القاهرة 17 نوفمبر 2020 الساعة 10:22 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
تطالعنا الشاعرة شريفة السيد في قصيدتها "أنا لا تشابهنى امرأة"، بتقديمِ، سياقى لبيت الشعر المعروف، للشاعر حافظ ابراهيم حين يقول:
أنا إن قدر الإله مماتى لن ترى الشرق يرفع الرأس بعدى.
وكأن البيت هو جزء أساس في القصيدة، إحالى، تناصى، سياقى، تماثلى، تتمثله - في البداية- لتخاتلنا عبر بوابات الدهشة، فالقارئ قد يعتقد –للوهلة الأولى– أنها ستقوم بمعارضة القصيدة، لكنها بدهشة التلقى تحيلنا الى تماثّل روح القصيدة، لتسقط – عبر التناص السياقى روح القصيدة في القصيدة، ثم عبر الإزاحة، والتقارن، والتماثل، والتّضامّ، تحيلنا الى كهف الذات، خبيئة الأنثى، عبر العنوان السيموطيقى المخاتل: "أنا لا تشابهنى امرأة"، وللوهلة الأولى نرى الشموخ والتعالى، الاعتزاز بالذات الأنثوية عبر ضمير المتكلم: "أنا"، والذى يحيلنا عبر إشارية التنويه إلى كينونتها التى تتمثلها عبر الفعل "تشابه" المترادف بنون الوقاية، وياء المتكلمة، التأكيدية، فهى لم تقل: "تشبهني"، لأن المشابهة فيها تخصيص، وتمايزية، ونفى لعدم وجود شبيه لها من بين النساء، وكأنها أرادت عبر العتبة الأولى للنص/ القصيدة/ العنوان المتشاكل، المخاتل، التضمينى، والمفارق أيضاً، أن تحيلنا الى العتبة الضمنية التناصية، التواشجية والتغايرية في ذات الوقت، ثم تحيلنا الى بيت الشعر الذى يدلل إلى التفاخر والاعتزاز بالذات وكأنها أرادت أن تقول: أنا / الذات الشاعرة / أنا المرأة المصرية التى لا ولن تشابهنى امرأة بين نساء الأرض، لتخرج من دلالة الذات، إلى فضاءات التقارن، ونفى التماثل والتناظر في الشبه لأى أحد، لذاتها كمفردة، وللمرأة المصرية كذلك، وما جعلنا نخرج بدلالة السياق بداية، هو هذا التقديم الإحالى الذى يدلل إلى فرادة وعظمة مصر/ الأنا لديها، فلن ترى الشرق يرفع الرأس إن ضاعت مصر، أو ضعفت، وهى كذلك تختص بفرادتها مفاخرة بالذات/ الوطن، عبر تناص الإحالة، الترميزى، المتضمن حمولات ومرموزات سياقية، تحيلنا إلى القصيدة البديعة عن عظمة مصر وحضارتها، وأهراماتها، ونيلها الساحر البديع... إلخ.
إنه الغناء، وهى هنا "كأم كلثوم" – سيدة الغناء العربى- التى تغنت بقصيدة حافظ إبراهيم إلى مصر، نراها تتناص معها لتغنى للمحبوب أيضاً، وكأنه سياق التقارن الإحالي، عبر فراديس الغناء الموجوع، في تماثلية تجمع الشجو والحنين، والحب والأمل، والألم معاَ ، فهى أغنية الوجع، عبر جماليات البوح الشهى، الرائع، الجميل.
وتعقد لنا الشاعرة –منذ البداية- حوارية مع الغائب، المحبوب، عبر الذات القلقة، الموجوعة، لذا وجدناها تبدأ القصيدة بكاف التشبيه التماثلية التقارنية، (كالعمر)، وكأنها تربط الماضى بحاضرها الآنى، فاليوم الذى من العمر يمر، لا رجوع فيه، وهى قررت الفراق الأبدى، لذا فلا مندوحة، ولا مناص لديها لتبدأ في وصف حياتها، التى شبهتها بالفرصة الثمينة له، لكنه لم يغتنمها، فآثرت البعاد لتشكو وجدها الى الفضاء، وتتحرر كذلك من قيوده، ولعمرى فان هذه القصيدة تمثل مرحلة جديدة لدى الشاعرة، فتنطلق بالذات عبر الفضاء الكونى، والمخيال التصويرى الباذخ لتعيد رتق قصة الوجع الشهىّ، لتعبر الجسر المؤدى الى طريق الحرية، التصوف الخاص، الوجد الآسن، والشجن اللذيذ، تقول:
كالعمرأمضي في حياتكَ لا رجوعْ
وأُمرُّ كالضوءِ المراوغِ في المدَى حين الخشوعْ
أنا لحظةٌ أنا فرصةٌ
عندَ انتهاءِ بريقِها لا تنفعنَّ إذنْ دموعْ
أنا ما بدأتُ لأنتهي
أنا لمْ أزلْ في طـَوْرِ تكوينِ الأنوثةِ بينَ جدرانِ الرَّحِمْ
أنا لمْ تلدْني بعدُ أمْ
مخبوءةٌ بينَ العطورِ المُثقلاتِ بنشوةِ الوجدِ العَفيّْ..
