القاهرة 16 يونيو 2020 الساعة 11:05 ص
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
دائما ما توصف الشعرية الحديثة بأنها ضد السائد المعتاد لأنها تجترح آفاقا مغايرة للتجديد الذى يتجاوز فكرة الشكل إلى فرادة الرؤية لقد آمنا طويلا –مع أدونيس– أن مجرد التجديد الشكلى يتبعه –بالضرورة– أو يتلبس به تجديد الرؤية، ولم يكن هذا صحيحا على إطلاقه فالتقليدية واردة فى كل الأشكال فمع استقرار الموجة التحديثية الأولى فى أواسط الأربعينيات بدأ الحديث عن " كلاسيكية شعر التفعيلة" بمعنى شيوع أنماط ثابتة فى التشكيل والتصورات.
ومن المفارقات اللافتة أن تتكرر هذه الحالة نفسها مع تداول "وصفة" جاهزة لقصيدة النثر تدور حول الكتابة المجانية و " نقل" اليومى والتفصيلى بحيث تغدو القصيدة ملامسة لسطح العالم دون اكتناز جمالى أو معرفى، إن تقليد أحدث التيارات الشعرية الغربية لا يفترق عن تقليد التراث فالتقليد –فى الحالتين وكما يقول د. محمد حمود– ضرب من الاستلاب لأنه محاكاة لنماذج سابقة تفقد الذات خصوصيتها وإبداعيتها.
وتبتعد زيزى شوشة فى ديوانها الأول "غرباء علقوا بحذائى" عن هذه الوصفة المعدة سلفا.. صحيح أن اليومى ماثل فى نصوصها لكنها تدخله فى سياقات شعرية تتجاوز راهنيته وجزئيته فالفن –غالبا– ما يرتبط بمناسبة ما أو وقائع حياتية محددة لكنه –فى حال إبداعيته– يتجاوز هذه المناسبة حتى تصبح مجرد معطى أولى مثير –فحسب– للخلق الفنى. وعنوان الديوان –على غرابته– يحدد علاقة الذات الشاعرة بالآخرين؛ فصيغة التنكير موحية بالعمومية والتجهيل ناهيك عن وصفهم بالغرباء هذا الوصف الذى يضع مسافة أخرى بينهم وبين الذات فالآخرون –هنا– ليسوا جحيما –كما كان يقول سارتر– بل ظلالا تعلق –مصادفة– بحذاء الذات.
ولا ينبغى أن نستسلم للمعنى القريب الذى يوحى به دال "الحذاء" من قبيل الاستعلاء أو تضخم الذات فالحق أن دال "الحذاء" له أبعاده الحضارية والاجتماعية والعاطفية، فهو من ناحية دال على انتقال الإنسان من طور البدائية التى كان فيها جزءا من الطبيعة إلى طور الحضارة ومن ناحية أخرى يمثل حلم البسطاء فى حيازته وقد يدخل الحذاء فى إطار الحكاية "الأليجورية" لتمثيل الحظ العاثر الملازم للإنسان والذى لايستطيع الخلاص منه كما فى حكاية "حذاء الطنبورى" التراثية على العكس من "حذاء سندريلا" الذى جلب لها الحظ السعيد بالزواج من الأمير، و "حذاء رادوبيس" الذى اختطفه النسر وطار به إلى الملك فى "منف" وألقاه فى حجره ليكون ذلك سببا فى زواجهما وبناء الهرم الأصغر.
لكن الحذاء له جوانب أخرى –أقرب إلى دلالات الديوان كما سنرى– فهو سجن للقدم فرضته الحضارة الحديثة وهو إخفاء للحقيقة لأن الناس تختار ما يروق لهم لا ما يناسبهم ودلالة القيد وكشف الحقيقة –تحديدا– مما يمكن أن نراه فى نهاية القصيدة التى يحمل الديوان عنوانها ..
