القاهرة 03 نوفمبر 2020 الساعة 01:36 م
* قدمت برنامج (عالم الحيوان) مجاملة للمخرج، فإذا بي أرتبط به، ويكون سبباً لشهرتي
* عدت في إجازة من عملي بإذاعة لندن، فإذا بصفوت الشريف يطلب مني تقديم النشرة!
* هناك مذيعون يقولون ألفاظاً لم يكن يجرؤ مذيع من جيلنا أن يتلفظ بها !
أجرى الحوار: محمد زين العابدين
مذيعٌ من جيل العمالقة، ارتبط في ذاكرة الأجيال ببرنامجه الشهير الخالد (عالم الحيوان)، والذي ظل يقدمه بصوته المميز ذي النبرة الجادة الهادئة. كان من حظه أنه عاصر حرب أكتوبر 73 المجيدة، وأذاع بيانات النصر التاريخي لمصر، والعرب، وكان من المرافقين للرئيس الراحل أنور السادات في زيارة النقاط الحصينة. كما اشترك في تقديم برنامج (صباح الخير يا مصر)، والذي كان أول برنامج (توك شو) إخباري بالتليفزيون. إنه الإذاعي الكبير محمود سلطان، رحمه الله؛ والذي التقيت به في أعقاب ثورة 25 يناير المجيدة، خلال فترة تولي الرئيس عدلي منصور لمقاليد الحكم.
التقينا في الزمان، والمكان الذي حدده لي، بالمقهى الأنيق الذي كان يمتلكه، والمطل على كورنيش النيل بماسبيرو، والذي كان يستغل مجاورته لمبنى التليفزيون في أخذ قسط من الراحة، لتناول الطعام، أو القهوة، فيما بين فترات عمله بالتليفزيون، ويقابل فيه أصدقاءه، وجرى بيننا حوار طويل؛ تحدث فيه عن نشأته وذكرياته التي يعتز بها، وتطرق الحديث إلى تقييم المشهد الإعلامي ككل، ولظروف ما، بقى معي الحوار، ولم ينشرحتى اليوم..
ولد محمود سلطان سنة 1941، بمدينة القناطر الخيرية، وتخرج من كلية الآداب، قسم تاريخ، عام 1965، والتحق في البداية بالإذاعة المصرية عام 1966؛حيث عمل بالبرامج الموجهة. ثم انتقل للعمل بالتليفزيون فى عام 1974، مقدماً لنشرات الأخبار.. ونال لقب (بيتهوفن الإعلام المصري) لصوته المميز، وقد وصل لمنصب نائب رئيس قطاع الأخبار، وقام بالتدريس لطلبة كلية الإعلام. وقد توفي عام 2014، بعد مسيرة إعلامية حافلة، ونال عدة تكريمات، أبرزها نجمة سيناء عن مشاركته في التغطية الإخبارية لحرب أكتوبر المجيدة.
