القاهرة 09 يونيو 2020 الساعة 09:40 ص
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
على الرغم من المحاولات الجادة التى بذلتها قصيدة الفصحى المصرية فى العصرين الفاطمى والأيوبى فى تأكيد الطابع القومى للشخصية المصرية فإن ملامح هذه الشخصية لم تظهر بجلاء إلا مع ما عرف من أشكال الكتابة بالعامية المصرية التى أمكن تمييزها فى ثلاثة فنون رئيسية هى الشعر الشعبى والزجل ثم شعر العامية المصرية.
والحق أن هذه الفنون وغيرها من أشكال الثقافة الشعبية بصفة عامة قد تم التعامل معها بنوع من التعالى مرة باسم التحديث والعقلانية، حيث رأى لويس عوض –على سبيل المثال– أن الفلكلور شر لابد من أن تمحقه دولة حداثية متسامحة والتى يكون لزاما عليها –فى نفس الوقت– "أن تشجع إحلال أى نموذج ثقافى غير تقليدى أو مختلف محله" (1) ومرة باسم الشرع طبقا لرؤى بعض الاتجاهات السلفية وفى كل الأحوال ظلت النظرة السائدة تتعامل مع الثقافة الجماهيرية على أنها ثقافة غير المثقفين أى ثقافة الشعب "العادى"
إن ما أقوله الآن لايعنى تقديس الموروث الشعبى أو عدم انتقاده حيث يظل من أهم واجبات العامل فى حقل "الفلكلور" –كما يقول عبد الحميد يونس– "هو غربلة التراث بحثا عن ما هو أصيل" (2) وإذا كانت قصيدة العامية تمثل الطابع القومى المصرى فى أوضح صوره فإنها تمثل –فى الوقت نفسه– "قصة الخروج على الأصل (على مستوى) التركيب والنحو الصرف" (3) إن الخروج هنا– وكما هو واضح– يتم على مستوى البنية اللغوية بالإضافة إلى العديد من المستويات الأخرى التى لا تقل أهمية لكن هذه الخروجات جميعا لا تمنع كون شعر العامية عودة إلى الأصل الفصيح من حيث الوظيفة باعتباره –أى شعر العامية– الأكثر تمثيلا لفكرة "ديوان العرب" التى كان يقوم بها الشعر الفصيح وكان من الطبيعى أن تتوفر مجموعة من السمات الفنية لأداء هذه الوظيفة ومنها النزعة التسجيلية التى تجعله قادرا على متابعة أهم الأحداث الوطنية والقومية التى تجد صداها الوجدانى عند المتلقى وما يترتب على ذلك من استحضار هذا "الآخر" ومخاطبة وجدانه والاعتماد على خصائص النص الشفاهى الذى يخاطب "أذن" المتلقى والاهتمام بالجناس والتورية والكنايات الشعبية وإشباع توقعات القارئ؛ مما يجعل النص – طبقا لتعبيرات النقد القديم – يسابق لفظه معناه وتأكيد قيمة "الصدق" التى تعنى –هنا– المشاركة الوجدانية والفكرية فشاعر العامية هو شاعر جماعته الشعبية بامتياز التى تنتظر منه أن يصور آمالها وآلامها ويصوغ أحلامها ويعلى صرختها الغاضبة ويؤرخ لأحداثها وانتصاراتها وصمودها فى أوقات الهزيمة.
وهنا يصبح النص منتجا جماعيا ينتمى إلى المتلقى بقدر انتمائه للشاعر طبقا لتفرقة جيرار جينيت بين الأثر الأدبى الذى هو الكتاب/ الديوان المطبوع المادى و "النص" باعتباره ملكا للمتلقى والشاعر سويا، الأثر الأدبى إذن هو "نص" بالقوة ولا يتحول إلى نص بالفعل إلا بتأويلات المتلقى التى قد تكون أكثر نفاذا من المعنى الذى قصده الشاعر ابتداء فصاحب العقدة – النص –ليس هو بالضرورة– أقدر الناس على حلها كما يقول فاليرى، ولعل ما أقوله –هنا– يكون أكثر صدقا على الشعر الشعبى تحديدا الذى يتماهى فيه الشاعر والمتلقى لإنتاج بنية جمالية معرفية تعكس رؤية الذات الشعبية الجمعية للوجود. ومع ذلك يظل تعميم هذا الكلام على قصيدة العامية أمرا قاصرا وذلك لأنها لم تتخلص تماما –ولا ينبغى أن تتخلص– من ميراث الشعر الشعبى والزجل وهذا أكثر صدقا على قصيدة يسرى العزب لأنها – فى تصورى – قصيدة عابرة لهذه الأنواع ومستفيدة منها جميعا.