بينَ التشظِّي
عندَ مُفترقْ الجنونِ وعندَ وشوشةِ البَخورِ
لمَنْ تمخَّضَ حُلمُها وعدًا حَيـِيّْ
خمريةُ النَّبضاتِ تابتْ جبهتي مِنْ قبلِ قبل التنشئةْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ..
إنها إذن الأنثى الاستثناء، حيث أتت بأسلوب القصر لتنفى وجود شبيه لها، أنثى سواها، لكنها عبر السرد، واستخدام التدوير الشعرى تتنامى تجربتها المتشائلة لتحيلنا الى قلقها الوجودى، حبها الرجيم، وعبر الصور الجمالية الباذخة ينثال الشعر من مرمر مزهريات الجمال الباذخ، والصور التى تتواشج من القلب لتخش الى القلوب، عبر هارمونى ينتضم عقد الشعرية الباذخ لديها، تقول:
خمسونَ حُزنًا أفحموا غيري أنا
ســــــتون حُزنًا ضد أحوالِ الزمنْ
لمْ أُغلقِ الأبوابَ في وجهِ البراءةِ حين جاءتْ منْ حدودٍ شائكةْ...
أنا للحدودِ مباركةْ.
....
أنا أمضغُ الوقتَ الكسولْ.. وأكسِرُ الصَّمتِ الخجولْ
وأنحني لأخيطَ منهُ سوسناتٍ يانعاتٍ في الحقولْ
قلقي لُحافي إنْ استطالتْ تحتهُ قدمايَ أيضًا يستطيلْ
ويفكُّ قيدي عقدةَ الزمن البخيلْ
تخيلوا: أنا لامتطاءِ الحُلم ليلاً لا أميلْ
وبجَعبتي
ســـــــبعونَ وهمًا صغتـُها أعطيتـها اسمًا واحدًا المستحيلْ
ناريةُ الخطواتِ أسكُنُ سدرةً مسفوكةَ الدَّمِ
واكتشفتُ اليومَ أني السَّافكةْ
تتشابهُ الفتياتُ في بُستانها
لكنني سأظلُ وحدي الواثقةْ... وأظلُ وحدي الرائقةْ
وأظلُ نهبًا للظروفِ الطارئةْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ.
إنها تماهى القارئ، وتطلب منه، منا أن نشاركها أرجوحة الحلم، الظلم المحيط بقلبها الشفيق، فجاءت بالفعل "تخيلّ" وأضافت له واو الجماعة وألف الإطلاق لتشاركنا وجعها الزاعق في الروح وتلك لعمرى حصافة شاعرة تمسك بجمرة الشعر المستعرة، فتحيلها إلى واحة للحب والجمال، والشفقة أيضاً، تقول:
أنا لا أمرُّ على الأمورِ رفاهيةْ.. أنا داهيةْ..
أتشمَّمُ الحُزنَ البهيّْ
أرتـِّبُ الوجعَ الذكيّْ... أُعدُّ نفسي للغيابِ العبقريّْ
أنا لا أمر كعابرةْ... أنا ماكرةْ
أنا أجمعُ الآهاتِ من تحت النوافذِ كي أُشـَبِّكُها حُليا مزهرةْ
أتسوَّلُ القفرَ المُدَمَّى كَيْ أُحيلَ رمادَهُ نغمًا نديّْ
وأزرعُ الأفقَ انتصارًا سرمديّْ
وأغلفُ الهرمَ الكبيرَ بأمنياتي الهادئةْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ.