إذا استرجعنا شريط ذكرياتك منذ النشأة، فما هي أبرز الذكريات التي لا تنساها أبداً؟
الحقيقة هناك الكثير من الذكريات التي لا تنسى، سواء في الصغر أو الشباب. نشأت في منطقة القناطر الخيرية، وهي بلدة كانت دوماً رمزاً للجمال، والخضرة، والانطلاق في أحضان الطبيعة، وأستدعي مع ذكريات نشأتي فيها كيف كان تأثير الجمال على تهذيب نفوسنا، وعلى تذوقنا للجمال في كل شىء، بالتوازي مع التربية المنزلية. لذلك ربما يشعر المحيطون بي في كثير من الأحيان أنني شخص رومانسي، هادئ الطباع، متسامح مع الآخرين. أما الذكرى الأخرى التي لا تنمحي من ذاكرتي؛ فهي نكسة 67،فقد أثرت في نفسي، ونفوس كل أبناء جيلي تأثيراً بالغاً، وكانت جرحاً كبيراً، لم يندمل إلا بانتصار 1973. كانت نكسة 67 نقطة تحول مفصلية في حياة جيلي بأكمله. كنا نعيش حلماً كبيراً، وانهار هذا الحلم في 67. كنا نحلق في خيالات النصر، والتفوق، والأحلام الاشتراكية الكبرى، ولم نكن نتخيل أبداً تلك الصدمة العنيفة. لكن الجميل، والباعث للإحساس بعظمة الشعب المصري؛ هو وقوف الشعب المصري بعد النكسة مع القيادة السياسية، وتكاتف الجميع مع الجيش، لإعادة تنظيمه، وتسليحه، إذ لم يكن هذا سهلاً، خصوصاً أننا كنا نعاني من عدم توافر مصادر الإمداد بالسلاح، وتلاؤم الجميع علينا، وتلاعبهم بنا. ومع صمود الشعب، ومساندته للجيش، حتى تمت إعادة بناء الجيش بشكل قوي جداً؛ جاء انتصار 73 العظيم، بعد أن تم التخطيط للحرب بكفاءة عالية جداً، وقد أظهرت حرب 73 مدى صلابة الشعب المصري، وعظمة العرب عندما يتحدون. الحقيقة عندما أستعيد هذه الذكريات الغالية أقول: ليتنا نستعيد روح أكتوبر 73، ونحكي عنها لأولادنا، وأحفادنا، وأشقائنا الصغار ممن لم يعاصروها. ومن ذكرياتي التي أعتز بها خلال هذه الفترة أنني كنت محظوظاً بمرافقة الرئيس الراحل أنور السادات رحمه الله في أول زيارة له إلى النقاط الحصينة بعد تحريرها، وانبهرت بقدرة الجيش المصري على تحريرها بعد اقتحامها ببسالة. وأعتقد أن الشعب المصري يحتاج دائماً إلى استنهاض همته من خلال مشروعات قومية يشارك فيها لكى يتحقق النجاح المأمول، ويجب على الإعلام توعية الشعب بدوره الأساسي في تنمية بلده، وأن تعود النخبة لممارسة دورها الذي اختفى.
برنامج "عالم الحيوان" الذي قمت بتقديمه بصوتك المميز على مدار سنوات طويلة ارتبط بذاكرة، ووجدان المشاهدين؛ لدرجة أن الكثيرين أحبوا الحيوانات من خلاله. ما الذي يمثله لك هذا البرنامج؟
الحقيقة أن برنامج "عالم الحيوان" بالنسبة لي ليس مجرد برنامج، ولكنه تاريخ جميل ارتبطت من خلاله بالمشاهدين في مصر، والوطن العربي. تم تكليفي بتقديم البرنامج، وكنت مذيعاً للأخبار، وليس لي سابق تجربة في تقديم أى برامج، سوى البرامج الإخبارية؛ فالذي حدث أنه جاءت فرصة سفر للزميل سعيد محمود، الذي كان يقدم البرنامج قبلي إلى الخليج، فسافر، وجاء لي مخرج البرنامج الأستاذ إبراهيم عكاشة، طالباً مني تقديم "عالم الحيوان" بدلاً منه، فقلت له إنني لا دخل لي بهذه النوعية من البرامج، وإنني مقدم نشرات أخبار، وبرامج سياسية، ويمكنني أن أبحث لك عن زميل مذيع يصلح لتقديمه، فأكد لي أنه لا يريد أن يقدم البرنامج مذيع غيري، وأصر على رأيه، وسايرته في الموافقة على أن أقدم حلقة أو اثنتين كتجربة. وهنا لعبت المصادفة دورها في تقديمي ل "عالم الحيوان"، وفوجئت بعد أن قبلت تقديم البرنامج لمجرد إرضاء المخرج؛ أنني أحببته جداً، وارتبطت به؛ فقد كانت المادة الفيلمية التي تعرض به عن الحيوانات، والغابات شديدة التشويق. كان برنامج "عالم الحيوان" بالنسبة لي فرصة كبيرة لتلوين أدائي في التقديم، وزيادة جماهيريتي لدى المشاهدين، وشجعني نجاحه بعدها على تقديم برنامج آخر، بعنوان "فنانين من مصر" بشكل مختلف أيضاً.