فهى من ناحية تؤكد فردية المبدع وخصوصيته واستقلالية رؤيته طبقا لشروط قصيدة العامية الحديثة وفى الوقت نفسه تستعير من الشعر الشعبى ذلك التواصل الحميم مع الجماعة الشعبية ومن فن الزجل آلية السخرية من أصحاب السلطة وأحيانا كثيرة من بعض سلبيات الجماعة الشعبية ، هذا المزج الواعى بين هذه التقنيات هو ما يعطى قصيدة يسرى العزب مذاقها الخاص كما يفسر سر ذيوعها بين الطبقات الشعبية وهو أمر يحرص الشاعر عليه بانتقالاته الدائمة بين مدن مصر وقراها بصورة تكاد تكون شبه يومية.
وكما يمزج الشاعر بين سمات الفنون المشار إليها فإنه فى ديوان "ويحصل" وفى غيره من الدواوين يمزج بين العام والخاص من خلال استخدام بعض الرموز ففى قصيدة "وردة" وهى أولى قصائد الديوان يلعب "التنكير" دوره فى تعميم الدلالة وتعددها فقد تعنى هذه الوردة امرأة حقيقية وقد تعنى الوطن/ مصر وقد تعنى الثورة أو الرغبة فى التغيير والقصيدة نفسها تساعدنا على ذلك التعدد الدلالى حيث تتوزع صفات الوردة على هذه المستويات الثلاثة حين نقرأ مثلا "يا طالعة فى قلب الشراقى جريئة/ يا فاتحة لعقلى بيبان الحقيقة/ يا عاشقة الحنان فى الحياة البريئة / تعالى يامريم غريبة وطريدة/ وهلى بنورك فى قلب فى قلب المسافة البليدة/ تعالى ومدى الطريق للأمانى الشريدة" (4)
وبهذا المعنى نستطيع القول إننا على مدار الديوان نلحظ ذلك التداخل بين مستويات التجربة العاطفية والاجتماعية والوطنية مما يدفع برمز المرأة إلى التنوع والاتساع فمن اللافت –حقا– أن يخاطب الشاعر حبيبته بهذه الصورة التى يتداخل فيها العاطفى والاجتماعى والصوفى ناهيك عن دلالتها على الوطن حين يقول "عينى عليك زى فلاح خايف/ حالف تعيشى ضى كل نهار/ مسكونة بالأنوار/ وبالأسرار" (ص25) وسوف نلاحظ –تأكيدا للبعد الصوفى تحديدا– تكرار دالة الحقيقة التى يهتدى الشاعر إليها من خلال حبيبته التى هى الوطن والتى هى –أيضا– جماعته الشعبية صاحبة الحكمة العريقة الممتدة عبر العصور: "ربيع الحياة المزهزه/ بينده اجى لك/ واحل عيون واسعة لامعه ببريق الحقيقة" إلى أن يقول "أعيش لأجل احبك/ وانا شيخ طريقة".
وإذا كان مما يوصف به الفعل المضارع دلالته على التجدد والاستمرار فقد كان من الموفق تماما أن يقول الشاعر "أعيش لاجل احبك" بدلا من "أعيش لاجل حبك" ليناسب –أيضا– فعل المجاهدة التى يتطلبها الارتقاء الصوفى. على أننا نتعامل مع الحب –هنا– بوصفه قيمة مطلقة تنعكس على الوجود بأسره بناسه وكائناته وأشيائه: "أنا شايفك فى خلانى/ وعارفك شمس أكوانى/ شفايفك تجلى أحزانى/ وحضنك أمنى وأمانى" وهى صورة ليست من قبيل المبالغات الشعرية المعهودة لكنها تمثل بالنسبة للشاعر مايشبه العقيدة التى تملأ عليه حياته وتوجه خطواته وتؤطر رؤيته للوجود. وفى نماذج أخرى يستثمر الشاعر ما هو مأثور عن ارتباط الحب بالجنون أو تغييب العقل طبقا للثنائية الشهيرة التى تناقض بين العقل والعاطفة: "عقله عاش مجنون هواك/ راح يحاصرك/ وف سبع سموات فضاك".
