبراز وتحليل الدوافع التي تحرك الشر في نفوس البشر، أما المرحلة التالية في مشواره فقد بدأت باللص والكلاب، حيث التقت رؤية كمال الشيخ برؤية نجيب محفوظ في نقد الواقع الذي أفرز سعيد مهران المجرم الهارب الذي حاصرته الخيانة قبل أن تحاصره فوهات الأسلحة ..
حملت أحداث الفيلم وصراعه نقدا مبطنا للسلطة التى رفعت شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية رغم غياب هذه المفاهيم عن أرض الواقع الملموس، هذه السلطة التي سمحت للانتهازيين والمزيفين بالاقتراب منها والعيش في رغد ثمنه تملقها.
كما نجح كمال الشيخ والسيناريست صبري عزت في صياغة إيقاع متسارع جاء على مستويين متوازيين الأول مباشر في مطاردة سعيد مهران وهروبه، والثاني مستتر وهو الصراع الحقيقي بين الشعارات المزيفة والحقيقة المرة.
ولعلنا نلاحظ اللغة البصرية التى تميز بها كمال الشيخ؛ حيث جعل مكونات الكادر التي تشارك سعيد مهران في تكوين اللقطة تسجنه داخلها وتسلبه الحرية وتحاصره كي لا يهرب من مصيره المحتوم، ففي مشهد المحاكمة الافتراضية يرسم كمال الشيخ محكمة كاملة بالظل والنور تتحول فيها قضبان النافذة لقفص اتهام يقف فيه سعيد مهران يشكو مظلمته لقاضى لا وجود له ويستجدي عدالة كالسراب لا يتجاوز وجودها وعيه ..
بعد هزيمة 1967 يقدم كمال الشيخ "ميرامار" لنجيب محفوظ، و"الرجل الذي فقد ظله" عن رواية لفتحي غانم وسيناريو على الزرقاني، و"بئر الحرمان"، و"شيء في صدري" لإحسان عبدالقدوس، ثم "غرب وشروق" عن رواية لجمال حماد، وفيها جميعاً عدا "بئر الحرمان" يطرح الشيخ رؤية انتقادية عنيفة للواقع السياسي والاجتماعي في مصر ما بعد النكسة، يلجأ في بعضها للماضي مسقطاً على الحاضر في "غرب وشروق" و"شيء في صدري" و"الرجل الذي فقد ظله" هذه الرواية التى تجسدت صعوبة تحويلها لفيلم في كونها رواية أصوات تروى من خلال أربع شخصيات، وكان التحدي الذى نجح فيه كمال الشيخ كيف يصنع فيلماً متوازناً دون أن ينحاز إلى وجهة نظر واحدة من الشخصيات الأربعة.
أما في "ميرمار" كانت المواجهة أكثر حدة وجرأة حيث انتقد فيه الاتحاد الاشتراكي متمثلا في شخصية سرحان البحيري، مما أدى إلى عدم إجازة الرقابة للفيلم، ويدافع كمال الشيخ عن الفيلم بقوله أنه لم يكن الهجوم للهجوم بل كان بهدف الاصلاح والتغيير.
أما فيلم "على من نطلق الرصاص" 1975 الذي كتبه بروعة وجرأة رأفت الميهي فيقدم الشيخ سينما الحقيقة التى لا تضع أي أقنعة، سينما المواجهة في أكثر مراحلها جرأة، وكأن الفيلم يصرخ نحن في منتصف السبعينيات؛ ليظل كمال الشيخ مع ضرورة مجابهة الفساد الذي اقترن بمن هم في موقع المسئولية، هذا المناخ الذي أدي لظهور طبقه من الانتفاعيين والمفسدين ممن يشربون دماء البسطاء.
ابتعدت سينما كمال الشيخ الرصينة عن الإسفاف متحاشية الابتذال أو العري الرخيص الذي يستهدف غرائز الجمهور، بل إنه كان يستخدم في أغلب الأحيان الإيحاء والتلميح والقطع في المشاهد الحسية دون تصريح أو انسياق، يقول الناقد على ابو شادي: "أنتج كمال الشيخ أسلوباً سينمائياً يتسم بالرصانة والرزانة والاعتدال من خلال حرصه على الاتساق والتوازن والتكامل بين عناصر اللغة السينمائية، وعلى الكلاسيكية في البناء والحركة والتكوين، بالإضافة الى تكثيف الجو العام من خلال توظيف الاضاءة لخدمة الدراما، كما يميل إلى البساطة والوضوح فلا إسراف في حركة الكاميرا بل يحدد الزوايا وأحجام اللقطات بما يوفر توصيل المعنى إلى المشاهد بيسر وسهولة"..
على مدار أفلامه قدم كمال الشيخ ألوانا عديدة من أفلام الجريمة والجاسوسية والنقد الاجتماعي والسياسي، بحث فيها عن الإنسان ومعاناته في هذه الحياة الصاخبة؛ ليترك لنا إرثاً سينمائيا كبيراً سيظل النقد يتعاطى معه لسنوات ليكتشف ما في عمقه من جمال وإبداع.