ما السبب في تركك للتليفزيون المصري وأنت في قمة تألقك، واتجاهك للعمل في إذاعة لندن، وكيف تقيم تجربتك فيها؟
الحقيقة أنه رغم انتمائي الشديد للتليفزيون المصري، وعشقي لممارسة عملي الإعلامي في بلدي؛ إلا أنه خلال تلك الفترة التي اتجهت فيها للعمل بإذاعة لندن، مررت بظروف دفعتني لاتخاذ هذا القرار، وكان ذلك في أوائل التسعينيات. شعرت وقتها بأنني أمضيت مشواراً طويلاً في التليفزيون المصري دون ممارسة تجربة إعلامية جديدة، ومختلفة. كنت بالطبع أعشق وأحترم إذاعة لندن -خصوصاً في عصرها الذهبي- وشعرت بالرغبة في التغيير. ربما ايضاً وجدت وقتها اختلافاً في أجواء العمل عما سبق خلال جيل الرواد الذي ظهرت خلاله، وتقديراً لي أرسلت هيئة الإذاعة البريطانية مندوباً خاصاً لتوقيع العقد معي في القاهرة، وهو شيء نادراً ما يحدث، حيث جرى العرف أن يتم توقيع عقود العمل في مقر الإذاعة بلندن، وسافرت بعدها للعمل بالإذاعة في لندن. لكنني لم أستمر في العمل بها لفترة طويلة، بالرغم من ارتباطي معها بعقد مدته عام، وكنت عائداً للقاهرة في إجازة، واندلعت حرب الخليج وقتها، ولا تتخيل كيف لعبت الأقدار دورها في رجوعي للعمل بالتليفزيون المصري؛ حيث إنني وقتها قررت استغلال إجازتي لزيارة زملائي في ماسبيرو، لأسلم عليهم، لأقابل مصادفة بداخل المبنى صفوت الشريف، وزير الإعلام، ليسألني: أين أنت مختفي؟ فأخبره أنني في إجازة من عملي بإذاعة لندن؛ فإذا به يقول لي بلهجة جادة: اليوم تكون موجود لقراءة نشرة التاسعة!، فشعرت بأنه تكليف رسمي لا يمكن رفضه، بالإضافة إلى ميلي للعودة إلى التليفزيون المصري، وبالفعل ضربت عرض الحائط عقدي مع إذاعة لندن، وعدت لقراءة النشرة، برغم ما أثاره ذلك من مشكلات معهم، وغضبهم مني. لكن الحقيقة أنني لم أكن في داخلي أنوي الاستمرار لفترة أطول بإذاعة لندن، برغم محاولاتهم لإطالة فترة عقدي. أما عن أكثر ما أعجبني بإذاعة لندن؛ فربما كان مهارتهم في تنفيذ البرامج، وحرفيتهم في تدريب المذيعين على كل صغيرة وكبيرة في الإذاعة؛ فالمذيع هناك ليس مذيعاً فقط، بل يمارس الإعداد، والمونتاج، والإخراج، وقد تعلمت هناك فن المونتاج برغم صعوبته في البداية. بالإضافة طبعاً لمساحة حرية التناول غير المحدودة.
ولكن هل في رأيك ما زال لإذاعة لندن، وأيضاً إذاعة مونت كارلو نفس الوهج القديم الذي كان يجذب المستمعين العرب من المحيط إلى الخليج؟
الحقيقة أنني أرى أن هذا الوهج قد تراجع في الفترة الأخيرة، ربما لاختفاء جيل الرواد في هذه الإذاعات، وأيضاً -وهذا هو الأهم- لأن مساحة الحرية في إعلامنا زادت، وساعدت التغيرات التي أحدثتها الثورات العربية على أن يتنفس الإعلام المصري، والعربي، وأن يدخلا في تنافس مع الإذاعات الأجنبية، وأن يتفوق إعلامنا عليها في كثير من الأحيان.
