القاهرة 17 اغسطس 2020 الساعة 11:28 ص
كتب : هاني سالم
رحل عن عالمنا الفنان "سمير الإسكندراني" صاحب الفن والإبداع ورسالة ورمزاً فنياً شامخاً، وصاحب التاريخ الوطني المتميز، وصاحب الحضور منقطع النظير، كرس شبابه وحياته لخدمة وطنه، وخدم بلاده بكل شجاعة ونبل وأمانة وشرف وإخلاص، والذي أثرى الحياة الفنية والفن المصري والعربي بالأعمال الوطنية الخالدة والتي ستبقي في قلوبنا أبد الدهر.
ثعلب المخابرات الفنان "سمير الإسكندراني" ابن الغورية التي عاش فيها مع أمسيات الأدب والفن والغناء، وترعرع ونشأ على أشعار بيرم التونسي ، وألحان الشيخ زكريا أحمد، ثم بعد ذلك إنتقل إلى «شارع عبدالعزيز» مع أسرته وكانت نقلة كبيرة في حياته، فكانت المنطقة ممتلئة ومكتظة بالجاليات الأجنبية منها ( الإيطالية ، واليونانيه ، والإنجليزية ) فتعلم منهم ما أفاده مستقبلاً في الحياة، وكان الفنان «سمير الاسكندراني» يجيد لغات متعددة مما ساعده على الحصول على منحة دراسية في مدينة "بيروجيا" الإيطالية لاستكمال ما بدأه عام 1958، وكان وقت ذلك في العشرينات من عمره ، ولكن شاباً مختلف عن الشباب حيث كان يمتلك « ذكاء فطري » فكان بخلاف أنه يجيد خمسة لغات، كان يبدو عليه الحماس والانطلاق، وكان يجيد الغناء ويتقن رسم "البورتريهات" في الشارع.
وكانت إيطاليا كباقي دول أوروبا لا تخلوا من وجود عناصر وصيادي "الموساد الإسرائيلي" ليوقعوا ويجندوا من يصلح لأن يكون فريسة سهلة في شباكهم الجاسوسية، وكان تعلب المخابرات «سمير الاسكندراني» ممن وقع عليهم الاختيار حيث تصوروا أن سلوكه المتحرر لا ينتمي للنموذج المصري الذي إعتادوه في الشباب المصري الذين يدرسون في الخارج.
وذات يوم في إيطاليا أثناء الدراسة التقى بشاب يدعي «سليم» وعلي الرغم من انبهار الفنان سمير الإسكندراني بهذا الشاب في بداية الأمر ، إلا أنه كان كثير الحذر من تحركاته وتصرفاته المريبة، ومعرفة "سمير الإسكندراني" بجواز سفره الأمريكي بعكس ما إدعي بأنه عربي، استطاع سمير أن يخدع هذا الشاب ، ليعرف نواياه ليدعي أن جده كان يهودياً وأسلم ليتزوج جدته ، ولكن لم ينسي أحداً أصله اليهودي ، مما دفع والده إلي الهجرة للقاهرة حيث عرف والدته ذات الطابع "اليوناني" ..
حين ذلك سقط «سليم» في الفخ الذي نصبه له ثعلب المخابرات سمير الإسكندراني، فاندفع قائلاً كنت أتوقع هذا ، أنا أيضاً لست مصرياً يا سمير ( أنا يهودي )
قام " سليم " بتقديم سمير إلى «جوناثان شميت» أحد ضباط الموساد الإسرائيلي ، وقام سمير الإسكندراني أيضاً بخداعه وأوهمه بكراهيته للنظام المصري وحبه للمال، فعرض "جوناثان" العمل لصالح منظمة الحبر الأبيض لمحاربة الشيوعية والاستعمار، وأن هذه المنظمة هدفها القضاء على الشيوعية واسترداد الأموال التي اغتصبتها حكومة مصر من اليهود الذين هاجروا من مصر بعد حرب 1956 وذلك مقابل راتب شهري ومكافأت.