"أترك حزنا قديما/ أوراقا ممزقة/ أكاذيب/ وضعها الأصدقاء على المائدة/ ثم أذهب إلى حجرتى عارية تماما/ بسهولة أرتدى وحدتى/ هى دقيقة وخفيفة / تثبتنى بيدها الحادة/ تنظفنى من القبلات السريعة/ والغرباء الذين علقوا بحذائى/ تلبسنى ثوبا جديدا / ثم تتركنى وحيدة" ( غرباء علقوا بحذائى" زيزى شوشة، ص 72قصور الثقافة ).
ألأتعرى خلاص من العالم: من الحزن القديم والأوراق الممزقة والأكاذيب وتبدو الحجرة أشبه ب "صدفة" الذات التى تحتمى بها والوحدة ملاذا آمنا يخلصها من القبلات –العلاقات– السريعة التى تفتقر إلى العمق والتحقق والديمومة وفعل المجاورة والتتابع بين "القبلات السريعة" و "الغرباء الذين علقوا بحذائى" يشير إلى بعد عاطفى، ويحيل إلى حذاء رادوبيس وسندريلا على سبيل المفارقة الأليمة الساخرة بين الختام السعيد فى القصتين القديمتين والرغبة فى الخلاص –فى التجربة الراهنة– من قيد القدم هذا القيد الذى فرضته –كما ذكرت – الحضارة الحديثة بعلاقاتها المسطحة السريعة، وهو ما ألقى بظلاله على حركة الذات اللاهثة المتوترة التى لاتود الثبات على الأرض أو التحليق فى السماء تقول:
"اخترت أن أكون ممزقة/ دون التمسك بأى نقاط ثابتة/ يمكن للآخرين أن يستدلوا على من خلالها / أرفض الثبات على الأرض/ أرفض التحليق فى السماء" (ص85)
الأرض والتحليق فى السماء صفات إنسانية فارقة لكن نزعة تشييء الذات هى المهيمنة على معظم قصائد الديوان حين تقول مثلا
" تحت سقف البيت/ السقف الذى ضغطنى وملأنى بالكثير من الوحدة/ كنت أتحرك تحته ككتلة صماء/ يسهل وضعها فى أى مكان/ ومن ثم يمكن التخلص منها"
وعلى الرغم من وطأة المكان بجغرافيته حيث تتكرر دوال: الجدران/ السقف / الغرفة/ البيت / المقهى، فإنها تظل حاملة لبعدها الرامز –بداهة– للحصار والقمع والخواء والفراغ، فالغرف مقبضة بحرارتها التى تشبه الصفعات وخاوية فلا نكاد نرى أثاثا أو مظاهر حياة فهى أشبه ب " قدر الغرف المقبضة " بتعبيرات عبد الحكيم قاسم والسقف – الذى من الوارد تماما أن يكون سقف الحرية – يضغط الذات ويحولها إلى كتلة صماء يسهل التخلص منها، وفى هذه الحالة يتخلق الحلم بالأماكن البعيدة.
لكن هل الحياة حقا هناك فى تلك الأماكن اللبعيدة هل " الحياة هى فى مكان آخر "، وفقا لرواية ميلان كونديرا قصيدة " الأصوات القديمة " تنفى هذا الوهم حيث تبدو الذات واقعة فى " الزمن الفاصل بين الخفة والثقل " بين عالم القرية وعالم المدينة دون فوارق حيوية، فهناك – فى القرية – تتولى على وعيها مشاهد سقف البيت المشروخ والمقابر المرصوصة فى ثوب قديم والصبار المزروع على قبر الأب ، الاستثناء الوحيد بين كل هذا هى تلك السنوات البيضاء المسكونة بالسنابل ووجه أمها وهنا – فى المدينة – تعاين البنايات الصماء وصهد الشوارع ومرارة الوجوه ، لا نوستالجيا إلى مكان قديم ولا استشراف لحياة أخرى فى مكان جديد بل إن الأمر يزداد تعقيدا فالجسد الذى كان واضحا تحت سقف البيت المشروخ صار عصيا على الفهم، لكن ما هى تلك "الأصوات القديمة" التى جعلت منها عنوانا للقصيدة والتى وصفتها – مرة أخرى– بالأصوات الغامضة.