وتنعكس هذه العاطفة على علاقة الشاعر بالأرض حين يشبه نفسه بفلاح يقلب فيها ويبذر زرعها بيديه وهى علاقة وجدانية حسية تبدو الأرض فيها أقرب إلى المعشوقة "وأفرح بك/ واكون صاحبك/ واكون للأرض دى فلاح/ اقلب فيها بمزاجى/ وأبدر زرعها بايدى". إن ما سبق يجعلنا نقول – باطمئنان– إن الشاعر لا يتعامل مع القضايا الكبرى بصورة مجردة عقلية أو مجرد خلال وضعية المثقف التنظيرى بل يتعامل معها تعاملا وجدانيا باعتباره واحدا من الجماعة الشعبية التى يكتب لها تحديدا كل ما هنالك أنه يستشرف آلامها ويحلم بمستقبل مغاير ويشتاق لواقع مختلف أى أنه ينتقل من "الوعى الممكن" إلى رؤية العالم طبقا لمصطلحات لوسيان جولدمان حين يقول "أنا واحد منكو واخدنى الشوق لبعيد/ رغم ان عينى ضعيفة/ وحصار الزحمة على شديد/ باسمع زقزقة العصافير/ وهى لسه فى قلب البيض" هذا الانتماء للجماعة الشعبية يجعل الحس الاجتماعى شديد الوضوح "وباحس الرجلين الحافية/ تبعتر فى العافية/ وتلم الخير" أو قوله فى نهاية قصيدة "موال الدهشة": "وبرغم الصعب ف سوق العملة/ الناس بتعيش/ بتحب وتحلم برغيف العيش.
والانتماء للجماعة الشعبية لايعنى فحسب تبنى قضاياهم والتعبير عن آلامهم بل يعنى –وهذا هو الأساس لأى شاعر– تبنى لغتهم وتوظيفها كما يبدو فى هذه التعبيرات الشعبية الشائعة " الأشيا المعدن تتحقق "أو قوله" غداك كله من ملحى ومن عيشى "أو توظيف الأساطير الشعبية حول عالم الجن كما فى قوله "والاقيك قوام جيتى/ واحسك فى جنيه تخاوينى/ لسابع أرض تجذبنى/ وتسعدنى حلاوتها " وتوظيف اللعب الشعبى بالتراكيب اللغوية وما تحمله –أحيانا– من حس ساخر كما فى قوله "مين اللى يقدر يقوم م النوم/ أو حتى ينام م القوم "أو" لو الأيام تهدينى/ لو الأيام هتدينى/ هاشيلك جوه نور عينى "أو قوله "حرام حبك على عينى/ حرام عينى على حبك "
ولاشك أن هذا التوظيف للتعبيرات الشعبية وما يصاحبها من قيم ومعارف ناتج عن استحضار المتلقى ومحاولة التأثير عليه؛ مما يؤكد آلية الإنشاد ويبرز سمات النص الشفاهى الذى يعتمد أيضا على توظيف الجناس فى مثل قوله "واحنا هنا آخر هنا "أو" احنا ابتدينا صح/ ونهينا غلط/ واحنا اللى قرقشنا الزلط" أو توظيف السخرية القائمة على ضرب أفق التوقع فمن الطبيعى –مثلا– أن يأتى السلام بالخير لكن الشاعر يصوره على هذا النحو"... السلام/ زاحف أكيد/ ع المنطقه/ زى الجراد والأوبئه".
وأخيرا يمكن أن أشير إلى ملمحين أساسيين من ملامح هذا الديوان الملمح الأول هو الهجاء السياسى الحاد وما يصاحبه من تحريض على رفض الواقع والتمرد عليه. ويظهر ذلك فى قصيدة "درة" المكتوبة عن محمد الدرة الذى قتله الصهاينة فى حضن أبيه: إلحقنى يابا/ حوش وحوش/ انجدنى من غدر الوحوش/ الناب وغول القهر واستعمار جيوش" أو قوله "قلب اليهود/ مليان جرب/ نتن هرب/ وضحك على كل العرب" والملمح الثانى هو التأكيد على ثبات جوهر السلطة المستبدة مهما تغيرت الوجوه والأسماء على نحو يوحى بثبات حقيقة دولة الاستبداد الشرقى "يحصل فى كل الدنيا / تغيير كل حاجة/ إلا هنا/ إن نام غضنفر/ قام غضنفر مننا/ نفس الجينات/ هى هى فى دمنا/ نفس الجينات المستكينة الخائنة" حقا فلا شىء يصنع الحاكم المستبد أكثر من هذه الجينات المستكينة الخائنة. وهذا ما يكشف عنه الشاعر بوضوح فى هذا الديوان وفى غيره من الدواوين السابقة.
الهوامش
"الثقافة الجماهيرية والحداثة فى مصر" وولتر أرمبرست، ت محمد الشرقاوى ص 49الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012
السابق ص50
" مستويات الحرية فى قصيدة العامية صلاح جاهين نموذجا " وليد منير فصول ص93المجلد الحادى عشر العدد الأول 1992
" ويحصل " يسرى العزب ص6كتاب ن 2012