وبدأ التدريب على الحبر السري وكيفية جمع المعلومات العسكرية حتى أنه طلب من سمير الإسكندراني التطوع في الجيش، ويبرر حصوله على المال من الغناء في النوادي الليلية في «روما»، فعاد سمير إلى "بيروجيا" ليستقبل شقيقه سامي وأطلعه على الأمر ثم عاد إلى مصر ، وبمجرد أن وصلت الباخرة إلى الاسكندرية، أخذ سيارة وذهب على الفور إلى بيته وحكي لوالده ما حدث وتعرض له في إيطاليا، فساعده والده الذي كان يعمل تاجراً للموبيليا عن طريق صديق له سبق وأن اشتري منه موبيليا، وكان هذا الرجل وكيل المخابرات العامة المصرية، وتم الإتصال به وشرح الأمر له بالتفصيل، وبعد ساعة واحدة كان هناك لقاء بينهما وأخذه معه في سياره فيات بيضاء وتم تغيير الطريق أكثر من مرة، ثم نزل الفنان سمير وركب سياره أخري سوداء وبعد فتره كان في مكتبه داخل مبني بمصر الجديدة
قابل سمير ضابط قدم نفسه بإسم «جعفر» وطلب معرفة الحقيقة، فرفض سمير الاسكندراني أن يتحدث لعدم معرفته بهذا الشخص، فسألوه من الذي تعرفه فقال الرئيس "جمال عبدالناصر" وحاولا أن يقنعاه بالحديث ولكنه رفض تماما، فقالا لو غيرت رأيك اتصل بنا فوراً، وغادر المخابرات دون أن ينطق بحرفاً واحداً، وظل على مدار شهر ونصف يذهب يوميا إلي قصر عابدين ربما يقابل الرئيس "جمال عبدالناصر" وبعد هذه الفتره اتصلت المخابرات المصرية به وطلبوا منه الذهاب إلي فيلا بمصر الجديدة، وبمجرد الوصول استقبله رجل أنيق واكتشف أن الذي استقبله في مكتبه بإسم «جعفر» وكان يركب معه السياره هو «صلاح نصر» مدير المخابرات العامة، ودخلوا صالون به صور الرئيس جمال عبدالناصر وأولاده وبعد ربع ساعة دخل عليهم الرئيس "جمال عبدالناصر" وحاول الإسكندراني تقبيل يده لكن عبدالناصر رفض وقال له صلاح أبلغني عنك كلام رائع، وحكي للرئيس كل ما تعرض له في إيطاليا، فأعطي إشارة البدء لصلاح نصر بأن يتعامل مع الإسكندراني واستقروا على أن يستمر في العمل مع "المخابرات الإسرائيلية" وكان تخطيط الموساد هو إغتيال المشير "عبدالحكيم عامر" بعد فشل محاولات نسف الطائره اليوشن عام 1956، والأخطر كان إغتيال الرئيس "جمال عبدالناصر" وبعد اطلاع عبدالناصر على كل شيء قال أعتقد أن دورك لم ينته بعد يا سمير فأجابه الشاب وقتها سمير الإسكندراني أنا رهن إشارتك ودمي فداء لمصر وكانت تلك الكلمات تحول جديد في القصة أو بالأحرى في المعركة.
وكانت أهم مرحلة قطعت أي شك تجاه الإسكندراني رفضه بذكاء شديد عمل تجنيد أحد أقاربه العسكريين، وكان لا يوجد أي شيء يثير الشكوك حوله ، وهذا ما أوقع "جوناثان" ضابط الموساد أكثر في الفخ، كان سمير الإسكندراني يشكو في خطاباته إلى "جوناثان" من احتياجه الشديد للمال ويهدد بالتوقف عن العمل وفي الوقت ذاته كان يرسل لهم عشرات المعلومات والصور، فطلبوا منه إستئجار صندوق بريد، ووصل ثلاث آلاف دولار داخل عدة مظاريف وصلت لكنها من داخل مصر؛ لتعلن عن وجود عملاء لإسرائيل تتحرك داخل البلاد.
وبدأت خطة للإيقاع بالشبكه كلها، فاستكمل سمير الإسكندراني الخطة عندما طلب منه إرسال أفلام مصورة فأعلن خوفه أن تقع في أيدي الجمارك، فأرسل إليه "جوناثان" رقم بريد في الإسكندرية، وطلب منه إرسال الأفلام إليه، وبدأت خيوط الشبكة تتكشف شيئا فشيئا، وكانت أضخم شبكة تجسس ومعظمهم من الأجانب، وقررت المخابرات العامة أن تعد خطتها وتستعين بقدرات الثعلب المخابراتي «سمير الاسكندراني» ليكشف الشبكة كلها دفعة واحدة؛ حيث استطاع الإسكندراني إقناع المخابرات الإسرائيلية بإرسال واحدا من أخطر ضباطها إليه في القاهره «موسي وجود سوارد» ووصل متخفياً وتابعته المخابرات العامة المصرية بدقة حتى توصلت إلى محل إقامته وبضربه مباغته ألقت المخابرات القبض عليه وتحفظت عليه دون نشر الخبر، ليرسل خطاباته بنفس الانتظام إلي الموساد، حتى يتم كشف الشبكه كلها، وبالفعل بدأوا يتساقطون واحدا تلو الأخر، ثم كانت لحظة الإعلان عن العملية، وكانت دهشة الإسرائيليين أن الشاب «سمير الاسكندراني» ظل يعبث بهم ويخدعهم طوال عام ونصف، وحاول الموساد الانتقام منه عن طريق تصفية شقيقه "سامي" لكنهم فشلوا بفضل جهود المخابرات العامة المصرية التي أعادته من النمسا.
وقد قام الرئيس جمال عبدالناصر بمكافئة الفنان سمير الإسكندراني لنجاحه في هذه المعركة المخابراتية التي كللت بالنجاح والتوفيق والنصر بفضل ذكائه الفطري وبفضل جهود المخابرات العامة المصرية.
هكذا كانت وطنية الفنان العظيم الراحل وهذه هي تضحياته تجاه وطنه واخلاصه لمصر، أعمال بطولية سجلت بأحرف من نور في سجلات التاريخ الوطني .. رحم الله بطل من بلادي الفنان سمير الإسكندراني وغفر له واسكنه فسيح جناته.