إنها قصيدة الصورة، عبر التشكيل الروحى للجمال، فهى تعيد تشكيل الأذى الذى أحاط بها، وتحيله الى عناقيد للجمال اللغوى المبهر، عبر لغة تستنطق جماليات الحروف، وتستلب المخبأ في وجيب القلوب المحترقة، لذا نجدد تكرارية الضمير "أنا" طوال القصيدة لتؤكد ذاتيها ووجودها، قوتها لتعبر الأزمة إلى بوابات وشلالات النور من جديد، تقول مخاطبة إياه، تستصرخه، وتبكيه، تجعله يندم لفراقها، وفى نفس الوقت تتصبر بإعلان قوتها طوال الوقت رغم ضعفها وهوانها الروحى والعاطفى كذلك، تقول:
يا سيّدي
أنا لا تُشابهُني امرأةْ
أنا ظامئةْ
لجميعِ أنهارِ الحياةِ.... لكل أوديةِ الشتاتِ... إلى الجروحِ الناتئةْ
ثوبي بياضٌ... ليس يخدشهُ اختراقُ العابرينَ وإنْ تمكَّنَ شيخُهمْ
اليـُتـْمُ يشبهُني أنا
رغمَ ازدحامٍ يستلذُّ بوحدتي المُستمرأةْ
أنا للطلاسمِ قارئةْ
أستكشفُ الآتي إليَّ
فأزُمُّ كلَّ حقائبي
وأحُطُّ فيها كلَّ آلامي لكيْ تُدمِي يديّْ.
إنه الدم المتخثر، بلاغة الألوان عبر صفحات البياض، الطهر، اللذة، التوق، والوجع لمشتهى كان، رغم رفضها وكبريائها وشموخها، الإ أنها تبكى في داخلها، وإن أسعدتنا، وكأنها الشمعة المشتعلة تحترق في ذاتها لتنير مشهدية للعشاق على جسر الحب الشاهق، لذا نراها تخش إلى روحها ، تتشرنق كدودة القزّ على ذاتها الأقحوانة، وتتخايل عبر مرايا الذات التى تعكس الجمال الشكلى للمعانى، لكنها لا تعكس انكسارات روحها في ذات الوقت ، وكأنها تهرب، تنتصر وهى المهزومة، تتوجع وتتظاهر بالقوة لتتشبث بوهن الذات لتصبر ذاتها على الحياة، تقول:
سَلِمتْ يدا حُزني الذي في لحظةِ الترحالِ عرَّفني عليّْ
أنا أكتبُ العبراتِ حتى لوْ بدتْ متواطئةْ
وأجيءُ بالبرقِ العفيِّ مفاجئةْ..
أنا لا تُشابهُني امرأةْ
ستظل الراوية/ الشاعرة/ سوسنة القصيدة تخاتلنا بالقوة رغم انكساراتها، لذا تنهمر عليها الأسئلة داخل العقل، بينما روحها مشتتة ، متشظية، قلقة، تتهادر كالبحر الهادر، أو تصرخ في برارى الذات بحثاً عن صوفية خاصة، شجو زاعق، وبراح تندمغ عبر ترهاته لتعبر عتمة الزمان والمكان، تهرب من الذات إليها، وتحيلنا إلى زمردة روحها وجوهر روحها الآسنة، الشفوق، تقول:
العزمُ يعشقـُني أنا..
فيحُطـُّني في أولِ السَّطرِ الطويلِ الأسئلةْ
وعلامةُ استفهامِ تقفزُ لا تملُ المهزلةْ
وهزائمي تقفُ انتظارًا في مطارِ أنوثتي
(ماراثون) هناكَ علَى موائدِ رحلتي.. ماراثون قويّْ..
بين انشطاري واحتفاظي بالشموخِ تطلعًا برماليَ المتحركةْ
وعواصفي تمتدُ تقصفُ خيمتِي المتهالكةْ
فتشـُدُ أزري أزمتي وتشـدُ أزري قوَّتي ملفوفةً بندَى معاركِ رِقـتي
مرآةُ قلبي ترمُقُ الكُحلَ الـ يُكَملَ زينَتي
وتمدُّ لي قلمًا لأرسمَ حُمرةً في وجنَتي
أسفي لها يرتاحُ مُتكئًا على طرفِ احتضارِ أنوثتي
فتهُبُ كلُ حضارتي
ويهبُ تاريخي المُسجَّى في كهوفِ وسادتي
ومُدافعًا عنِّي يمرُّ على الدُروبِ الشائكةْ
ويلُفـني بحدائقِ الصَّبرِ الوفيّْ
وأعودُ يأكُلُني الضَّبابُ وما قبلتُ التجزئةْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ.