هذا يجعلني أسألك عن رأيك في الحرية الإعلامية. هل يجب أن تكون بلا حدود، أم تكون حرية منضبطة؟
أنا مع الحرية الإعلامية إلى أبعد الحدود، وأرى أنه لا يجب التنازل عنها، بل زيادة مساحتها؛ ولكن هناك فرق بين الحرية، والفوضى. يجب أن يترافق مع الحرية الشعور بالمسئولية. لنا في النهاية عاداتنا، وتقاليدنا، ومقدساتنا التي يجب احترامها للحفاظ على هويتنا الخاصة. والحقيقة أن الفوضى أصبحت هي السائدة في الفضائيات، والتي تبحث دائماً عن الإثارة، وحدث انحطاط لأسلوب الحوار، والخطاب الإعلامي فيها بشكل أصبح مقززاً، لدرجة أنه أحدث تأثيراً عكسياً في انصراف نسبة كبيرة من المشاهدين عنها، والسبب في هذا هو جشع هذه القنوات في البحث عن أكبر عدد من الإعلانات، بصرف النظر عن القيمة الإعلامية التي تقدمها.
حدث انبهار للناس عندما أعيد إذاعة البرامج القديمة على قناة "التليفزيون العربي" التي خصصت للاحتفال بمرور 50 سنة على إنشاء التليفزيون العربي (تحولت إلى قناة ماسبيرو زمان حالياً)، فما السبب برأيك في تميز هذه البرامج القديمة، برغم قلة الإمكانيات وقتها بشكل كبير عما هو متاح الآن؟
الحقيقة أنك تشعر وأنت تشاهد هذه البرامج بالدفء، ورقي لغة الحوار، وثقافة المذيع، والحرص على تقديم شيء هادف. كنت تشعر باحترام المذيع للضيف، والعكس، واحترامهما معاً للمشاهدين، ولا يوجد شجار، أو تطاول، أو خدش حياء مما نشاهده في الإعلام حالياً. الحقيقة أنني أصعق عندما أشاهد أحياناً مذيعين يقولوا ألفاظاً لم يكن يجرؤ مذيع من جيلنا أن يتلفظ بها، هل كان ممكناً لمذيع من جيلنا أن يقول مثلاً لفظ (مُزّة)، أو (خازوق)؟ الآن أصبح لفظاً عادياً، ومتداولاً في البرامج. هؤلاء لا يعرفون أهمية دور الإعلام في الرقى بلغة المشاهدين، وتشكيل وعيهم.
في ظل زيادة عدد الفضائيات العربية، وانتشارها الرهيب. هل حققت هذه الزيادة الكمية تغييراً كيفياً في الإعلام العربي؟ وكيف نستغلها في الدفاع عن الهوية العربية، وزيادة الوعى بدلاً من هذه الفوضى الإعلامية؟
هذا الحديث يدفعنا في الحقيقة إلى ضرورة إنشاء نقابة للإعلاميين، أو هيئة قومية، تحمي الإعلام من العبث، وتحمي الإعلاميين أنفسهم، كما يجب على منظمات المجتمع المدني أن يكون لها دور قوي في التصدي للخروقات الإعلامية. يجب أن نحاسب نحن أنفسنا بأنفسنا، بمنتهى الشفافية، حتى نصل إلى كلمة سواء، وأن نطبق على أنفسنا كإعلاميين مبدأ الثواب والعقاب، بعيداً عن التدخل الحكومي. يجب أن يحكم أداء الفضائيات العربية ميثاق شرف إعلامي عربي موحد، يطبق على الجميع بعدالة، ودون استثناء. كل هذا سينعكس بالضرورة على النهوض بالإعلام العربي.
ختاماً.. كيف تقضي وقتك بعيداً عن العمل التليفزيوني؟
أحاول الحرص على رياضة المشى المفضلة عندي، وإن كنت غير راض عن نفسي، لأنني لا أستطيع ممارستها يومياً. طبعاً القراءة أساسية في حياتي، وأمارسها باستمرار، وفي مختلف المجالات، خصوصاً الروايات، وبالتحديد روايات الأستاذ نجيب محفوظ.