تتكشف الدلالة عندما تقول
" أستمتع بلذة الغموض/ أخرج لسانى/ لاأستطيع إدخاله/ أخلع حذائى أضع قدمى فى وجه العالم/أغنى بصوت مكتوم/ وألهث وراء حلم بعيد دونما سبب لأرانى تحت شجرة وحيدة/ أبحث عن أصوات قديمة"
نحن أمام تسع جمل فعلية قصيرة لاهثة تعكس حركة الذات المتمردة وخروج اللسان علامة على خروج خروج الكلام المواجه للعالم والذى يؤكده خلع الحذاء/ القيد والغناء بصوت مكتوم بهذه الاعتبارات يمكن القول إن هذه الأصوات القديمة الغامضة والتى تشبه النداهة هى أصوات "الشعر" التى حررتها من " الصمت" وعلمتها "الاستغناء"، وهى الدلالة نفسها التى تتكرر فى " صوتك فى حجرتى الخرساء" والتى يبدو فيها الصوت اختراقا لخرس المكان بعد الذهاب بعيدا إلى حافة العالم بحذاء خفيف وشعر متطاير، فى مقابل الضفيرة المعقودة التى تشبه المشنقة الملتفة حول العنق فى النص السابق مباشرة.
وخرس الحجرة يستدعى مرة أخرى دال "الجدران" المتكرر بشكل لافت والذى يتجاوز بعده المادى كأنه كائن داخل الذات لاخارجها ففى قصيدة " لم يعد لى بيت" يتم التعامل مع الجدران – ابتداء – بصورة واقعية :
" فى بيتى القديم كنت أجيد تحطيم الجدران / كان بيتا لينا / قريبا من الأرض" لكن هذا المستوى الواقعى يأخذ أبعادا فوق واقعية " باتكاءة واحدة على الجدار/ كنت أجدنى فى الشارع / فجأة لم يعد لى بيت"
ورغم هذا تظل الجدران كائنة متحولة من الوجود بالفعل إلى الوجود بالقوة داخل الذات
"مشيت أكثر/ مزقت أشياء أخرى ورغم ذلك أحدثكم الآن من خلف الجران"
هذه التحولات ما بين الواقع والمجاز نجدها فيما أسمته الشاعرة بقصائد الليل الذى يبدو فى تآلف مع الذات التى هى "ابنة الظلام" ورفيقته التى تخاطبه على هذا النحو
"تعال أيها الظلام/ ادخل غرفتى/ اجلس إلى جوارى/ أعلم أنك مثلى/ قل لى: لماذا أنت هكذا "
وامتداح الليل بظلامه وعتمته من ملازمات الهروب إلى أعماق الذات فالظلام يمنح الذات حريتها على عكس الضوء الذى يقيد حركتها ويمسخها حيث
"كل الأشياء حقيقية فى العتمة/ العتمة هى الذروة هى الموت الناعم الذى يسقط دون أن يجرح الآخرين"
وهى حالة تتولد منها ما تسميه الشاعرة بوردة الليل التى تعد امتدادا – بالمخالفة – لوردة الصقيع عند صلاح عبد الصبور التى كانت بحثا عن المطلق أو الحقيقة الغائبة ووردة القيظ عند فريد أبوسعدة، وردة الليل عند زيزى شوشة هى نبتة حكايتها الخاصة التى تتماهى مع حكايات أمثالها من المجهولين
"سأصاحب وردة تذوب اسمى/ فى دمها المغموس بالطين/ سأصاحب وردة الليل الأخرس/ كى تتغذى على حكايتى/ ثم تبعثرها فى النهار على وجوه المجهولين/ فوحدهم يعرفون معنى الوردة"
كل هذا على العكس من النهار قرين الجدران والحصار، وهكذا تنقلب دلالات الزمن بما يتوافق مع رؤية الذات لنفسها ولعالمها بأداءات شعرية واضحة التميز والثراء.