انها المرأة المتردة، الشاكية الباكية، القوية الواهنة، الحكاءة الصامتة، المخدوعة والخادعة، الواقفة القاعدة، الهابطة الصاعدة، تممتلىء روحها بتقابلات وثنائيات متضادة ، فهى الأضداد تجمعت في واحد، والكل في في مجموع الأجزاء، تبحث عن اليقين، الراحة المشتهاة، السعادة في الحزن، والنور في العتمة ، والصمت في الصراخ الزاعق بقلبها القوى الواهن المتلىء بالحب، رغم البعاد، وبالوجع رغم الراحة الشكلية التى تحاول مكيجة ذاتها وصبغها بكل ألوان قزح السعيدة، لكنه صمت الصراخ، وشجن الحزن، وبوح الأنثى الصادق الحنون اللذيذ، تقول:
أنا يا حبيبي لستُ أجلسُ قاعدةْ... أنا صاعدةْ
أتنفسُ النفسَ الصَّعودَ بأنفكَ الــ يُحيي مَمالكَ هالكةْ
هو صالحٌ للشربِ حتى أنني استخدمتُه ماءَ الوضوءِ بهِ أنا متوضئةْ
أنا قهوتي مِنْ لونِ صوتكَ في الصباحِ البابليّْ
خُبزي كذلكَ حكمةٌ هجرتْ نظامَ العقلِ حتى أُرهقتْ فتدحرجَتْ قـُبَلاً عليّْ
أنا لا أجيدُ العزفَ لكنْ كم عزفتـُكَ يا حبيبي في القصيدِ وفي القصصْ
أعطيتـُكَ الدورَ البطولةَ، والأماكنَ، والزمانَ، وكل كل حكايتي
أصبحتَ أنتَ قضيَّتي وبكَ احترقتُ وذقتُ طعناتِ الغرامِ الفاتكةْ
صُغتُ احتلالَكَ لي دهورًا رغم أنفَ الواطئةْ
وختمتُهُ بمفاوضاتٍ تستبيحُ مبادئَهْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ.
إنها المرأة الاستثناء –على حد تعبير الشهاوى– مع مفارقات الموضوعاتية والسرد، لكنها المرأة الحقيقة، الكذبة الكبرى، الخداع عبر يقينة السرد الشعرى، والحكى الأقرب الى القصة، وإلى مسرح الروح، لذا نراها تهريق اللذة، تتحدى رغبة عشتار برغبتها، بحبها الكان، عبر الزمان والمكان وتستل سيف اللغة الجمالى لتبهرنا بالوميض؛ لكنها في نفس الوقت تكشف عرى روحها المحبة له كذلك، على الرغم من الفقد والبعاد، إلا أنها أنثى الوقت المكلومة تسبح في برارى الكون والعالم وتزعق في الوجود الإنسانى ليستمع الى قصتها، أو أنها تهرب كذلك لتخلو إلى وحدتها، انعزاليتها، عيشها على الحافة رغم قربها من نهر الرىّ والظمأ ليندغما البحران ويلتقى المتوازيان في اللا تلاق، ويفترق الحبيبان رغم تماسهما عبر الحلود والإتحاد، والبعاد كذلك وكأنها تتناص سياقياً مع الشاعر العربى الذى قال:
أنا في أنا وانى في أنا رحيقى مختوم بمسك الحقيقة
أو الآخر الذى قال: " كلانا روحان حلا جسدا"، تقول:
عشتارُ تقسمُ إنني في الخصبِ كنتُ البادئةْ.
أرضي يليقُ بها حضورُك يا عبيرَ ملائكةْ..
يا روعةً تهدي إليَّ سنابلاً بل أوكسيجينًا ينقذُ الصمتَ المديدْ
كيمياءُ ذاتي جازفتْ وتعلقتْ بدبيبِ صمتكَ بينما هوَ لا يريدْ
حسبي لقاؤكَ لحظةً أو ما يزيدْ
يا سيدًا يمشي بقلبي مشيةَ العبقِ العنيدْ
أنا منكَ أُخلقُ من جديدْ
أبديةُ الآهاتِ تمطرُني شموسُكَ قهقهاتٍ ترفعُ الوجعَ المُدمَّى مِنْ سجلاتِ الزمنْ
أنا فيكَ أقسمُ لا مِحَنْ
أنا فلسفاتٌ مارقاتٌ في ذُرَى أنقَى نشيدْ
أخطُو بكلِّ العنفوانِ على جسورِ التهلُكةْ
كي أزرعنّك سهرةً ورديةً عُمْقَ الرِّئةْ
مصباحيَ المفتوحُ شباكًا عليكَ وإن مضَى دهرٌ فلا لنْ تُطفئَهْ
أنا لا تُشابهُني امرأةْ..
إنها حقاً امرأة النور والنار، الحقيقة والخيال، الحلم والاكتمال، الحياة والعدم، تبحث عن لحظة دفء، تكحل عينيها وقلبها بدفء الغائب الذى مضى، وتتدثر بالصمت والصراخ لتهدىء ثورة الذات الزاعقة في سرمديات الوجود الإنسانى الممتد في الكون والعالم والحياة.
تظل الشاعرة شريفة السيد أنثى القصيدة، العطر الذى يضوع برحيق الكلمات عبر سماء الله الممتدة، فينتشر عطر الشعر متبلاً بالبهار الكونى للمشتهى الروحى الجميل.